الأنبهار بالآخر
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إن من أسباب الجمود و التخلف أيضاً هو ( الأنبهار بالآخر ) ( Fascination with the other ) , و إعطاءه الآخر حجماً أكبر من حجمه الطبيعي , و كذلك الشعور بالتصاغر أمامه , و التملق له , و مدحه , و الكلام عنه و كأنه يملك كل شيء , و يعلم بكل شيء .
و من مصاديق ذلك الأنبهار بالغرب , فلابد لنا أن نعلم إن ظاهرة الأنبهار بالحضارة الغربية في تزايد , فإن كان البعض منبهرين بتقدم الغرب , و بصناعاتهم , و تكنولوجيتهم , فقد وصل الأمر إلى حد الإنبهار بمساوئهم , و عاداتهم اللااخلاقية , و تقلدهم حرفياً بلا عقل , و لا واعز , أو رادع ديني , أو أخلاقي .
لقد إنبهر الكثير من أبناء إمتنا العربية بالحضارة الغربية , و نقلوا هذا الأنبهار إلى أولادهم , و أخوانهم , و أصدقائهم , و بالتالي تفشى هذا المرض بين أوساط الأمة , فزادها مرضاً إلى أمراضها الأخرى الداخلية و المزمنة , فمن نفاقٍ أخلاقي و ديني إلى إزدواجية و ذوبان أمام الآخر .
أن ديننا الإسلامي يدعونا للتعقل , و الإتزان في كل شيء حتى في الآخذ من الآخر , فنحن نأخذ من الآخر العلم , و التكنولوجيا , و نطمح أن نتقدم و نرتقي مثله , فلابأس بكل ذلك , أما أن نستورد منه الأخلاقيات , و السلوكيات السيئة , لا بل أن يشعر البعض أمامه بالصغر , و الأنعدام , و جعل بعض من يلحد بالله تعالى قدوة , فذلك هو خلاف العقل , و الدين , و خلاف منطق الإنسانية .
( إن تقليد عالم الغرب يجب أن يكون في مجال العلوم , و الفنون التجريبية , و الأساليب الصحيحة , و المثمرة , أي في إطار العقل , و المصلحة , لا أن يتبع الشرقيون بصورة عمياء الغربيين , و يتعلموا أساليبهم , و يعملوا وفقها دون قيد أو شرط , لأن الكثير من الخطايا ترتكب في عالم الغرب بصورة مشروعة تحت عنوان " الحرية الفردية " و نتيجة لذلك فإن عدداً كبيراً من النساء , و الرجال يتعرضون للمساوئ الأخلاقية , و الشرور بفعل الغرائز , و الرغبات النفسية , فينحرفون عن جادة الحق و الفضيلة , و لسوء الحظ فإن الفساد , و الضياع يزدادان يوماً بعد آخر , و يزداد معهما عدد المنحرفين , و المذنبين ) .
لقد أوصلنا الأنبهار بالآخر إلى محاربة تراثنا , و ديننا , و عدم الأيمان بعقولنا , فمن أفكار القطيعة , و إتهام الفكر العربي بالبعد عن الواقع , إلى إماتة العقول و إسباتها , و كأن الفرد العربي ليس إنساناً , بل لا إنسان إلا الفرد الغربي المادي البعيد عن الله تعالى .
لقد ظهر في العالم الإسلامي , و بالخصوص في الوطن العربي تيار يؤمن بالتقدم الغربي , كانت البدايات الإولى له مع ظهور حركة الأتراك الكماليين , ثم تطور عن طريق شخصيات عربية من أمثال : ( شبلي شميل , و يعقوب صروف , و سمير مراش , و طه حسين , و سلامة موسى ) .
و كذلك باقي النماذج من أمثال ( محمد أركون , و عبد الكريم سروش ) و النماذج الأخرى الكثيرة و التي يضيق المقام عن ذكرها , و التي قد تميعت و ذابت بالآخر , أو التي أنطلقت في نقدها و تهجمها من عقد داخلية فأصبحت معاول هدم للحضارة العربية الإسلامية .
إن الأصوات المنادية بتقليد الغرب , و المتأثرة به كثيرة إبتدأت من أول غزو إستعماري للبلاد الإسلامية , و هي مستمرة لحد الآن , فنجد الدعوات الكثيرة لتمجيد الغرب , و ضرورة تقليده عند الكثيرين قديماً و حديثاً , فمثلاً نجد ( سلامة موسى ) يقول : (( إذا نحن أرتبطنا بالغرب , نركب الطيارات و نصنعها , و نسكن في بيوت نظيفة و نبنيها , و نقرأ كتباً مفيدة و نؤلفها )) .
و من الحوادث الطريفة و المضحكة المبكية في نفس الوقت , إنبثاق ثلة ممن أُعجب بالغرب , و أخذ يُشرعن لهم كل شيء , فنجد ( أحمد بن المواز المغربي ) في كتابه ( حجة المنذرين على تنطيع المنكرين ) يقول : (( و من الحوادث المشكورة في المدينة تيسير طحن الأقوات في المكينة لأن مصيبة الرحويين أشابت الغربان , و تناقلت أناشيدها الركبان , فلذلك رفع الله كيدهم بالمكينة , و جعلت لهم عقوبة مهينة )) .
إن القرآن الكريم قد وضع لنا المنهجية الصحيحة في الآخذ , و كيف نأخذ من الآخرين وفق منهجية عقلائية صحيحة , قال تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ ) سورة الزمر , الآية (18) .
لذا فعلى الشعوب التي تأثرت , و أنبهرت بالغرب , و بالخصوص الشعوب الشرقية أن تعرف كيفية الأستفادة من علم علماء الغرب , و تتعلم منهم الأساليب العلمية , و العملية , بإسلوب واعٍ , و وفق إطار العقل , و بما يسمح به الدين , و بما يتلاءم مع الأخلاق , و في حدود العلوم , و الفنون التقنية , و مجال العلم , و المعرفة , لا أن يقلدوا الغرب بشكل أعمى , و بالتالي يأخذوا منه كل شيء حتى أقواله , و أفعاله , و سلوكياته , و أخلاقه , من دون علم , و دراية , و بلا بعد نظر .
نعم ( أن الغرب من حيث العلم , و الجامعات , و مراكز البحوث , و الأساتذة ذوي الأختصاص غني , و لكنه من حيث مكارم الأخلاق , و الفضائل الإنسانية فقير , و محتاج ) . هذا من جانب .
أما من جانب آخر فـ( إذا حصل أن قاطع المحليون منتجات المستوطن , كما بلغنا عن سياسة العصيان المدني الهندي بزعامة غاندي , أو ثورة التنباك بإيران بزعامة الميرزا الشيرازي , فذلك لم يكن تبعيداً للمستهلك , و لا تكفيراً للتقنية , بل وسيلة من وسائل المقاومة التي شهد المجال العربي الإسلامي حالات , و شواهد تماثلها ) .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat