أبدأ مقالتي من حادثة رواها لي احد كبار السن القرويين ، وقد كنت وقتها في مقتبل العمر ، تتعلق الحادثة بهذا الرجل المسن عندما كان شابا ، وعند وقوع الحادثة لهذا الرجل القروي كنت انا غائبا عن الدنيا ، يتكلم الرجل عن الحادثة بهدف النقد الذاتي ، ونقد المفاهيم التي كان يحملها عن معنى الرجولة والشجاعة ، يتحدث الرجل عن هذه المفاهيم ويقول وننقل حديثه بتصرف ، كنا نفهم الرجولة والشجاعة بمفهوم غير المفاهيم السائدة اليوم ، الرجولة والشجاعة في ايام شبابنا تعني ، ان نخرج ليلا لنسرق ممتلكات ومقتنيات الاخرين ، فمن لم يخرج في الليل لغرض السرقة فهذا الرجل جبان وغير شجاع ولا يستحق الاحترام ، وحتى ابناء السلف او العشيرة ، لا يزوجوه من نسائهم لعدم توفر صفات الرجولة فيه ، واذا عدنا الى تأريخية هذا المفهوم ، لوجدنا انه من المفاهيم التي كانت سائدة ايام الجاهلية ، وهي الفترة التي سبقت مجئ الاسلام على يد نبي الرحمة والانسانية محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين وسلم .
الملفت للانتباه ، بقاء هذا المفهوم حيا عند بعض العرب رغم مضي هذه السنين الطويلة وهذا يعني عدة امور منها ، ان هؤلاء لم يفهموا الاسلام بما هو الاسلام الذي يريده الله تعالى ، والامر الاخر ان بعض هذه المفاهيم العشائرية هي الاقوى في التأثير على السلوك عند بعض العشلئر من المفاهيم الاسلامية ، اضافة الى ان شيوع بعض) المفاهيم البدوية ( كما يسميها الدكتور على الوردي رحمه الله تعالى بشكل اقوى من المفاهيم الاسلامية ، دليل على ان الحكومات التي حكمت من بعد الخلافة الراشدية ، هي حكومات قبلية عشائرية اتخذت من الاسلام غطاء فحسب ، وبقيت هذه المفاهيم من دون ان يعترض عليها احد ، وفي هذا دليل على غياب الوعي السليم لدى الجماهير من جهة ، وعلى شيوع روح الاستسلام عند الجماهير لهذه الحكومات المتزينة بالاسلام من جهة اخرى .
من الطبيعي ان يحمل هذا الرجل القروي ، وكل انسان مفاهيم البيئة التي يعيش فيها صحيحة كانت او خطأ ، ويتحدد السلوك وفق هذه المفاهيم السائدة والمتحكمة ، ومن خلال احداث الرواية التي يحكيها هذا الرجل ، نستطيع معرفة مستوى العلاقة الجدلية بين المفهوم والسلوك على وجه العموم .
يقول هذا الرجل وننقل كلامه بتصرف كما ذكرنا ، جئنا الى الدنيا ووجدنا ان من شيم الرجولة والشجاعة ان نخرج ليلا لغرض السرقة ( نحوف ) ، فسرقة اموال الاخرين والاستيلاء على ممتلكاتهم ليلا هو جزء من الشجاعة في ذلك الزمان ، وهذا المفهوم كان مفهوما سائدا وصحيحا في معايير البيئة التي عاشها ، ومن لا يخرج في الليل ليسرق بقرة او خروفا او أي شئ من الممتلكات الاخرى ، يوصم مثل هذا الرجل بالجبن ، ويُحتقر بين اقرانه ، لأن الاستحواذ على ممتلكات الغير ليلا هو جزء من الرجولة والشجاعة ، ويعتبر هذا السلوك صحيحا وسليما وفق المفاهيم السائدة ، لكن من الشيم والرجولة ايضا ان لا يُسرق بيت اكل منه السارق يوما خبزا وذاق ملحه ، والرجل الذي يسرق البيت الذي اكل خبزه وذاق ملحه يُعد خائنا للخبز والملح .
يروي هذا الرجل العمل الذي قام به كي يثبت به رجولته وشجاعته في منطقته وعشيرته يقول :( خرجت في احد الليالي كالمعتاد عندما نخرج لنقوم بسرقة ممتلكات الاخرين بشرط ان لا تكون السرقة لاحد افراد عشيرتي ، بل يجب ان تكون من عشيرة غريبة ، وصلتُ الى احد البيوت واستطعت سرقة بقرة منه ، فأتيت بها مشيا على الاقدام وسط البساتين قاصدا بيتي ، قبل وصول البيت طلع الفجر عليّ ، تذكرت الصلاة وقلت لنفسي لأصلي الفجر قبل ان تطلع الشمس ، ربطت البقرة المسروقة في احد الاشجار القريبة بواسطة الحبل الذي في رقبتها ، توضأت من احد الانهارالصغيرة وباشرت بأداء صلاة الفجر ، بعد انتهاء الصلاة عدت الى البقرة المسروقة التي اصبحت من ممتلكاتي ، لأواصل السير الى البيت ، وصلت البيت وانتهى كل شئ ، اديت صلاتي ، وفزت بغنيمتي ) ، ينقل الرجل هذا الحدث وهو يتكلم بصيغة الندم ، ويلقي باللوم على مفاهيم عصره وبيئته ، وسوء الفهم لتعاليم الاسلام ، هنا نرى العلاقة الجدلية بين المفهوم وبين السلوك ، ومدى تأثير المفاهيم الخاطئة في صناعة السلوكيات المنحرفة .
من خلال احداث هذه القصة الواقعية تبادر الى ذهني عدة امور ، منها اننا قرأنا في كتب التأريخ عن عمليات الغزو التي يقوم بها البدو في المجتمع ماقبل الاسلام ( الجاهلي ) ، اذ تقوم القبيلة الغازية بالاغارة على قبيلة اخرى ، فأنْ سيطرت عليها يصبح كل شئ مباحا للقبيلة الغازية ، النساء تسبى وتساق جواري ، الاطفال يساقون غلمانا او عبيدا ، الرجال يقتلون او يساقون اسرى ، كل هذا يجري تحت عنوان الشجاعة ، فيصبح كل ما عند القبيلة المغزوة من ممتلكات ملكا للقبيلة الغازية ، يتقاسمه رجالها ،هذا العدوان الصارخ اللاانساني يعد بطولة وشجاعة حسب مفاهيم ذلك الزمان .
الامر الاخر الذي يتبادر الى الذهن هو ان الاسلام عندما جاء الى الناس رحمة (( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين )) دعى للابقاء على المفاهيم السليمة ، وحارب المفاهيم التي توحي بالظلم والتعسف ، وتنتج السلوك المنحرف ، ومنها عادة الغزو والعدوان والسرقة والاستيلاء على اموال الغير ، لكن هذه المفاهيم غير السليمة المتأصلة في النفوس لسنين طويلة ليس من السهولة قلعها من الجذور بين ليلة وضحاها ، اذ بقيت في النفوس وان اختفت مظاهرها ، لذا فأنها تتنفس وتعود الى الحياة بمجرد ان تتاح لها الظروف المناسبة ، واحسن الظروف لها عندما انحرف خط سيرالاسلام الطبيعي ، بعد ان استلم مسؤوليته اناس هم اصلا لم يتحرروا من امراضهم الجاهلية ، واقصد الحكام الامويين ابتداء من معاوية ، وبقي هذا الانحراف متسلسلا الى يومنا هذا ، فعندما نرى مثل هذه المفاهيم الشاذة التي يرفضها الاسلام الاصيل ، لا نستغرب لأن من تولى امر الاسلام كل هذه السنين الطويلة اناس هم اصلا لم ينصهروا في بودقة المفاهيم الاسلامية الاصيلة .
من الامور التي تلفت الانتباه وتتبادر الى الذهن ايضا ، ان نفوس هؤلاء الحكام الذين تولوا امر الاسلام والمسلمين لا زالت ملوثة بالمفاهيم الجاهلية التي رفضها الاسلام والذين فهموا الجهاد الذي هو واجب في الاسلام ، بغير المعنى الذي اراده الله والرسول فهموه بالمعنى الجاهلي ، أي انطلق المفهوم عندهم من قاعدة خلفياتهم الجاهلية التي لم يتحرروا منها ، وبما ان هناك علاقة جدلية بين المفهوم والسلوك ، جاء جهادهم بصورة لا تختلف كثيرا عن الغزو في الجاهلية ، اذ استغلوا الدين ومفاهيمة الاصيلة استغلالا سيئا ومنحرفا .
الجهاد في الاسلام ليس العدوان على الاخرين المختلفين في الفكر اوالدين اوالمذهب، مثل ما يدعي ويفهم السلفيون المتخلفون ، وتفهمه منظمة القاعدة اليوم التي تسير بهدي الفكر والمفاهيم السلفية المتحجرة ، بل الجهاد هوالدفاع عن النفس والدين والوطن من عدوان خارجي ، وهو جهادان ، الاكبر الذي تتحرر فيه النفس من المفاهيم الشاذة والظالمة التي تنتج سلوكا منحرفا ، والجهاد الاصغر ، الذي يعني الدفاع عن الاسلام والمسلمين من العدوان الخارجي ، اذ عندما يقع على المسلمين او الاسلام عدوان خارجي حينها لا بد من الجهاد دفاعا عن الاسلام والمسلمين والوطن ، وليس شرطا ان يكون الجهاد بالسيف ، بل ربما يكون الجهاد بالفكر ، ان كان الهجوم من الطرف الاخر فكريا ، هذا ماتحدده الظروف ، ويوضحه القادة العلماء المتنورون .
لكن للاسف نرى اليوم عناوين للجهاد تسيئ للاسلام والمسلمين ، وتضر بالمجتمع الاسلامي ، وهذه العناوين تخدم اعداء الاسلام ، اذ تحول الجهاد عند البعض الى قتل المسلم الاخر واستباحة دمه ومحارمه وممتلكاته ، يجري هذا بسبب المفاهيم الخاطئة التي يحملها هؤلاء المتخلفون ، فتترك اثرها في سلوكياتهم المنحرفة ، عناوين الجهاد اليوم تصدر وتفهم وتفسر حسب الطلب ، ولوعاظ السلاطين الذين تحركهم دولارات النفط العربي ، الدور الاكبر في تصدير هذه المفاهيم الخاطئة عن الجهاد ، ومفاهيم الحكام ووعاظهم هذه قد تُوحى اليهم بطريقة من الطرق من دوائر المخابرات الصهيونية والامريكية المعادية للاسلام والمسلمين ، المهم استطاعت هذه الدوائر تحويل مفهوم الجهاد عند السلفيين من الوهابيين والقاعدة ، الى قتل المسلم الاخر واستباحة دمه وعرضه وممتلكاته ، وفي هذا انتصار كبير للصهيونية العالمية .
السلوك العدواني الذي بسببه تُقتل نفوس بريئة ، او يُستحوذ على الممتلكات الخاصة او المال العام بعنوان الغنائم ، سلوك جاهلي حاربه الاسلام ، هذا الدين الذي اراد للمسلمين ان يكونوا عونا للمظلوم ، وليس انصارا للظالم (( انصر اخاك ظالما او مظلوما ))، تنصر اخاك الظالم بأن تردعه عن ظلمه ، وتنصر اخاك المظلوم بأن تقف الى جانبه وتأخذ حقه ممن ظلمه ، ونفس هذا الشعار كان موجودا قبل الاسلام ولكن بمفهوم اخروهو ما توحي به كلمات هذا الشعار ، من خلال هذه المعطيات نرى انّ اي سلوك ما هو الا افراز لما نحمل من مفاهيم ، تصوروا بعد المئات من السنين على بزوغ فجر الاسلام ، لا زالت هناك ثقافة متداولة تقوم على العدوان والقتل واقصاء الاخر المختلف ويجري هذا باسم الدين .
ارى ان هذه الثقافة العدوانية التي تشوه صورة الدين الحقيقية ، لم تنتهِ من المجتمع الاسلامي بعد ، وذلك بسبب انحراف الطبقة الحاكمة التي استولت على الحكم بطريق غير شرعي ، وهي لا زالت تحمل مفاهيم المجتمع البدوي والقبلي ، وبدأ الانحراف بشكل رسمي في المجتمع الاسلامي منذ سيطرة الامويين على كرسي الخلافة الاسلامية واستمر هذا الانحراف في النمو حتى وصل الى عصرنا الحالي ، عندما استلم السلفيون الحكم في بعض البلدان الاسلامية كآل سعود في الحجاز فهؤلاء ورثة اولئك .
انّ الحكام المتسلسلين في الحكم من عصر معاوية وابنه يزيد ولغاية يومنا هذا لم ينصهروا بثقافة الاسلام النقية الاصيلة ، التي تقوم على العدل والحرية واحترام الانسان ونصرة المظلوم ، وردع الظالم ، بل ورثوا المفاهيم الجاهلية عن آبائهم واجدادهم ، واورثوها لمن بعدهم ، واصبحت الثقافة والمفاهيم التي يطرحونها هي السائدة ، واعطوا مع طبقة الوعاظ التي تحيط بهم صورة سيئة عن الاسلام ، عرضوا الاسلام الى العالم وكأنه دين العنف والقتل والاستيلاء على اموال الغير واقصاء الاخر المختلف ، كل هذه الانتهاكات تجري تحت عنوان الجهاد ، وقد رحبت الدوائر المعادية للاسلام ومنها الدوائر الصهيونية بهذا الطرح للاسلام ، واستقبلته وكأنه هو الاسلام الحقيقي واعترفت به ودعمته ، لان هذا الطرح يصب في خدمة مصالحهم .
بعد هذا الاستطراد لتأريخية المفاهيم المنحرفة ، واثرها على السلوك ، لا نستغرب من قصة هذا القروي الذي يسرق ، وفي نفس الوقت يؤدي صلاته في اوقاتها ، لكن هذا الرجل ادرك خطئه وتغيرت مفاهيمه فتبدل سلوكه ، من هذا نستنج عمق العلاقة الجدلية بين المفهوم والسلوك ، عليه ندعو التربويين الذين يطمحون لتغيير سلوك فرد او مجموعة افراد الى تغيير المفاهيم اولا ، لان السلوك هو انعكاس للمفهوم . |