ذل و ذللا و ذلولا في القرآن الكريم (ح 3)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تكملة للحلقات السابقات قال الله سبحانه وتعالى عن الذل ومشتقاتها "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" ﴿الإسراء 111﴾ ليس ذليلا حتى يحتاج لمن ينصره، و "وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ" ﴿طه 134﴾ نذل فعل اي نهان، و "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ" ﴿النمل 34﴾ اذلة صفة، قالت محذرةً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة، ومبيِّنة لهم سوء مغبَّة القتال: إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قريةً عنوةً وقهرًا خرَّبوها وصيَّروا أعزَّة أهلها أذلة، وقتلوا وأسروا، وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على أن يهابوهم، و "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ" ﴿النمل 37﴾، و "وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ" ﴿يس 72﴾ وقال سليمان عليه السلام لرسول أهل سبأ: ارجع إليهم، فوالله لنأتينَّهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها ومقابلتها، ولنخرجنَّهم مِن أرضهم أذلة وهم صاغرون مهانون، إن لم ينقادوا لدين الله وحده، ويتركوا عبادة من سواه. قال الله تبارك وتعالى "وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ۗ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ" ﴿الشورى 45﴾ وترى أيها الرسول هؤلاء الظالمين يُعْرَضون على النار خاضعين متذللين ينظرون إلى النار مِن طرْف ذليل ضعيف من الخوف والهوان، و "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ" ﴿المجادلة 20﴾ الاذلين اي المغلوبين المقهورين، إن الذين يخالفون أمر الله ورسوله، أولئك من جملة الأذلاء المغلوبين المهانين في الدنيا والآخرة، و "يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿المنافقون 8﴾ أذل اسمأ يقول هؤلاء المنافقون: لئن عُدْنا إلى المدينة ليخرجنَّ فريقنا الأعزُّ منها فريق المؤمنين الأذل، ولله تعالى العزة ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين بالله ورسوله لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك؛ لفرط جهلهم، و "خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ" ﴿القلم 43﴾ ذلة اي مهانة وكرب، منكسرة أبصارهم لا يرفعونها، تغشاهم ذلة شديدة مِن عذاب الله، وقد كانوا في الدنيا يُدْعَون إلى الصلاة لله وعبادته، وهم أصحَّاء قادرون عليها فلا يسجدون، تعظُّمًا واستكبارًا، و "خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ" ﴿المعارج 44﴾ ذلة اي مهانة شديدة، يوم يخرجون من القبور مسرعين، كما كانوا في الدنيا يذهبون إلى آلهتهم التي اختلقوها للعبادة مِن دون الله، يهرولون ويسرعون، ذليلة أبصارهم منكسرة إلى الأرض، تغشاهم الحقارة والمهانة، و "وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا" ﴿الانسان 14﴾ ذللت اي سهلت، تذليلا اسم اي تسهيلا، وقريبة منهم أشجار الجنة مظللة عليهم، وسُهِّل لهم أَخْذُ ثمارها تسهيلا.
جاء في معاني القرآن الكريم: ذلل الذل: ما كان عن قهر، يقال: ذل يذل ذلا، والذل، ما كان بعد تصعب، وشماس من غير قهر، يقال: ذل يذل ذلا. وقوله تعالى: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (الاسراء 24)، أي: كن كالمقهور لهما، وقرئ "جَنَاحَ الذُّلِّ" وهي قراءة شاذة، قرأ بها ابن عباس وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، أي: لن وانقد لهما، يقال: الذل والقل، والذلة والقلة، قال تعالى: "تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ " (المعارج 44)، وقال: "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" (البقرة 61)، وقال: "سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ" (الاعراف 152) وذلت الدابة بعد شماس، يقال: شمست الدابة والفرس تشمس شماسا وشموسا، وهي شموس: شردت وجمحت ومنعت ظهرها. ذلا، وهي ذلول، أي: ليست بصعبة، قال تعالى: "لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ" (البقرة 71)، والذل متى كان من جهة الإنسان نفسه لنفسه فمحمود، نحو قوله تعالى: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" (المائدة 54)، وقال: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ " (ال عمران 123)، وقال: "فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا " (النحل 69)، أي: منقادة غير متصعبة، قال تعالى: "وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا" ﴿الانسان 14﴾، أي: سهلت، وقيل: الأمور تجري على أذلالها، أي: مسالكها وطرقها. جاءت كلمة ذل ومشتقاتها في القرآن الكريم: الذِّلَّةُ، ذَلُولٌ، وَتُذِلُّ، أَذِلَّةٌ، وَذِلَّةٌ، ذِلَّةٌ، ذُلُلًا، الذُّلِّ، نَذِلَّ، وَذَلَّلْنَاهَا، الْأَذَلِّينَ، الْأَذَلَّ، ذَلُولًا، وَذُلِّلَتْ، تَذْلِيلًا.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية "وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (المنافقون 8). قال عليه السّلام (المؤمن يكون عزيزا و لا يكون ذليلا، المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول و المؤمن لا يستفلّ من دينه شيء). و في حديث آخر له عليه السّلام قال فيه: (لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه). قيل له: و كيف يذلّ نفسه؟ قال عليه السّلام: (يتعرّض لما لا يطيق). و في حديث ثالث عن الإمام الصادق عليه السّلام جاء فيه: (إنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، و لم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أ لم تر قول اللّه سبحانه و تعالى هاهنا: "وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (المنافقون 8). و المؤمن ينبغي أن يكون عزيزا و لا يكون ذليلا). إنّ التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيرا من صور الإذلال و الامتهان للمجموعة المخالفة للحقّ المعاندة في ضلالها، المكابرة في تمسّكها بالباطل، بالرغم من تقدّم الرسالة الإسلامية و قوّتها و انتصاراتها، كما أنّ فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى و أمرّ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat