صفحة الكاتب : د . فلاح اسماعيل حاجم

نظرة قانونية وحدة السلطة و مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة الفيدرالية
د . فلاح اسماعيل حاجم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

   يدور الحديث هذه الايام, وعلى مختلف الاصعدة, حول نوع العلاقة التي يمكن ان تكون بين السلطات المركزية وسلطة الأقليم في ظل المتغيرات والاحداث التي تعيشها المنطقة، بعد الاحداث التي عصفت في بعض بلدانها والتي باتت (الاحداث) تسمى بالربيع العربي، الذي أريد له أن يضع الدول على طريق الديمقراطية الحقيقية، ليصبح سببا لحالة الاحتراب الداخلي، الذي تعيشه تلك البلدان. ولأن الشكل الفيدرالي للدولة هو احد الحلول المقترحة لتحقيق التعايش السلمي بين المكونات الأثنية (القومية والدينية والطائفية...الخ) فان الحديث عن هذا الشكل للدولة، أي الفيدرالية، بات يثير اهتمام ليس فقط السياسيين والحقوقيين والمهتمين بشأن الدولة، بل وحتى المواطنين العاديين. لذا ارى من الضروري تسليط الضوء على بعض الجوانب الخاصة بالفيدرالية سيما تلك, التي تكتسب اهمية استثنائية في جميع مراحل النقاش.
     ان وحدة السلطة ومبدأ الفصل بين السلطات تتمتع بخصوصية استثنائية وخصوصا في الدول الفيدرالية, وهذا مرتبط, بالدرجة الاساسية, بوجود منظومتين لاجهزة الدولة. فبالاضافة الى المنظومة الهرمية لاجهزة  السلطة الفيدرالية هناك منظومة اخرى لسلطات الاطراف, ربما هي تكرار لتلك الاجهزة ولكن على مستوى اقل من ناحية الضخامة والتركيبة الداخلية وحجم الاختصاصات. وفي جميع الاحوال, فاننا نقف امام خطين متوازيين من اجهزة السلطة في بلد واحد وهذه، دون شك، واحدة من الصفات المميزة للدولة الفيدرالية، التي طالما اصبحت موضع نقاش وجدل ليس فقط  بين المختصين في مجال القانون  الدستوري، بل وبين السياسيين والمواطنين الذين يهمهم مستقبل العراق ووحدة اراضيه. ان الفصل بين الاجهزة الهرمية للسلطة يعني وضع الاجهزة الفيدرالية بالشكل الذي يؤمن لها الاشراف على الاجهزة المماثلة في اطراف الفيدرالية حيث تقوم سلطات الاطراف بالتنازل طوعا (وفي بعض الاحيان تكون مجبرة على ذلك) عن بعض من صلاحياتها لصالح اجهزة السلطات الفيدرالية. ان هذا النوع من ترتيب العلاقات بين السلطات الفيدرالية وسلطات الاطراف (الامارات, الولايات, المقاطعات, الاقاليم...الخ) وجد تجلياته في الاتحادات التي أنشئت بقرارات او مراسيم فوقية، او عن طريق الضم القسري للاراضي. ان الصلاحيات التي يتم التنازل عنها طوعا، او عن طريق الاكراه، لا تعدو كونها ثمناً تدفعه الدولة الضعيفة  والمضطرة في اغلب الاحيان للتنازل عن سيادتها وتخويل سلطات الفيدرالية القيام ببعض اختصاصاتها. وهنا لابد من الاشارة الى ان تلك الاطراف, التي كانت يوما ما تحت مضلة السلطة المركزية للدولة الفيدرالية يمكنها اللجوء السريع الى قطب اخر في حالة ضعف او انهيار قطبها الاول، وهذا ما يمكن ملاحظته في سياسات الجمهوريات السابقة للفيدرالية السوفيتية (الاتحاد السوفيتي) سواءأ الاوربية منها او الاسيوية، التي تسعى في الوقت الراهن للدخول في احلاف عسكرية وسياسية لدول اكثر قوة من الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي (روسيا الفيدرالية).           
     ان التطبيقات العملية لنظرية وحدة السلطة في شكلي الدولة (الفيدرالي و البسيط) تجلت باشكال مختلفة وخضعت لتعديلات في فترات زمنية متباينة. ففي القرون الوسطى (وفي بعض الدول الى يومنا هذا) فهمت تلك الوحدة على انها تمركز للسلطات بأيدي المقام الاسمى في الدولة اي الرئيس، فيما تحولت السلطة الى مؤسسة مقدسة يصنف المساس بها على انه من الكبائر.  وهنا يكمن تبرير وجود الملكيات المطلقة  وخصوصا الثيوقراطية منها والقادة الرموز في الدول الفاشية و الرؤساء مدى الحياة في الجمهوريات الشرق- اوسطية المعاصرة. اما في دول اخرى فقد اختزلت وحدة السلطة في مؤسسة واحدة هي الحزب القائد. وفي تطوير لنظرية وحدة السلطة ربط بعض المفكرين تلك الوحدة بمسألة السيادة الوطنية،  ولان السيادة تعتبر ملكاً مقدسا للشعب يكون من غير الممكن التجاوز عليها وتجزئتها. اما نشاطات اجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية فما هي الأ تطبيقات او تجليات لسلطة الشعب الواحدة. وهنا لابد من الاشارة الى ان الافكار الواردة اعلاه استثمرت من قبل الليبراليين، وان باشكال مختلفة. ففي حين رآى الماركسيون في تلك الوحدة وحدة للشعب العامل  ( ممثلاً بالبروليتاريا) التي لابد ان تقود الدولة من خلال مؤسسات موحدة من القمة الى القاعدة (المجالس-السوفيتات) حيث وجدت هذه الافكار انعكاساتها في شعارات الاحزاب القائدة وبرامجها  اولاً ( كل السلطة للسوفيتات)، ومن ثم في المنظومة القانونية للدولة، مثل الدستور و القوانين والاتفاقيات ومراسيم رئيس الدولة...الخ. ويلاحظ ان هذه الظاهرة لا تقتصر على الدول الاوربية، وخصوصا الشرقية منها، بل وفي دساتير الدول النامية في اسيا و افريقيا وامريكا اللاتينية،  وخصوصا ذات التوجه الاشتراكي، حيث تتضمن الكثير من المواد التي تكرس تلك المفاهيم.                                                                     
      ان تجربة البلدان تؤكد  بأن دمج السلطات له تاثيرات سلبية على اداء اجهزة الدولة، وخصوصا القضائية منها و اجهزة الرقابة  والادعاء العام، اذ سلبت اختصاصات تلك الاجهزة من قبل الاجهزة الحزبية، التي تدير او تشرف على ادارة عمل (المجالس-السوفيتات).                                                                       
     عند الحديث عن  وحدة السلطة لابد من الاشارة الى ان الاخلال بالوحدة الاجتماعية و خصوصا في الدولة الفيدرالية، اي عند سيادة قوى اجتماعية غير متجانسة من النواحي الاقصادية  والسياسية، وحتى من الناحية العقائدية (الدينية)  سيؤدي (الاخلال) الى  خرق التوازن مما يفضي، في اغلب الاحيان، الى مواجهات مسلحة تخلف اثارا سلبية ولفترات طويلة. ويمكن اعتبار الحرب الاهلية في الولايات المتحدة (1861-1865) مثالا لذلك حيث وجد الجنوب العبودي بعلاقاته الاقطاعية والشمال البرجوازي بعلاقاته الرأسمالية نفسيهما في اطار فيدرالي واحد، ولم ينقذهما الدستور الاكثر ديمقراطية في العالم.                    وقد شهدت سنوات السبعينات من القرن الماضي نزاعات دموية على خلفية الفوارق الاجتماعة و الدينية في جمهورية النيجر الفيدرالية حيث اعلنت الولايات الشمالية الشريعة الاسلامية مصدرا للتشريع في دولة متعددة الاثنيات و الاديان. ولا يشذ عن هذه القاعدة  النزاع المسلح بين المركزالفيدرالي واجهزة السلطة لجمهورية الشيشان في روسيا الفيدرالية في تسعينيات القرن الماضي، والذي ما تزال اثاره الكارثية تؤثر، بهذا القدر أو ذاك، على مجمل العلاقات الأثنية في منطقة القوقاز الروسي.                                                                                  
  ان وحدة السلطة في الدولة الفيدرالية و اطرافها تتجلى ايضا في وحدة الاهداف و التوجهات  و التنسيق بين اجهزة الدولة المركزية واجهزة الاطراف،  اذ ان منظومة الاجهزة سواءا الفيدرالية منها او اجهزة الاطراف تنفذ  من حيث المبدأ  واجبات ذات طبيعة واحدة.                                                                       
       ان الاهداف و التوجهات و اشكال نشاط اجهزة السلطة الفيدرالية وسلطات الاطراف لا يمكن ان تكون متطابقة في جميع الاحيان، فالكثير منها يمكن ان تتقاطع وخصوصاً في خضم الصراعات الداخلية منها (صراع الطبقات و الصراع القومي وكذلك صراع الاديان و المذاهب" نيجيريا مثالا")  و الخارجية (صراع الدولة مع بلدان الجوار او صراع القوى الدولية من اجل  مواقع نفوذها الجيو- سياسي "جورجيا والعراق وليبيا واليمن واوكرانيا مثالا"). وبهذا الخصوص لابد من التأكيد على الخلافات ذات الطبيعة الاقتصادية، حين تعمد السلطات المركزية (الفيدرالية) الى محاولة معالجة مشاكلها الاقتصادية على حساب الخيرات الطبيعية للاطراف (النفط و الغاز  والحديد والصلب....الخ) فيما ترى الاطراف في ذلك ابتزازا لها من قبل المركز،  لكن السلطات الفيدرالية ترى فى القانون الاساسي للدولة سندا قويا حيث احال الدستورمسائل مثل التصرف بالموارد الطبيعية ورسم السياسة الاقتصادية للدولة وتوزيع الموارد بين الفيدرالية و اطرافها الى الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية. من هنا وجدت بعض الدول في الاتفاقيات الثنائية حلا لهذه الاشكالية،  حيث تقوم السلطات المركزية بمنح  الاطراف الغنية بعض الامتيازات قياسا بالاطراف الاخرى، مما يعتبر خرقا لواحد من اهم المبادئ في العلاقات، الا وهو مبدأ المساوات في الحقوق و الالتزامات.                            
       ولابد من الاشارة ايضا الى واحدة من الاشكاليات التي طالما كانت سببا للجدل والخلافات بين السلطات المركزية وسلطات الاطراف وهي مسألة احتواء المنظومة القانونية لاطراف الفيدرالية، اي الدستور والتشريعات واللوائح الاخرى على قواعد قانونية مناقضة لقواعد الدستور الفيدرالي، مما يخلق تنازعا للقواعد الدستورية ويؤدي بالنتيجة الى بروز ما يمكن ان نطلق عليه فوضى القوانين.                          
      ان تحليلا بسيطا لتجليات مبدأ الفصل بين السلطات في الظروف المعاصرة ترشدنا الى مداخل نظرية وعملية جديدة لهذا المبدأ من بينها، على سبيل المثال، فكرة توازن السلطات من خلال (منظومة الكبح و الموازنة) اي عن طريق ايجاد آليات تمكن السلطة التشريعية من مراقبة نشاطات السلطة التنفيذية فيما تمنح الاخيرة ممثلة برئيسها استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات السلطة التشريعية في حين تقف السلطة القضائية  كحكم  بين الطرفين. ولم يكتف المشرعون بالسلطات الثلاث المعروفة بل ذهب البعض منهم الى الاشارة الى  سلطة الرقابة المستقلة (مفوض حقوق الانسان في الكثير من الدول او مراقب الدولة وغيرها من التشكيلات المختلفة) وقد ذهب المشرع المصري الى تظمين الدستور فصلا كاملا عن سلطة الصحافة           ( الفصل الثاني- المواد من 206 الى 211).                                                                           
      استنادا الى ما تقدم يمكننا ان نخلص الى نتيجة وهي ان من الضروري تأمين وحدة السلطة في الدولة الفيدرالية وذلك من خلال الفصل الافقي للسلطات (تشريعية- تنفيذية- قضائية) من جهة، ومن جهة اخرى الفصل العمودي وذلك  بتوزيعها الى سلطات مركزية و اخرى للاطراف مع تأمين تنفيذ قرارات السلطات المركزية من قبل الاخيرة في ظل قوانين تضمن مبدأ المساوات بين المركز والاطراف، سيما وان الهدف الرئيسي لاقامة الفيدرالية يكمن في تأمين الحقوق القومية في البلدان متعددة القوميات وتحقيق نوعا من الادارة الذاتية مما يؤمن تطورا ديناميكيا للدولة الفيدرالية ككيان واحد.                                             

                                            
 (م/ هذه المادة معدلة عن مقالة نشرت للكاتب في الصحافة العراقية).                                             
                                                 
                                                  
                                                 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فلاح اسماعيل حاجم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/02/13



كتابة تعليق لموضوع : نظرة قانونية وحدة السلطة و مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة الفيدرالية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net