صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

الأئمة مختلف الملائكة!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
قال الإمام السجاد عليه السلام:
مَا يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا؟ فَنَحْنُ وَالله شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَبَيْتُ الرَّحْمَةِ، وَمَعْدِنُ العِلْمِ، وَمُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ (الكافي ج‏1 ص221).
يتحدَّثُ الإمام هنا عن ظلامةٍ وقعت على آل محمدٍ عليهم السلام، والظلامة هي نقمةُ النّاس منهم!
 
ولكن..
عَلامَ تنقم الأمة من شجرة النبوّة؟ لولا نقمَتُهَا على النبيّ صلى الله عليه وآله؟! علام ينقمون من بيتِ الرحمة؟
ألا ينبغي أن يُعَزَّزَ هذا البيتُ ويكرَّم؟ ويُرفَعَ قدرُهُ وشأنُهُ؟ وأهلُهُ معدِنُ العلمِ والتُّقى..
لكنَّ الناس نقموا من أهله! وهم أيضاً: مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ..
 
هو لفظٌ أطلِقَ في رواياتٍ متكثِّرَةٍ على المعصومينَ عليهم السلام.
فما المراد منه؟
 
إنَّ الاختلافَ في اللُّغةِ هو (التردُّد)، وكأنّ المرادَ بهِ هو كثرةُ الزيارة، فكانت الملائكةُ كثيراً ما تزُورُهمْ في حياتِهم، كما لا زالت تزورُ مراقِدَهُم المطهّرة فـ: مَا بَيْنَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (ع) إِلَى السَّمَاءِ مُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ (كامل الزيارات ص114).
 
ههنا محوران:
المحورُ الأول: ما حقيقة اختلاف الملائكة إليهم؟ وما الفضل في ذلك؟ فإنّ الملائكةَ تفرشُ أجنحَتَهَا حتى لطالبِ العلم؟
والمحورُ الثاني: ما قصةُ غلوّ الناسِ بالملائكةِ والنبيينَ والأوصياء الطاهرين؟
 
1. المحور الأول: بماذا تختلف الملائكة؟ وما الفضل في ذلك؟
 
لقد وردَ أنّ بيوتَ الأئمةِ عليهم السلام مهبِطُ الملائكةِ، وأنها تزاحمُهم على نمارقِهم، وتحضرُ موائِدَهُم، وتصافحُهم على فُرشِهم وتطؤها، بل تتعفَّرُ بها، وأنّهم عليهم السلام يوسّدونَ الملائكةَ في منازلهم، وأنّ الملائكةَ تقلبُ أجنحتَها عليهم، وتمرُّ بأجنحتها على رؤوسِ صبيانِهم، وأنّها ألطفُ بصبيانِهم منهم عليهم السلام، وأنَّ ريشَها وفضل زغبِها في بيوتِهم.. وغيره مما دلَّتْ عليه النصوصُ المباركة.
 
ولقائلٍ هنا أنْ يقولَ:
ما الفضلُ في ذلك؟ أما رويتُم: إِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِه‏؟
وأن: مَلَكَ المَوْتِ يَتَصَفَّحُ وُجُوهَ المُؤْمِنِينَ مِنْ عِنْدِ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَات‏؟
 
أما رويتم عن علي عليه السلام قوله:
لِلْمُصَلِّي ثَلَاثُ خِصَالٍ:
1. مَلَائِكَةٌ حَافِّينَ بِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ إِلَى أَعْنَانِ السَّمَاءِ.
2. وَالبِرُّ يَنْتَثِرُ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ
3. وَمَلَكٌ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِه‏ (المحاسن ج1 ص50).
 
الملائكةُ إذاً تحفُّ المؤمنَ المصلي، وتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلمِ، فما هي الخصوصيةُ في الامامِ حتى صارَ مختلفَ الملائكة؟
 
لنا أنْ نجيبَ:
بأنّ نزولَ الملائكةِ ليسَ على منوالٍ واحدٍ، ولا على شكلٍ وصنفٍ فارد، فَمِنْ خصوصياتِ الإمامِ عليه السلام أنّ كلَّ أمرٍ من الله تعالى يهبِطُ من السماءِ الى عالمِ الوجودِ وينزلُ بِه الملكُ إنما يهبطُ به إلى الإمامِ عليه السلام ويعرِضِهُ عليه.
 
يقول الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام:
مَا مِنْ مَلَكٍ يُهْبِطُهُ الله فِي أَمْرٍ إِلَّا بَدَأَ بِالإِمَامِ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مُخْتَلَفَ المَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ (بصائر الدرجات ج‏1 ص95).
 
نَفيٌ يعقبهُ استثناءٌ فيفيدُ الحصرَ، إذ كلُّ أمرٍ ينزلُ من السماءِ يبدأُ نُزُولهُ إلى الإمامِ عليه السلام، فمنهم البَدء إذاً، حيث يعرض عليهم ما يهبط به الملائكة قبل أن يصل لسائر الناس، فتقدَّموا بذلك على الناس في معرفتهم بكلِّ ما يهبط به الملائكة من أمر الله تعالى، فيما جهل الناس ذلك..
 
والملائكة تتنزل اليوم على صاحب الأمر منهم، الولي الغائب الحجة عليه السلام، وقد ورد في زيارتهم عليهم السلام: إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ، وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ.
 
ليسَ الهبوط لمجرد الاطلاع، بل إنَّ الأمرَ يصدر من بيتِ الامام عليه السلام، بعدما ينزل به الملك من السماء.
تقدَّمَ الإمام إذاً على كل الخليقة تَقَدُّمَ الإمام على مأمومه، والمتعلِّم على معلِّمه..
تَقَدُّمَ العالم على الجاهل، والوسيلة على من يحتاجها، والفاضل على المفضول، والسيد على عبيده في الطاعة.
فإن كنا تبعاً لهم لا يكون حينها نزول الملائكة على المصلي منّا كنزولها على الإمام، وهي التي تأتي الإمام لتصلي معه.
 
يقول أبو عبد الله الصادق عليه السلام: وَتَأْتِيَنَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتُصَلِّيَهَا مَعَنَا.
وَمَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَيْنَا وَلَا لَيْلٍ إِلَّا وَأَخْبَارُ الأَرْضِ عِنْدَنَا، وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا، وَمَا مِنْ مَلِكٍ يَمُوتُ فِي الأَرْضِ وَيَقُومُ غَيْرُهُ إِلَّا وَتَأْتِينَا بِخَبَرِهِ، وَكَيْفَ كَانَ سِيرَتُهُ فِي الدُّنْيَا.
 
أخبار الأرض كلها عندهم.. فمَن يُقرَنُ بهم؟ ومن يسمو لمنزلتهم؟
تصلي الملائكة معهم.. وقد صلت من قبلُ خلف رسول الله صلى الله عليه وآله عندما عرج به إلى السماء، فقدَّمه جبرائيل للصلاة بهم بعد أن طال شوقهم إليه، يقول صلى الله عليه وآله:
 
فَصَلَّيْتُ بِسَبْعِينَ صَفّاً.. الصَّفُّ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ.
سَلَّمَ الملائكة على النبي بعد صلاته بهم، وأظهروا أنَّ لهم حاجة، يقول صلى الله عليه وآله:
قُلْتُ: مَا حَاجَتُكُمْ (يَا) مَلَائِكَةَ رَبِّي؟
قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الأَرْضِ فَأَقْرِئْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنَّا السَّلَامَ، وَأَعْلِمْهُ بِأَنْ قَدْ طَالَ شَوْقُنَا إِلَيْه!
 
هكذا تشتاق الملائكة للنبيّ والإمام عليه السلام، فتتنزَّل إليهم وتصلي معهم..
وكيف لا تشتاق لمن تعلمت منهم التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟
 
ألم تقل الملائكة لهم عليهم السلام:
كُنَّا نَمُرُّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُهَلِّلُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتُمَجِّدُونَ وَتُقَدِّسُونَ، فَنُسَبِّحُ وَنُقَدِّسُ وَنُمَجِّدُ وَنُكَبِّرُ وَنُهَلِّل‏ بِتَسْبِيحِكُمْ وَتَحْمِيدِكُمْ وَتَهْلِيلِكُمْ وَتَكْبِيرِكُمْ وَتَقْدِيسِكُمْ وَتَمْجِيدِكُمْ، فَمَا نَزَلَ مِنَ الله فَإِلَيْكُمْ، وَمَا صَعِدَ إِلَى الله فَمِنْ عِنْدِكُمْ (تفسير فرات الكوفي ص373).
 
لقد رسخت ولاية المعصومين عليهم السلام في قلوب الملائكة، فشكوا الله تعالى لفراقهم، فأراهم نبيه صلى الله عليه وآله في السماء، وخلق لهم ملكاً في صورة عليٍّ عليه السلام: وَأَقْعَدَهُ عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعٍ بِالدُّرِّ وَالجَوَاهِرِ.
 
لقد أنزل الله علياً الى الأرضِ، لكنّ الناسَ ما اتبعوه، وما قبلوه ولا اشتاقوا إليه، إلا الشيعة الأبرار.
أمّا الملائكة فإنَّهم لشدةِ شوقِهم إليه طلبوا من الله حَلاً لشوقهم، فخلقَ الله لهم على صورةِ عليٍ عليه السلام ملكاً.
 
هي صورةُ لعليٍ في السماء يأنسُ بها هؤلاء الملائكة، ونحنُ نأنسُ بصورة عليٍ عليه السلام المزروعة في قلوبنا، إذ لم نر صورةً له بأبصارنا.
 
وإذا كان هذا مقدار فضلهم على الملائكة، ومقدار شوق الملائكة لهم.. لم يكن غريباً أن يسأل كلُّ ملك من ملائكة الرحمن ربه أن يأذن له في زيارة قبورهم..
 
فعن الصادق عليه السلام:
مَا خَلَقَ الله خَلْقاً أَكْثَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ مَسَاءٍ سَبْعُونَ الفَ مَلَكٍ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ الحَرَامِ لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ انْصَرَفُوا إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ (ص)، فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتُونَ قَبْرَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع) فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتُونَ قَبْرَ الحُسَيْنِ (ع) فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْرُجُونَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ سَبْعُونَ الفَ مَلَكٍ.. (كامل الزيارات ص114).
 
الأمر لا يقتصر على عددٍ مُحَدَّدٍ من الملائكة، بل يشمل جميع الملائكة المقرَّبين، والأنبياء المرسلين، فعنه عليه السلام:
فَلَيْسَ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْأَلُ الله تَعَالَى أَنْ يَزُورَ الحُسَيْنَ (ع) فَفَوْجٌ يَهْبِطُ وَفَوْجٌ يَصْعَدُ. (كامل الزيارات ص115).
 
وقد بوركت البقاع التي حلوا بها، كما قال الرضا عليه السلام: إِنَّ بِخُرَاسَانَ لَبُقْعَةً يَأْتِي عَلَيْهَا زَمَانٌ تَصِيرُ مُخْتَلَفَ المَلَائِكَةِ، فَلَا يَزَالُ فَوْجٌ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَفَوْجٌ يَصْعَدُ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّور (الأمالي للصدوق ص63).
 
2. ما قصة غلوّ الناس بالملائكة والنبيين والأوصياء الطاهرين؟
لقد اتخذ اليهودُ عزيراً ابناً لله، وغالى النصارى في عيسى عليه السلام فجعلوه ابن الله بل جعلوه الله، وتبعهم الغلاة في علي عليه السلام.
هذه أنواع الغلوّ المشهورة.
 
لكن القرآن الكريم يحدثنا عن غلوٍّ آخر: هو غُلوٌّ في ملائكة الله تعالى!
قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 80).
لقد ذكر في تفسير الآية أنّه: كان قومٌ يعبدون الملائكة، وقومٌ من النصارى زعموا أنّ عيسى رب‏، واليهود قالوا عزير ابن الله (تفسير القمي ج1 ص106).
 
لكن الله تعالى قال: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ (الإسراء40).
لقد نَزَّهَت الآيةُ المباركة الباري تعالى عن اتخاذِ الأنثى، وعن أنْ يكونَ الملائكةُ بنات الله.
 
وقد قال تعالى في آياتٍ أخرى:
﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 15-19).
 
كيف جعلوا لله من عباده جزءاً؟
لَعَلَّهم لمّا قالوا بأن الملائكة بنات الله، وكانت البنت كالولد بضعة من الوالد، صاروا كمن جعل لله من عباده جزءً.
 
ولعل الأقرب هو أن (الجزء) هنا لا يُراد منه (بعض الشيء)، بل يراد منه (البنت)، ففي كتب اللغة: وأجْزَأَتِ المَرْأةُ: إذا وَلَدَتْ بِنْتاً. والبِنْتُ عِنْدَهم: الجُزْءُ، قال الله عَزَّ ذِكْرُه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً (المحيط في اللغة ج‏7 ص153).
فيكون المراد من الاية ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ أي جعلوا له من عبادِه بنتاً أو بنات.
 
وههنا قد ينقدح في بال قارئ الآيات الكريمة تساؤلٌ:
 
لماذا قال الناس بربوبية الملائكة؟
لقد رأى الناسُ عزيراً وعيسى وعليٍّ عليه السلام، رأوا منهم ما يُبهرُ العقولَ، كراماتٍ ومعجزاتٍ خارقة للعادة، فجعلوهم أرباباً من دون الله، لكنّ الملائكةَ لم يظهروا للناس حتى يجعلونهم أرباباً.
 
ولقد جَرَتْ عادة المغالين على تأليه من يرون الكراماتِ على يديه، فلماذا صارَتْ الملائكةُ آلهةً تعبدُ عندَهم؟
لعل السببَ في ذلك هو أنّ للملائكةِ خصالاً تُطِيحُ بالألباب!
 
فإن: مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، وَالمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ العُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ! وَالخَارِجَةُ مِنَ الأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ! وَالمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ العَرْشِ أَكْتَافُهُمْ!
 
أي معنىً هو هذا؟! أي عقلٍ من عقولنا يتصورُ وجوداً كهذا الوجود للملائكة؟ وهو صنفٌ من أصنافِهم المتكثِّرة.
لم يشاهد الناس هؤلاء الملائكة، لكن لربما سمعوا من الأنبياء المتقدمين شيئاً في وصفهم، فلم يخف خبرهم عليهم وإن لمْ يرَوهم.
 
ولطالما ذَكَرَ أنبياء الله تعالى ملائكةَ الرحمان العظام، الذين ينزلون بالوحي من السماء، والذين يدبرون أمر العباد والبلاد، والذين يقبضون الأرواح، وملائكة الجنة والنار.. وغيرهم..
 
عَظُم ذلك على فئامٍ من الناس فقالوا بربوبيتهم تارة، وبأنهم بنات الله تارة أخرى..
ألم يصفِ الإمامُ الملائكةَ بأوصافٍ في غايةِ الجلالِ والاكرام؟ فقال:
مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ، لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلَابَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ المَنُونِ:
 
ليس لهؤلاء الملائكة صفات البشر.. لا يسكنون الأصلاب ولا تحويهم الأرحام ولا يتوالدون كالناس من ماءٍ مهين، ولا يلاحقهم الموت ملاحقة ابن آدم في كل أنفاسه.. ألهذا جعلوهم آلهة؟
 
رغم مقامهم الشريف هذا، فإنهم:
لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِك‏!
لقد عرف الملائكة أنهم لم يعبدوا الله حق عبادته، وأقرّوا بذلك..
 
عرفوا قدرهم وأنهم عبادٌ مكرمون.. وأن الله هو الإله القوي العظيم القادر الحكيم، فتبرؤوا ممن يغالي بهم ويعبدهم، وستظهر هذه البراءة يوم القيامة: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ (سبأ41).
 
هو احتجاجٌ ليتبرأ الملائكة كما تبرأ عيسى ممن عبده.. فلم يرضوا بأفعالهم..
فإذا كان هذا حال بعض الناس الذين عرفوا شيئاً من شأن الملائكة، فما حالهم لو علموا أنّ الله قد أمر هؤلاء الملائكة العظام بالسجود لآدم، إكراماً لمن في صلبه.. ورفعاً لعظيم منزلته.. وهم محمد وآله عليهم السلام!
 
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ﴾ (البقرة34).
 
لقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، لكنَّ غرض السجود هو من أودع الله فيه من أنوار.. فإنَّهم لما كانوا أنوار أشباح نقلهم تعالى من أشرف بقاع عرشه إلى ظهر آدم، وقال لآدم: وَلِذَلِكَ أَمَرْتُ المَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَكَ إِذْ كُنْتَ وِعَاءً لِتِلْكَ الأَشْبَاح‏.
 
ولما صار آدمُ وعاءً لهم صار في مرتبةٍ أُمِرَ الملائكة بالسجود له: ﴿فَسَجَدَ المَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ (الحجر30).
وقد جمع الله تعالى في الآية اللفظين معاً: (كلهم) و(أجمعون)، مع أنَّ لفظاً واحداً يكفي للدلالة على الشمول للجميع! لكنَّه تأكيد لا استثناء فيه على الإطلاق.
 
هذا حال الملائكة.. ومقدار خضوعهم للنبيّ والآل.. وحال من غالى فيهم فعبدهم وجعلهم بنات لله..
وهذا حال المسجود لأجله تكريماً.. محمد وآله..
لقد أشفق النبي وآله على الملائكة لما رأت الملائكة عظيم أمرهم، فسبحوا الله ليعلم الملائكة أنهم مخلوقون وأنهم ليسوا أرباباً!
 
يقول الإمام الرضا عليه السلام:
ثُمَّ خَلَقَ المَلَائِكَةَ فَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمَتْ أَمْرَنَا: في مرحلة خلق الملائكة وهي مرحلة متأخرة في عوالم الوجود، استعظمت الملائكة أمرهم، فظهرت شفقة النبيِّ وآله على الملائكة، عندما خافوا أن يلتبس الأمر على الملائكة، فأظهروا عبوديتهم لله تعالى.
 
يقول عليه السلام:
فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ المَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا.
فَلَمَّا شَاهَدُوا عِظَمَ شَأْنِنَا هَلَّلْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّا عَبِيدٌ وَلَسْنَا بِآلِهَةٍ يَجِبُ أَنْ نُعْبَدَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ، فَقَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏1 ص263).
 
وهكذا يشفقُ الأطهار على سائر الخلق، فيظهرون ما يدفع شبهات المغالين في هذه النشأة، وينبِّهون الناس على أنهم عبادٌ مربوبون، ويُحّذِّرون من سلوك الطريق الأعوج في الاعتقاد بهم، ثمَّ يَبرَؤُون ممّن سلكه.
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ وَلَا ذَنْبَ لِي: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَمُبْغِضٌ مُفَرِّطٌ، وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّنْ يَغْلُو فِينَا وَيَرْفَعُنَا فَوْقَ حَدِّنَا كَبَرَاءَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (ع) مِنَ النَّصَارَى (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏2 ص201).
 
ومِن نماذج المغالات التي يبرأ منها الإمام:
1. مَنِ ادَّعَى لِلْأَنْبِيَاءِ رُبُوبِيَّةً.
2. وَادَّعَى لِلْأَئِمَّةِ رُبُوبِيَّةً أَوْ نُبُوَّةً.
3. أَوْ لِغَيْرِ الأَئِمَّةِ إِمَامَةً.
فَنَحْنُ مِنْهُ بُرَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة (المصدر).
 
كلُّ من يزعم أنّه نبيٌّ، أو أنّ هناك نبياً بعد نبينا بأيِّ نحوٍ من أنحاء النبوة، فهو منحرف عن جادة الصواب، سواء كان اسمه (ابن عربي) أو ابن عجمي.
وكلُّ من نصب إماماً سوى من نصبهم الله هو على حَدِّ مَن ادعى للأئمة الربوبية! فكلاهما في مخالفة أمر السماء سواء.
 
إنهم على عظمتهم عبادُ الله تعالى.. وقد قال أفضلهم وخيرهم صلى الله عليه وآله: لَا تَرْفَعُونِي فَوْقَ حَقِّي، فَإِنَّ الله تَبَارَكَ تَعَالَى اتَّخَذَنِي عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيّاً (المصدر).
 
هي العبودية إذاً.. التي تستبطن كلَّ فرق بين الإله القدير.. وعبده الفقير.
النبيُّ على عظمته فقير الى الله، وكلنا الى الله فقراء، كلُّ خلقه تعالى اليه فقير، وإن كنا نحتاج الى النبي بعد أن أغناه الله، وهو لا يحتاج الينا لاستغنائه بالله سبحانه وتعالى.
 
يبرأ النبيّ وآله من الغلو، وبعضنا اليوم صار يغالي فيهم، أو فيمن سواهم، فيرفعه إلى مرتبتهم، أو إلى مرتبة الله تعالى، تحت مسميات العرفان تارة.. والسير والسلوك أخرى.. وطي مراتب القرب ثالثة.. والغوص في سبحات الجلال رابعة.. وخامسة وسادسة..
 
تتكثر الألفاظ وتُزَخرَف وتُزَيَّن ويُلَبَّسُ فيها على عموم الناس..
وقد يغالي بعضهم باتخاذ الزعيم والقائد وكبير العشيرة وغيرهم أئمة كالإمام.. ينزلونهم منزلة المعصوم فيصبح قولهم قول الله.. أو يتعصَّبون لهم تعصباً يخرجهم من الحق إلى الباطل.
 
عندما نعتقد في قائدٍ أو رئيسٍ أنه في منزلة المعصوم، وأنّه منزّه عن الخطأ على الاطلاق، فقد جعلناه إماماً مع الإمام، فيبرأ حينها منا إمامنا..
 
يختصر القرآن الكريم الجواب بقوله عز وجل: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾.
 
اللهم انّا نبرأ اليك من كل اسمٍ ما أنزلت به من سلطان، اللهم انّا لا نوالي إلا أئمتنا الاثني عشر، وكل من رفع غيرهم الى مرتبتهم فنحن منه براء، مهما كان لونه وشكله وعلمه ومبلغه.
 
اللهم انّا نسألك حسن العاقبة.
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/02/10



كتابة تعليق لموضوع : الأئمة مختلف الملائكة!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net