معضلة التراث ما بين شعارات الأخذ و دعاوى النبذ
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تراث أي أمةٍ يراد به إرثها , و خزينها الثقافي , و الحضاري , و الفكري , و الديني , و الأدبي , و الفني الذي حفظته , و تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل , مفتخرة به , و مستفيدة منه .
ذكر أبن منظور في لسان العرب أن الورث , و الإرث , و الميراث , و التراث , كلها بمعنى واحد , ثم ذكر معنى التراث بأنه : ( ما يخلفه الرجل لورثته ) .
أما في الاصطلاح فقد يراد بالتراث : ( ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة , و ثقافة , و قيم , و آداب , و فنون , و صناعات , و سائر المنجزات الأخرى المعنوية و المادية , و يشمل كذلك على الوحي الإلهي " القرآن و السنة " ... ) .
و قد يراد به : ( ما تركه الأوائل من مؤلفات لغوية , و فروعها , و العلوم الطبية , و الفلكية , و الصناعية , و غيرها , و الأبنية , و القلاع , و الفنون , و الرسوم , و غيرها ) .
أو قد يراد به : ( الخصائص البشرية , و ما يتعلق بها , التي تتناقل من جيل إلى آخر ) .
أما التراث الإنساني فهو : ( ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد , و عادات , و تجارب , و خبرات , و فنون , و علوم , من شعب من الشعوب ... ) .
فالتراث الإنساني هو ما يملكه جميع البشر بلا حدود , , أو قيود , أو معوقات , أو طبقيات , و بلا أي حواجز مصطنعة .
لكن السؤال الدائم و الملح هو : ما هي حقيقة التراث ؟ و ما هي صفاته و ميزاته ؟ , و ما هي حدوده التي يحد بها ؟
( إن التراث في دلالته اللغوية و أستعمالاته الأشتقاقية , هو كل ما له خاصية و قابلية الأنتقال من الماضي إلى الحاضر ... بحيث يشمل أنتقال المعارف و العلوم و الثقافات , ليس الأنتقال الطبيعي الساكن , أو الجامد , بل الأنتقال الذي له دلالات الفعل , و الحضور , و التأثير ) .
و يمكن أن نشير إلى جملة من الكُتاب و المفكرين المعاصرين الذين دعوا إلى قراءة التراث كلٌ بحسبه , و بحسب نظرياته النقدية التي طرحها حول قضية التراث , و من أشهر هؤلاء : ( عبد الله العروي , و محمد عابد الجابري , و محمد أركون , و زكي نجيب محمود , و فهمي جدعان , و حسين مروة , و حسن حنفي , و طيب تيزيني , و طه عبد الرحمن , و جورج طرابيشي ) , و ليس ذكرنا لهؤلاء هو إختزال لرأي غيرهم بشأن التراث , أو للإعتداد بآراءهم و تقديمها على آراء الغير , بل لأن أطرواحاتهم بشأن كيفية قراءة التراث قد أثارت الكثير من الإنتقادات و التساؤلات حولها , و لكونها أكثر الآراء بروزاً على الساحة الفكرية في الوطن العربي .
كيفية قراءة التراث
هناك ثلاثة إتجاهات عامة و رئيسية حول فهم حقيقة و ماهية التراث , و هي كالأتي :
الإتجاه الأول : الداعي إلى الأخذ بكل ما في التراث , و إعتبار كل ما خلفه الماضون تراثاً مفيداً يجب الأخذ بكل ما فيه , بل دعا بالبعض إلى إضفاء صفة القدسية عليه بشخوصه , و تركاته , و بكل ما فيه من هنات و علات , و بلا أي نقاش .
و لابد أن نعلم بأنه ( لا يمكن إدعاء العصمة و الكمال لأي جهد بشري , بأستثناء ما صدر عن وحي إلهي , و تسديد خاص " عصمة " ... ) .
إن القرآن الكريم قد نهى عن الإتباع الأعمى , المؤدي إلى تجميد العقول , من خلال الأخذ بكل ما صدر عن الأسلاف , و تقديسه , و إتباعه .
قال تعالى : ( وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قالَ أَ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) سورة الزخرف ( 23 ـ 24) .
كما و لابد من معرفة حقيقة إن الأصوات الداعية إلى التمسك بالتراث ـ و في أكثرها ـ لا تفهم ماهية التراث بشكل موضوعي , فهي تخلط ما بين ما هو تاريخي , و بين قضايا العادات و التقاليد , و بين الصفات و الطبائع , و بين التراث بما هو تراث , فليس كل شيء جاءنا من الماضيين هو تراث , و ليس كل شيء جاءنا من الماضي يحسن التمسك به .
إن كثيرين يعتقدون أن الأعتناء بالتراث , و المحافظة عليه يتحقق عن طريق تقديس كل ما هو قديم , حتى أصبحت الأفعال المشينة للبعض يُبرر لها , بل يشرعن لها , بل إنها أصبحت سنن متبعة , و ذلك لأن فاعلها شخص مهم في التراث ؟؟!!
و من باب المثال التوضيحي لا أكثر نذكر هذه الحادثة : إنه حينما أصدر محمد بن جرير الطبري كتابه ( أختلاف الفقهاء ) الذي أعتبر فيه أن أحمد بن حنبل محدثاً و ليس فقيهاً , تحول هذا الرأي إلى مشكلة خطيرة كاد الطبري أن يموت بسببها , فقد بقي مسجوناً في بيته ثلاثة أيام , إلى أن تمكن بعض تلامذته من إخراجه , و لما توفي دفن بداره ليلاً , لأن العامة أجتمعت و منعت من دفنه نهاراً , و لقد قام بأخفاء كتاب ( أختلاف الفقهاء ) الذي أكتشف فيما بعد مدفوناً في داره بعد موته .
فنجد أن هناك بواعث مصلحية , و أيديولوجية عند عدد لا بأس به من كُتاب التاريخ ممن حاول أن يبرر للشخصيات , و للحكام كل ما فعلوه بحجج , و أقاويل ما أنزل الله بها من سلطان فـ( أبن كثير الذي يعمل من خلال التاريخ إلى تقديم نموذج جاهز يتم فيه تبرير و تجهيز حياة السلف " الصالح كمعيار لكل الخطايا التي حصلت في التاريخ العربي و الإسلامي , أو تلك التي ستحصل دائماً في دنيا البشر ... فهدف المؤرخ السلفي ليس هو عرض الأحداث كما هي ... بل الغاية القصوى أن يجد في غمر هذه الأحداث ما هو قابل للتبرير , و ما يصلح أن يكون عنصراً قادراً على رسم صورة قدسانية للسلف ) .
و هكذا الحال بالنسبة لأشخاصٍ من أمثال أبن خلدون , و الذهبي , و أبن حجر الهيتمي , و أبن عبد ربة الأندلسي , و غيرهم .
إن المشكلة الأساسية في شيوع التمذهب , و التفرق , و التشتت المتأصلة بالتراث الإسلامي ليس بالإنزواءِ , و المحسوبيةِ على أشخاصٍ و جهاتٍ جيدة , و ذات مكانة تاريخية مرموقة , بل المشكلة بإتخاذ أشخاص سيئين و ذوي آراء هدامة قدوة , و أسوة , و نموذج يحتذى به , و يضرب به المثل .
و هذا ما نلاحظه عند كثرة لا بأس بها ممن يتخذون ( أبن تيمية الحراني ) نموذج إصلاحي , أو نموذج أخلاقي , أو نموذج فكري . و لا أعتقد أن قارئ التاريخ لن يلاحظ ميزات هذا الشخص الذي لم يترك أحداً إلا و عاداه , و لم يترك أحداً إلا و سبه و شنع عليه , و لم يترك أحداً إلا و أتهمه بالكفر , و الزندقة , و الضلال , و لا ندري ما مقياس الأيمان عند أبن تيمية , و لو طبقنا كل القيوده التي وضعها لخرج حتى هو من ربقة الأيمان .
في الحقيقة إن أبن تيمية الحراني هو أسوء مثال في التاريخ الإسلامي على الإطلاق أحيا تراثه كل من ( أبن قيم الجوزية ) , و ( محمد عبد الوهاب ) , و أتباع النحلة ( الوهابية ) ليكون هذا الفكر وبالاً على المسلمين , و على البشرية جمعاء .
كما و حريُ علينا أن نعلم بأن هناك الكثير من التراث كـ( شخوص , و حوادث , و أحاديث ) هو موضوع , قد قامت السلطات الحاكمة , و أتباع الفرق , و أعداء الدين بوضعه .
يقول السيد مرتضى العسكري ( رحمه الله ) : ( أن معاوية قد أوجد معامل لصنع الحديث و وضع الروايات . و كان أبو هريرة , و عمرو بن العاص , و المغيرة بن شعبة , و مالك بن أنس , و سمرة بن جندب , من المنفذين لهذه السياسة المشئومة , و في بعض من أحاديثهم تسقط شخصية الرسول عن قداستها و شأنها و قيمتها إلى مستوى دون مستوى الإنسان العادي , و تصبح أدنى من شخصيات أبي بكر و عمر و عثمان بل و حتى معاوية و يزيد ... و من خلال أطروحتهم هذه حققوا أهدافاً ثلاثة : ـ حرفوا أحكام الإسلام , و حطموا شخصية النبي " ص " و أسقطوها عن الاعتبار , و رفعوا من مستوى شخصيات الخلفاء بعده إلى مستوى أعلى و أرفع من مستوى شخصية الرسول .... ) .
فهذا الإتجاه الذي يقدس التراث الخاص و المؤدلج , و يجعله عدلاً للقرآن يفرض واقع عدم النقد , و عدم المناقشة في كل أطروحاته , و إلا فإن ذلك يقود فاعله إلى الرمي بالزندقة , و الضلال , فساد من جراء كل ذلك ساد تيار من الأرهاب الفكري المسنود من قبل السلطات الحاكمة , و الذي حال بين المسلمين و بين أن يخوضوا في قضايا التراث , و يمنعهم من أن يعملوا عقولهم كما و قد حرم المحاورة , و المناظرة بحجج و تخرصات واهية ليس لها أي مستند شرعي حقيقي .
و بمرور الوقت فرض التراث الواحد , و أصبحت له السيادة , و أصبح من المسلمات التي لا نقاش فيها , بحيث ( تلقت الأجيال المسلمة جيلاً بعد جيل التراث بمنظور الفرقة السائدة المتمكنة المدعومة من السلطة ) .
و المشكلة أن المقدسين ( للسلف ) يرمون الصوفية , و الشيعة , و غيرهم بالغلو , بينما نرى عندهم من المغالات ما تضيق الكتب عن ذكره لكثرته , و لسذاجته .
يقول الشيخ ( حسن بن فرحان المالكي ) : ( الغلو ننكره على الصوفية إذا مدحوا الأولياء , و ننكره على الشيعة عندما يغلون في أئمتهم ... , و ننكره على الأشاعرة عندما يبالغون في مدح أبي الحسن الأشعري ... لكننا لا ننكره عندما نقرأ لأحدهم مدحاً بغلو في أحمد , أو أبن تيمية , أو أبن القيم , أو غيرهم ... و نحن ننكر على الآخرين عندما يعتذرون عن بعض العلماء الذين صدرت منهم هفوات و نسمي هذا " تمييعاً للعقيدة " , بينما نقوم نحن بالعمل نفسه و نسميه " ذباً عن أعراض العلماء فلحومهم مسمومة !! " ) .
الإتجاه الثاني : و الذي يدعوا إلى نبذ كل ما هو قديم , بل إلى نفي وجود شيء يسمى تراثاً وفق شعار ( القطيعة مع التراث ) التي دعا إليها البعض لغايات غير علمية , و هي في حقيقتها قائمة على النقد فقط , و قد رفع لواءها في الوطن العربي كلٌ من ( عبد الله العروي , و محمد عابد الجابري , و محمد أركون في بعض الرؤى الخاصة به ) و كل واحدٍ منهم قد تطرق لموضوع التراث بحسب رؤياه الخاصة به .
فـ( القطيعة عند العروي تأخذ معنى الطفرة التاريخية بالمعنى الذي تذهب إليه المادية التاريخية ما يجعل منه تاريخانياً بأمتياز , أما القطيعة عند محمد عابد الجابري فهي معنى الثورة العلمية كما عند غاستون باشلار و طوماس كون ما يجعل منه بنيوياً بأمتياز , أما القطيعة عند أركون فهي تعيش على إيقاع معطيات الثورة المناهجية الجديدة التي تمتد إلى مختلف الحقول في اللغة و التاريخ و الأجتماع و النفس فهي بهذا المعنى قطيعة مع أساليب القراءة و الفهم و هو مفهوم يلتقي مع كافة الأطر المعرفية التي تشكل المجالات الثقافية و الأشتغالية و التداولي للحداثة الغربية ) .
فمثلاً نجد أن عبد الله العروي يقول : ( إن سير التاريخ لا يتوقف على المثقف , لكن المثقف مطالب بالخضوع إلى قوانين التاريخ إن أراد أن يكون له وجود و تأثير ) .
و عن قضية التراث يقول : ( إن التراث تحميه اليوم مؤسسة لا تترك لأحد حرية التأويل ) .
و يقول مؤكداً على منهجه التاريخي , و منتقداً للفكر السلفي : ( هذه حقيقة نقولها و نكررها و بعد الإقرار و التكرار نجدد الدعوة إلى العقل التاريخي لأن اللجوء إلى الرومانسية و الفوضوية , إلى الشعر الغاضب , إلى الثورية الفارغة , يقوي فقط جانب الفكر السلفي . و هذا الفكر كان سبب التخلف , و سيبقى سبب التخلف ) .
أما محمد عابد الجابري فيقول : ( و يمكن أن نلاحظ بالإضافة إلى ما تقدم أنه لا كلمة " تراث " و لا كلمة " ميراث " و لا أياً من المشتقات من مادة " و . ر . ث " قد أستعمل قديماً في معنى الموروث الثقافي و الفكري حسب ما نعلم , و هو المعنى الذي يعطى لكلمة " تراث " في خطابنا المعاصر . إن الموضوع الذي تُحيل إليه هذه المادة و مشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائماً : المال , و بدرجة أقل : الحسب . أما شؤون الفكر و الثقافة فقد كانت غائبة تماماً عن المجال التداولي , أو الحقل الدلالي , لكلمة " تراث " و مرادفاتها ) .
الإتجاه الثالث : و هو الداعي إلى غربلة التراث من كل ما علق به , و تحسين طريقة الأخذ منه , مع تجاوز الطريقة الحرفية في فهم النصوص و تفسيرها , و الإبتعاد عن دائرة التقديس لكل ما بالتراث , و الإجتناب عن إضفاء صفة القدسية على جميع السلف .
فلقد أحتوى تاريخ الماضين على إفرازات كثيرة , منها الضار , و منها النافع , و التي لا يزال لها أثرها في سلوكيات المجتمع , و معتقداته , و أسلوب معيشته , فلابد أن نميز بين ما يمكننا التمسك به , و تنميته , و بين ما يجدر بنا إستئصاله , أو الحد قدر الإمكان من مضاره , و سلبياته على الفرد و المجتمع .
فـ( من الطبيعي أن يحتوي التراث على نقاط الضعف و القوة , و الغث و السمين , و الخطأ و الصواب , كما أن تناقل التراث عبر مسيرة زمنية , تجعله معرضاً للشوائب و التحريفات ) .
إن دراسة تراث السلف بمنطق العقل قد يكشف مواضع الخطأ لدى السابقين , و يفيد في تجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعوا بها , و بالتالي السعي نحو تحصيل الأفضل و الأحسن دائماً . ثم أن لكل حقبة ظروفها و خصوصياتها , فكيف لنا أن نُعدي أفكار و تصرفات من حقبة معينة لنجريها على حقبة أخرى تختلف عنها زماناً و مكاناً , بل ربما قد تختلف عنها في الطبيعة و الظروف و حتى في اللغة . إن ما تعرض له التراث ـ كمنظومة ـ من محاولات تحريف و تشويه , سببتها الجهات المغرضة من داخل جسد الأمة , و أحدثتها الثقافات الدخيلة , و ما قام به أعداءها , يفرض علينا أن نبذل أقصى ما يمكننا من جهود لغربلة تراثنا الشوائب , بل يوجب علينا أن نمحص التراث , و نخلصه من كل الأفرازات , و المدخولات التي لحقت .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat