قطار العمر
سعيد عبد طاهر
سنينٌ مرت واعوامً طوال .. حر وبرد, شتاء وصيف, كوارث وحروب, موت في غير موعده, ظلم وطغيان, قتلٌ وغدر, ولا زال القطار يصرخ وصرير عجلاته تدوي في الليل والنهار غير آبهٍ بمشاعر الآخرين.
لم يبقى للمحطة التي أنزلُ فيها إلا القليل, فقد مضى الكثير, حلمٌ طويلٌ والناسُ نيّام.
نزلتُ من رحم أمّي عرياناً, حتى من ورقة التوت, والتف النسوة رفيقات أمّي وهنّ يزغردنَ وأنا أبكي وأصرخ متمنّياً العودة, ولكن هيهات ..
فقد جئتُ إلى الحياةِ رغم أنفي, ولم اكن ارغب فيها .. ولم تجد أمّي قطعة قماشٍ تلفّني بها, فعمدت إلى ثوبٍ قديمٍ لديها, جعلت منهُ خرقةً لفّتني بها .. خوفاً عليّ من بَرد الشتاء وحرارة الصيف, ورحتُ ازحفُ نحو الحياةِ بحذرٍ شديد, طفلٌ العبُ مع الأطفال, حافي القدمين ممزقُ الثياب, إلا ما يستر عورتي .. ورحتُ اشقُّ الحياةَ بقوة .. يُزعجني صوتُ القطار وهو يصرخُ بألمٍ وكأنهُ يحسُ بآلامي وعذابي .. محطاتٌ كثيرةٌ يقف عندها .. ينزلُ إناسٌ ويركبُ آخرين .. ينزلون عُراةٌ ويصعدُ غيرهم كذلك ..
لا تستر اجسادهم إلا قطعة قماش بيضاء اعدت لهم, ويطول الليل .. ومهما طال فهو كالحُلم في ليلة صيف, ليس له طعمٌ ولا لون ..
عذبتني السنين, ولعبت بي الأيّام, ولم أحصل في حياتي على ما أريد .. لا زوجة, ولا اولاد, ولا بيتٌ يأويني .. عشتُ فقيراً, وسوف أموتُ كذلك .. غير أسفٌ على فراقِ هذه الدُنيا ..
سافرتُ كثيراً, عبرتُ الدول والقارات, وتعرفتُ على وجوهٍ لم آلفها في حياتي .. وهأنذا اسمع صوت القطار مرّة اخرى .. وهو يعوي ويصرخ مذكراً إيّاي بقرب النزول ..
جاءني صديقي يوماً, يقولُ لي .. لقد ازعجتني بآلامك وأحزانك, وسوف أتركك واذهبُ بعيداً عنك.
أتريد أن تتركني يا صديقي ؟
اذهب .. كما ذهب غيرك, ودعني ألعقُ جراحاتي بسكون .. خوفاً من الشامت المجهول, واعلم ان ألمي لا يحسُ به غيري ...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
سعيد عبد طاهر
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat