صفحة الكاتب : د . علي المؤمن

الحسين .. ثقافة لكل العصور
د . علي المؤمن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
في البدء.. كلمة
      ككل المنعطفات التاريخية الكبرى التي شهدتها مسيرة البشرية؛ منذ بدء الخليقة وحتى الآن؛ بقيت نهضة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع ) إحدى أهم أحداث التاريخ الإسلامي؛ بل الإنساني عموماً. ولعل هذا الحدث يشكل ثاني اوثالث حدث مصيري بعد وفاة الرسول الأعظم محمد (ص)؛ لأنه أدخل تحولاً شاملاً في حاضر الأمة ومستقبلها، وعلى أكثر من صعيد؛ ما جعلها رمزاً ومفهوماً ومدرسة متكاملة.
    إن النهضة الحسينية لم تكن مجرد حدث سياسي عبّر عن نشاط معارض لجماعة سياسية ضد السلطة الحاكمة، أو حدث اجتماعي يمثل صراعاً بين أسرتين، أو معركة عسكرية بين فئة ثائرة وجيش الحكومة؛ وإنما هي قضية دخلت في صنعها مسارات متنوعة، وحملت أبعادأ متعددة، تدخل في أطر إنسانية وعقائدية  و فقهية و فكرية وثقافية واجتماعية و تاريخية و سياسية.
    ومن هنا؛ فان الكتب والدراسات التي تخصصت في موضوع نهضة الإمام  الحسين (ع) أو تناولتها، عالج كل منها بعداً أو امساراً معيناً، او عدداً من الأبعاد فيها.
    والدراسة التي أضعها بين أيدي القراء؛ نظرت الى موضوع النهضة الحسينية من زاويتين:
    الاولى: زاوية السنن التاريخية، أو الإلهية بكلمة أدق، عبر تطبيقها على موضوع نهضة الحسين، واستخلاص البعد السنني فيها.
    الثانية: زاوية العقيدة، وذلك من خلال مقارنتها مع نقيضها، من خلال التحليل الثقافي للحدث.
    وجاء اعتماد الدراسة ـ في الزاوية الثانية ـ المنهج المقارن؛ انطلاقاً من مقدمة علمية أثبتتها الدراسة، تتلخص في كون طرفي الحدث ( نهضة الحسين وسلطة يزيد) يمثلان مدرستين وثقافتين متضادتين في جذورهما ورموزهما وأفكارهما وايديولوجيتهما وامتداداتهما؛ الأمر الذي يجعلهما في صراع دائم؛ لايحده زمان أو مكان.
   واختيار الدراسة لمفردة (( الثقافة)) في عنوانها، وسياقاتها عند الحديث عن عاشوراء وكربلاء؛ يأتي من خلال التعريف الانثروبولوجي الشامل للثقافة من جهة، وكون الحدث العاشورائي قد تحول الى ثقافة متكاملة، تمثل أحد أبرز مكونات الثقافة الإسلامية الاصيلة؛ حتى وإن لم تتم الإشارة الى الحدث العاشورائي بالإسم عند الحديث عن هذه المكونات؛ لأنه حاضر في عمقها من جهة اخرى.
    ونعني بالثقافة هنا؛ مفهومها الشائع؛ باعتبارها مجموع الافكار والسلوكيات والاساليب التي تحدد نمط حياة المجتمع.
     لقد عالجت الدراسة موضوع التفسير العاشورائي للتاريخ ومعادلاته وثوابته وقواعده؛ باعتباره أحد أبرز تجسيدات التفسير الإسلامي للتاريخ. كما عقدت مقارنة تحليلية بين جذور الثقافتين الحسينية واليزيدية، وعمقهما التاريخي، ورمزي الثقافتين: يزيد بن معاوية بن ابي سفيان والحسين بن علي بن ابي طالب. وقارنت بين ثقافة الحسين وثقافة يزيد من خلال ثلاثة معايير أساس: العلاقة بالله تعالى، الاهداف والشرعية الدينية.                                                         
التفسير الحسيني للتاريخ
    سنن الله تعالى في خلقه، سنن ثابتة لا تتبدل، أفرزت عناصر و معادلات و مباني محسوسة؛ هي التي يتم التعبير عنها بالتفسير الاسلامي للتاريخ. وهذا التفسير له تجسيدات و مصاديق في تاريخ الاسلام و واقعه. ويقف التفسير العاشورائي للتاريخ في مقدمه هذه التجسيدات؛ إذ بقيت معادلاته تحكم مساحات كبيرة من الواقع الاسلامي، منذ ثورة الامام الحسين(ع) وحتى الآن.
     فبين عاشوراء 61 هـ ؛ اليوم الذي شهد الفصل الأكثر دموية و مأساوية في نهضة الامام الحسين، و عاشوراء اليوم الذي نعيشه، ثلاثة عششر قرناً و نصف القن من الزمن، استمرت خلالها نهضة الحسين بجميع عناصرها و معادلاتها و أهدافها، على الرغم من تغير الأشخاص و اختلاف المشاهد، و كأن ذلك الزمن الطويل يشكل يوماً واحداً. فنهضة الامام الحسين(ع)، على وفق التفسير العاشورائي للتاريخ، لاتخضع لظروف الزمان و المكان، أي انها عالمية على المستوى الجغرافي، و ممتدة على المستوى التاريخي.
     لقد تشربت نهضة الحسين الفكر التوحيدى، و جسدته واقعاً عملياً خالداً؛ فأبقت مكة رمزاً للتوحيد، و جعلت من كربلاء مركزاً يحمي التوحيد الخالص، و مركزاً للتضحية من أجله. فعلى مر القرون ظلت كربلاء تضحي، لتزداد مكة شموخاً.
    النهضة الحسينية لم تأت بشرعة جديدة أو سنة مبتدعة، وانما بلورت مفاهيم الصراع التاريخي بين الحق و الباطل. هذه الثنائية الممتدة منذ عصر آدم (ع)، بين هابيل و قابيل، بين نوح و قومه، ابراهيم و نمرود، الأنبياء وبني اسرائيل، موسى و فرعون، رسول الله و قريش، علي و  معاوية، وصولاً الى الحسين و يزيد. فهي ـ في حقيقة الأمر ـ سنة الله في خلقه: 
((سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلاً)).
     و تمثل كربلاء في المعادلة الحسينية البعد المكاني في نهضة الحسين، فهي الأرض التي نقف عليها، و يمثل عاشوراء البعد الزماني، فهو الزمن الذي نعيشه. أي ان كربلاء هي كل أرض المسلمين على امتداد ثلاث قارات، و كل أرض يوجد فيها المسلمون. إذ لازالت هذه الأرض تنزف ، كل جزء منها ينزف، تنزف دماً و دمعاً و مداداً ، دون أن تجف دماؤها أو يجف دمعها و مدادها، منذ ثلاثة عشر قرناً و نصف القرن؛ لأن الدماء و الدموع و المداد هي ارث المسلمين من عاشوراء وكربلاء، وهو إرث المقاومة الأكثر تأثيراً في واقع الحياة، حتى يرث المستضعفون الأرض و ما عليها.
    ولكي نكون أكثر اقتراباً من الواقع، نشير الى بعض الثوابت الأساسية في المعادلة العاشورائية، لتبرز المصاديق من خلال ذلك بسهولة:
1- في كل زمان و مكان هناك من يمثل الرمز و المشهد في النهضة الحسينية، أي كلا  طرفي المعادلة، سواء تمثل الرمز في شخص أو جماعة أو سلطة، وسواء كان المشهد في بضعة أمتار من الأرض ـ زنزانة مثلاً ـ أو في دولة بأكملها.
2-  ان طرفي المعادلة العاشورائية يمثل أحدهما الحق و الشرعية، و يمثل الآخر الباطل و اللاشرعية، و حولهما يلتف الأتباع و الأنصار، و بينهما يقف المتفرجون و المحايدون ـ سلباً ـ و المستفيدون.
3- تقف كربلاء دائماً خارج أطار اللعبة الدولية؛ فلا تصلها ـ على سبيل المثال ـ شرعة حقوق الانسان، و لا كل القوانين التي يتشدق بها بنو البشر، أي انها تعيش حالات المظلومية و المقاومة و الاستشهاد بكل أبعادها.
    فبقاء كربلاء ـ أرض المسلمين ـ نازفة، هو إنجاز توارثته الأنظمة الطاغوتية، المحلية منها والعالمية. فالاستكبار العالمي، و معه عملاؤه في منطقتنا الإسلامية، يمثلان أحد طرفي المعادلة العاشورائية. أما الطرف الآخر، فهم أتباع محمد (ص).. من موريتانيا الى اندونيسيا، و من البوسنة وحتى موزمبيق. 
    و اذا أردنا أن نعيش قضايانا في هذه المرحلة، و نحللها في ضوء عاشوراء، فسنرى ان الثوابت ـ التي ذكرناها ـ حاضرة في تلك القضايا بكل وضوح.
  ان الشعارات أو التهم التي يرددها المستكبرون و عملاؤهم في هذه المرحلة هي انتاج متكرر، أفرزته العقلية الاستكبارية الغربية منذ قرون بعيدة، و بلورته المنظومات الاستشراقية في صيغ معروفة، و أبرزها: ان المسلمين ارهابيون، متوحشون، متمردون، لاعقلانيون، متخلفون، شهوانيون؛ يسعون للحصول علي أسلحة الدمار الشامل، و يطمحون لبناء قوة عالمية مستقلة. و من هنا فلابد من محاصرتهم سياسياً و اقتصادياً وتعويق مشاريعهم التنموية، و استلابهم عقائدياً و ثقافياً و سياسياً واقتصادياً، و تجويعهم و إذلالهم و إركاعهم، وبث الفرقة و الشقاق و النفاق بينهم، و ضربهم بقوة ، وإعمال السيف فيهم:
  (( ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا )).
الحسين يقارن بين ثقافته وثقافة يزيد
    أفرزت ثورة الامام الحسين (ع) ثقافة و مدرسة متكاملة في معالمها ورموزها و عناصرها و أساليبها و أهدافها، و هي ثقافة اسلامية أصيلة، تشكل القاعدة التي يقف عليها التفسير العاشورائي للتاريخ.
    يقول الامام الحسين بن علي (ع):
    « إنا أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، و محط الرحمة، بنا فتح الله و بنا ختم. و يزيد رجل فاسق، و مثلي لايبايع مثله ».
    بهذا الحزم العقائدي، رد الامام الحسين (ع) على الوليد بن عتبة، والي يزيد على مكة؛ حين طلب منه مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، فقد أوضح من خلال كلمته انه و يزيد مدرستان و ثقافتان متضادتان، لايمكن أن تلتقيا، كما بيّن المعالم الرئيسية لكلتا المدرستين.
    فالمدرسة الحسينية أو الثقافة الحسينية ـ كما ورد في كلمة الامام الحسين ـ تتميز بأنها مدرسة: 
     1- أهل بيت النبوة. 
     2- معدن الرسالة.
     3- مختلف الملائكة. 
     4- بها فتح الله و بها ختم.
   اما المدرسة اليزيدية فان أهم معالمها:
    1- الفسق و التجاهر بالفسق.
    2- شرب الخمر.
    3- قتل النفس المحرمة.
    فهما ـ اذن ـ تياران حضاريان مختلفان و متضادان، الأول ولد في رحم الرسالة، و نما و ترعرع في أحضان النبوة، ثم تجسدت فيه مدرسة الاسلام الأصيل؛ اذ أفرزت المدرسة الحسينية ثقافة عاشوراء التي هي خلاصة لثقافة الاسلام. 
    أما التيار الثاني، فقد انبثق من بين ركام الكفر و الجاهلية، و ترعرع في أحضان الانحراف، وتبلور في أبناء الطلقاء و من أباح الرسول (ص) دماءهم، و يمثل الاتجاه الأكثر عداءَ للاسلام، و الأكثر شراسة ضده وضد رموز، قبل وفاة الرسول (ص) و بعده.
   ثم أعطى الامام الحسين (ع) بقوله: « و مثلي لايبايع مثله »؛ قاعدة عقائدية و فقهية ثابتة، وهي ان المدرسة الاولى ( الحسينية ) لايمكن أن تبايع المدرسة الثانية (اليزيدية) أو تقدم لها فروض الطاعة أو تنصاع لأوامرها، بل تعمل وفق ما تمليه عليها الشريعة الالهية.
   بيد ان المفارقة الكبري تكمن في ان المدرسة اليزيدية استولت علي السلطة باسم الاسلام، و عزلت المدرسة الحسينية عن موقعها الشرعي، وصوّرتها بأنها خارجة على الخلافة!.
جذور الثقافتين الحسينية و اليزيدية
    اذا تأملنا في جذور الثقافتين أو المدرستين الحسينية واليزيدية، فسندهش لطبيعة التضاد بينهما، وهو التضاد العقائدي السابق لا نبثاق المدرستين، ثم ورثتاه، و أورثتاه عبر الأجيال، لتبقي لكل ثقافة  رموز واتباع و امتدادات. فأبو سفيان، المشرك، الذي شن أشرس الحملات العسكرية والإقتصادية والاجتماعية و الاعلامية، و حملات الاضطهاد و التعذيب و التشريد والتنكيل، ضد الاسلام و المسلمين، وضد رسول الاسلام (ص) هو المؤسس الأصلي لهذه الثقافة. و قد كان مستوى إيمان أبي سفيان بعد أن أجبرته مصالحه على التظاهر بالاسلام، هو ما أعلنه بعيد وفاة الرسول الأعظم (ص)، حين قال للامام علي (ع) بعد اعلان خلافة أبي بكر: 
 « والله اني لأرى عجاجة لايطفئها الاّ دم». 
  فأجابه أميرالمؤمنين (ع): 
  « انك والله ما أردت بهذا الا الفتنة، و انك و الله طالما بغيت بالاسلام شراً ».
    و أبوسفيان هذا هو جد يزيد. اما جدته، فهي هند، أبرز المؤلبات ضد الاسلام، وآكلة كبد حمزة عم النبي (ص). و أبوه هو معاوية الذي خرج على إمام المسلمين وخليفة رسول الله علي بن أبي طالب (ع)، و مجيش الجيوش ضد معسكر الاسلام في عهد الامام علي (ع)، و قاتل الصحابة والاخيار، وأول من أبتدع الملك الوراثي في الاسلام.
    و قد استمد يزيد جذور العقائدية و الثقافية و الاجتماعية من هذا البيت، الذي رفع شعار الكفر و النفاق و الردة و الفسق، و العداء الكامل للاسلام.
    اما مدرسة الحسين (ع)، فهي امتداد للنبوة، و خلاصة الاسلام الأصيل، فجد الحسين هو محمد (ص) ، رسول الله و خيرة خلقه، و خاتم المرسلين والأنبياء. وجدته خديجة الكبرى، التي كان عطاؤها أحد الأركان التي شيد محمد (ص) عليها الاسلام، وأبوه هو علي بن أبي طالب (ع)، أول القوم إسلاماً، و حبيب رسول الله و ابن عمه و صهره و وصيه و خليفته، و أول أئمة الهدى بعد رسول الله (ص)، و الذي قال فيه: 
   «علي مع الحق و الحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض » ،
   و « يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ». 
  وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وبضعة رسول الله، التي قال فيها نبي الهدى (ص):
 « يا فاطمة ان الله عزوجل ليغضب لغضبك، و يرضى لرضاك ».
مظاهر الثقافة اليزيدية
     يصف المؤرخون يزيد بأنه: « صاحب طرب و جوارح و كلاب وقردة و فهود و منادمة على الشراب. و جلس ذات يوم على شرابه و عن يمينه عبيدالله بن زياد، و ذلك بعد قتل الحسين  (ع)؛ فأقبل على ساقيه فقال:
     (( اسقني شربة تروي مشاشي       ثم مل فاسق مثلها بن زياد
       صاحب السر و الأمانة عندي     و لتسديد مغنمي و جهادي))
    ثم أمر المغنين فغنوا، و غلب على أصحاب يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق، و في أيامه ظهر الغناء بمكة و المدينة، و استعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب.
    و في سنوات حكمه الثلاث فقط، قام يزيد بن معاوية بأبشع ثلاث جرائم عرفها تاريخ الاسلام، وهي:
1- و قعة كربلاء عام  61  هـ : 
   وفيها قتل يزيد الإمام الحسين بن علي (ع)، ثالث أئمة آل البيت (ع)، وسبط رسول الله (ص) وريحانته؛ الذي قال فيه: 
«حسين مني و أنا من حسين »، 
و قتل أهل بيت النبوة من الطالبيين والعلويين، و جمع من الصحابة و التابعين، بشكل مروع، و قتل الأطفال أيضاً، و بينهم الرضيع الذي لايزيد عمره علي ستة أشهر. ثم هجوم جيش  يزيد علي مخيم النساء و حرقه، و تشريدهن و سبيهن مع الأطفال، و تأسير الامام علي بن الحسين (زين العالدين)، رابع أئمة آل البيت، و كان حينها في مرض شديد.
     ثم حملت السبايا الى الكوفة، و منها الى شام، حيث دخلت على يزيد، الذي أخذ يشتم آل البيت (ع)، و يضرب رأس الحسين بالسوط، بل كاد أن يقدم على اعطاء بعض بنات بيت الوحي (من بنات الامام علي و الامام الحسين) جواري و خادمات لبعض ندمائه.
2- استباحة المدينة المنورة و وقعة الحرة عام 63  هـ :
     يقول المؤرخون: 
« لما شمل الناس جور يزيد و عماله، و عمهم ظلمه و ما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول الله (ص) و أنصاره، و ما أظهر من شرب الخمر، وسيره سير فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان... وسائر بني أمية ».
    وعلى اثرها سيّر يزيد جيشاً جراراً الى المدينة، على رأسه مسلم بن عقبة، الذي هجم علي مدينة رسول الله (ص) ـ بعد وقعة الحرة ـ هجوم الكواسر الجائعة، فاستباحها بالكامل ثلاثة أيام بلياليها، إذ قتل أهلها، ونهبها، و سرق ما فيها من مال أو رقة أو سلاح أو طعام ، و اغتصب العساكر نساءها. ثم أجبر من تبقي من أهلها علي مبايعة يزيد عبيداً و ليسوا رعية، كما سمّي بن عقبة المدينة بـ « نتنة »، خلافاً لقول الرسول (ص) الذي أسماها « طيبة ».
    اما وقعة الحرة التي التقى فيها جيش يزيد بقيادة مسلم بالمدافعين عن المدينة المنورة، و معظمهم من بين هاشم؛ فقد ذكر المؤرخون ان قتلى أهل المدينة بلغ حوالي (420) شخصاً من بني هاشم و قريش و سائر الناس.
3- انتهاك حرمة بيت الله و رجم الكعبة بالمنجنيق عام  64  هـ : 
     حادث رجم الكعبة سبقتة مقدمات مهمة، انتهكت خلالها حرمة البيت الحرام؛ فحين أراد يزيد اجبار المسلمين على البيعة بقوة السيف، لجأ عبدالله بن الزبير الى المسجد الحرام، فأرسل اليه يزيد عشرة من أعوانه، بينهم عبدالله بن عضاة الأشعري و النعمان بن بشير الأنصاري، وألح هؤلاء على ابن الزبير بالبيعة ليزيد، لكنه رفض. و حينها هموا بقتله و هو في المسجد الحرام. فقال عبدالله بن الزبير لأحدهم: 
« اتستحل قتالي في هذا الحرم؟!»، 
فأجاب: 
« نعم، إن أنت لم تجب طاعة أميرالمؤمنين»،
 فأشار ابن الزبير الى حمامة كانت في المسجد قائلاً: 
« و تستحل قتل هذه الحمامة؟»، 
فقام أحد رسل يزيد و صوب سهمه نحوها قائلاً:
« يا حمامة أتعصين أميرالمؤمنين؟».
 ثم التفت الي ابن الزبير قائلاً:
 « أما لو أنها قالت نعم لقتلتها ».
     و بقي عبد الله بن الزبير متحصناً في المسجد الحرام، حتى حل عام64  هـ ، ففي أوائل شهر محرم الحرام من هذه السنة، حوصر المسجد الحرام من قبل جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير، فنصب العربات و المجانيق على جبل « أبوقبيس »، و أخذ يقصف الكعبة و المسجد بالمنجنيق، حتى تهدم بناء الكعبة، و احترقت نتيجة ذلك. و يصف أحدهم ضرب جيش يزيد الكعبة:
« رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء و ترتج من أعلاها الى أسفلها ».
     و بعد عودة الحصين بن نمير، وفك الحصار عن عبدالله بن الزبير، دخل عبيد الله بن سعد المسجد الحرام و الكعبة محترقة، فخاطب الناس: 
«... فقد والله فعلتم؛ لقد قتلتم ابن بنت نبيكم ، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة ». 
وهو بذلك يصف أكبر جريمتين وقعتا بعد بزوغ فجر الاسلام.
الحسين حجّة على الناس
   الحسين (ع)، تجسيد لمعنى القربة في آية المودة: 
(( قل لا أسألكم عليه أجراً الّا المودة في القربى))،
 و أحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ، في آية التطهير، كما انه تجسيد لمعنى أبناء الرسول (ص)، في آية المباهلة:
 (( فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناكم ونساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين))، 
و هو الذي قال عنه رسول الله (ص): 
«حسين مني و أنا من الحسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط »، 
و هو وارث مسيرة التوحيد منذ عهد آدم (ع)،  برموزها و خطها العقائدي، كما تصفه « زيارة وارث » المأثورة عن الامام الصادق (ع). و أخيراً توج الامام الحسين (ع) حياته و جهاده بالشهادة في سبيل الأهداف الربانية، ليحمل لقب « سيدالشهداء » حتى تقوم الساعة.
     يقول الرسول الأعظم (ص): 
«الحسن و الحسين ابناي، من أحبهما أحبني، و من أحبني أحبه الله، و من أحب الله أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، و من أبغضني أبغضه الله، و من أبغضه الله أدخله النار على وجهه ».
العلاقة بالله في الثقافة الحسينية
   المدرسة الحسينية هي مدرسة الحب و العشق الالهيين. فالحسين (ع) وهو في ذروة المحنة، حين يقف وحيداً في عرصات كربلاء مثخناً بالجراح، و الخيل تدوس صدره، يجسد أروع مشاهد و آيات العرفان والحب، و هو يقول: 
« بسم الله  وبالله  وعلى ملة رسول الله، الهي انك أتعلم انهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، هوّن علي ما نزل بي انه بعين الله ».
 كما ان مراسيم الصلاة التي أقامها في ظهيرة عاشوراء والجيش الاموي يحيط به من كل جانب، ويرميه بالسهام والرماح، انما يشير الي عمق صلته بالله تعالى. و هناك أبيات من الشعر قيلت علي لسانه (ع) و هو يودع الحياة في واقعة الطف، مخاطباً خالقه تعالى:
     (( تركت الخلق طراً في هواكا    وأيتمت العيال لكي أراكا
        فلو قطّعتني بالحب اربا       لما مال الفؤاد الى سواكا ))
    و كان الامام الحسين (ع) يردد هذا الدعاء في الشدة و الفرج:
 «اللهم ارزقني الرغبة في الآخرة، حتى أعرف صدق ذلك في قلبي بالزهادة مني في دنياي. اللهم ارزقني بصراً في أمر الآخرة حتى أطلب الحسنات شوقاً، و أفر من السيئات خوفاً».
    وأبناء ثقافة عاشوراء من أصحاب الحسين (ع) جسدوا أروع مشاهد القرب من الله تعالى، فالمؤرخون يصفونهم في ليلة عاشوراء بأنهم: 
«مقبلين على الله بكل مشاعرهم و أفكارهم، فهم بين راكع  و ساجد، قائم وقاعد، و بين تال للقرآن و مستغفر، ولهم دوي كدوي النحل ». 
     وأتباع هذه المدرسة ينتسبون اليها بدافع الايمان بالله تعالى و قربهم منه؛ فبواعثهم عقائدية و أخروية، و جهادهم في صفوفها هو من أجل العقيدة  والفكرة والرمز الشرعي. و هو ما يتضح من سلوكهم و أقوالهم قبل الواقعة وأثناءها. فالمعلّا ( أحد أصحاب الحسين) ارتجز يوم عاشوارء بهذه الأبيات:
     (( أنا المعلّا حافظاّ لأجلي ديني علي دين النبي و علي 
   أرجو ثواب خالقي الأزلي   ليختم الله بخيرٍ عملي ))
    و يقول برير بن خضير الهمداني، مخاطباً الامام الحسين (ع) قبل بدء القتال:
 « و الله يا ابن رسول الله، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة».
 و يعقبه نافع بن هلال الجملي يخاطب امامه: 
« من نكث عهده، و خلع بيعته، فلن يضر الّا نفسه، والله مغن عنه؛ فسر بنا راشداً معافي، مشرّقاً ان شئت أو مغرّباً،  فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا ».
      فنرى من خلال ذلك مقدار وضوح الرؤية العقائدية، والاستقرار النفسي المطلق لاتباع ثقافة عاشوراء، فكلمة الله (تعالي) لا تزول من ألسنتهم، و هو في قلوبهم، يموتون في سبيله و من أجل أهدافه.
العلاقة بالله في الثقافة اليزيدية
    تعبِّر المدرسة اليزيدية  تعبر عن مستوى سحيق جداً من الابتعاد عن الله تعالى، والذي يصل الى حد الشرك و الكفر. فيزيد (رمز المدرسة) اتخذ سلوكاً وتفكيراً هما الكفر بعينه. فيذكر المؤرخون ان مجموعة من وجهاء المدينة المنورة رجعوا من ؤيارة يزيد، فقالوا عنه:
 «انا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، و يلعب بالكلاب، و يسامر الحراب والفتيان ».
    فهل يمكن اطلاق صفة الاسلام أو التوحيد على جريء يردد أبيات الشعر هذه بعد قتله الحسين؟:
       (( ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا      جزع الخزرج من وقع الأسل
        لو رأوه لا ستهلّوا فرحاً        ثم قالوا يا يزيد لاتشل
        لست من خندف ان لم أنتقم      من بني أحمد ما كان فعل
      لعبت هاشم بالملك فلا             خبرُ جاء ولا وحيً نزل
      قد أخذنا من علي ثأرنا        و قتلنا الفارس الليث البطل
      وقتلنا القرم من ساداتها            وعدلناه ببدرٍ فاعتدل ))
    اما اختيارعمر بن سعد قتال الحسين (ع)، بعد أن وضعه عبيد الله بن زياد أمام خيارين: بين قتل الحسين (ع) و ولاية الري، فهو يعبر بهدا الاختيار عن ضحالة ايمانه، بل عن شركه بالله، وتشكيكه بما جاء به الرسول (ص). و يتضح ذلك من خلال الأبيات التي رددها:
       (( أأترك ملك الري و الري منيتي       أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
       يقولون ان الله خالق جنة           ونار و تعذيب و غل يدين
      فان صدقوا فيما يقولون انني      أتوب الى الرحمن من سنتين
      وإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمة       و ملك عقيم دائم الحجلين )). 
    هذه الأبيات تجسد الواقع النفسي و العقيدي المنهار لمعظم أصحاب الثقافة اليزيدية،  و الفاصلة الشاسعة بينهم  و بين الله تعالى وشرعته  ودينه، و حقيقة دوافع انتسابهم لمدرستهم، و التي اما تكون اغراءً بالمال والجاه، أو خوفاً من الموت و الفقر، و اما تكون انسجاماً مع مكامن الكفر و الشرك والجاهلية و الانحراف الفكري و السلوكي في أعماق أنفسهم. 
      فهذا شمر بن ذي الجوشن يقف بكله الي جانب الباطل، و يمثله، مع علمه الكامل بالحق، كما هو الحال مع يزيد و عمر بن سعد. فعندما ركب الشمر صدرالحسين؛ يريد حز رأسه، دار بينهما الحوار التالي:
     الامام الحسين (ع) مخاطباً الشمر: أما تعرفني؟!
    الشمر: بل أنت الحسين و أبوك المرتضي و امك الزهراء وجدك المصطفي وجدتك خديجة الكبري.
    الامام (ع): و يحك، اذا عرفتني فلم تقتلني؟
    الشمر: أطلب بقتلك الجائزة من يزيد.
    الامام (ع): ايما أحب اليك، شفاعة رسول الله (ص) أم جائزة يزيد؟
     الشمر: دانق من جائزة يزيد أحب الي منك و من شفاعة جدك و أبيك.
     و بعد أن كشف الشمر عن لثامه ورأه الامام الحسين (ع)، قال: صدق جدي رسول الله (ص).
    الامام (ع): سمعته يقول لأبي، يا علي يقتل ولدك هذا أبرص أعور، له بوز كبوز الكلب و شعر كشعر الخنزير.
   الشمر: يشبّهني جدك رسول الله بالكلاب!. والله لأذبحنك من القفاء جزاءً لما شبّهني جدك.
    ثم ان الشمر أكب الامام الحسين (ع) على وجهه، وجعل يجز أوداجه بالسيف، وهو يقول:
      أقتلك اليوم و نفسي تعلم    علماً يقيناً ليس فيه مغرم
      ان أباك خير من يكلّم بعد النبي المصطفي المعظم
     أقتلك اليوم و سوف أندم           وان مثواي غداً جهنم 
      و شمر بن ذي الجوشن يعبر هنا عن موقف الذين اشتركوا في الحرب ضد الحسين (ع). فحين توجه الامام الحسين (ع) الى جيش يزيد يحاججه، قائلاً: 
      « يا ويلكم علام تقاتلوني؟!، على حق تركته، أم على سنّة غيّرتها، أم على شريعة بدّلتها؟!».
    أجابوه:
     « بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك و ما فعل بأشياخنا يوم بدر و حنين ».
    و ذكر المؤرخون موقفاً آخر لشمر بن ذي الجوشن.  فعندما دخل على يزيد بن معاوية و بيده رأس الامام الحسين (ع) قال ليزيد:
     (( املأ ركابي فضة أو ذهبا                اني قتلت السيد المهذبا
     قتلت خير الناس أماً و أباً               وأكرم الناس جميعاً حسبا
    سيد  أهل الحرمين و  الوري           ومن على الخلق معاً منتصبا ))       
     فقال له يزيد: اذا علمت انه خير الناس فلم قتلته؟!.
    فأجابه الشمر: أطلب منك الجائزة. 
   و هذه العقلية السقيمة، يصفها أحد الهاشميين من الذين استشهدوا مع الحسين (ع)، و هو محمد بن عبد الله بن جعفر الطيار، بأرجوزته:
       (( أشكو الى الله من العدوان             قتال قوم في الردى عميان  
        قد تركوا معالم القرآن                   و محكم التنزيل و التبيان 
                       و أظهروا الكفر مع الطغيان)) 
أهداف النهضة الحسينية
      تهدف المدرسة الحسينية في حركتها و ثقافتها الى تحكيم الشرع المقدس، و احقاق الحق، وازهاق الباطل، ونشر العدل بين الرعية، وصلاح دين الامة و دنياها. وليس في حسابها أية مغانم شخصية.
     فالامام الحسين (ع) أوضح هدفه من الثورة على نظام يزيد في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: 
    « واني لم أخرج أشراً ولابطراً ولامفسداً ولاظالماً، و انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص)، اريد أن أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر، و أسير بسيرة جدي  و أبي علي بن أبي طالب».
     و ليس للحسين (ع)  في الثورة على النظام الأموي أي مطمح خاص في سلطة أوجاه أو مال، كجده رسول الله (ص)، الذي أجاب مشركي قريش: 
« لو وضعتم الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه؛ ما تركته ».
 و كأبيه الامام علي (ع)، بقوله حين و افق على الخلافة: 
« اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، و تقام المعطلة من حدودك ».
أهداف السلطة اليزيدية
   الثقافة اليزيدية تعمل ـ أولاً ـ تعمل للدنيا و من أجلها، و كل أهدافها شخصية و مادية صرفة، و على حساب كل القيم و المبادئ الانسانية والىينية و الأخلاقية. وهي ـ ثانياً ـ تحاول في سبيل ذلك، تخريب المجتمع فكرياً و سلوكياً. و قد نجحت في تحقيق قسم من أهدافها هذه في فترات مختلفة من التاريخ، كان أبرزها الفترة الاولى، أي الفترة التي تزامنت مع حركة الامام الحسين (ع).
    ان العلاقة بين نمو الثقافة اليزيدية و بقائها، و المجتمع المنحرف واستشراء أمراضه، هي علاقة تفاعل متبادل ، اذ يساعد المجتمع المنحرف على نشر هذه الثقافة و تغذيتها،  في حين تكرس الثقافة اليزيدية ـ في المقابل ـ أمراض المجتمع  و انحرافاته، و تخلق فيه أمراضاً اخرى. حيث يصف الامام الحسين (ع) الواقع السياسي و الاجتماعي في عهد يزيد و أبيه في مجموعة من كلماته؛ منها قوله مخاطباً أهل البصره: 
«أنا أدعوكم الى كتاب الله وسنة  نبيه (ص)، فان السنة قد أميتت و ان البدعة قد أحييت ». 
و قوله مخاطباً كتيبة الحر بن يزيد الرياحي التي جعجعت به في كربلاء: 
«ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد و عطلوا الحدود، و استأثروا بالفيء، و أحلوا حرام الله، وحرموا حلاله ».
     و قوله في أصحابه: 
«ألاترون الى الحق لايعمل به، والى الباطل لايتناهي عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لا أرى الموت الّا سعادة، و الحياة مع الظالمين الّا برما ».
شرعية الثورة الحسينية
    المدرسة الحسينية هي مدرسة الامامة و الولاية الشرعية؛ المنصوص عليها من قبل الله تعالى. وقد ورد النص على لسان رسول الله (ص) في أكثر من موضع، و منه: 
« الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا »، 
وان «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة » ، 
و انهما « سبطا هذه الامة ». 
كما ان الرسول (ص) أمر بنصرة الحسين بقوله: «ان ابني هذا يقتل في أرض من أرض العراق، فمن أدركه فلينصره ».
    فورث الحسين (ع) إمامة الأمة عن جده النبي الأكرم (ص)، و تصدى لها بعد وفاة أخيه الحسن (ع). يقول الامام الحسن (ع): 
«ان الحسين بن علي، بعد وفاة نفسي و مفارقة روحي جسمي، امامٌ من بعدي، و عند الله (جل اسمه) في الكتاب، وراثة من النبي (ص)... فاصطفى منكم محمداً (ص) و اختار محمدٌ علياً، واختارني علي بالامامة، واخترت أنا الحسين».
     و لذلك فان شرعية وجود المدرسة الحسينية، و أصالة ثقافتها، وتحركها على مختلف المستويات، تنبع من شرعية جذورها ورموزها و خصائصها و أهدافها، وانها القيادة الشرعية الدينية و الزمنية للامة الاسلامية.
     و بقدر تجاهل المدرسة اليزيدية الأموية للشرعية، و رفع راية الحرب ضدها، نرى الوعي العميق لأتباع المدرسة الحسينية لتلك الحقيقة، فهذا يزيد بن مسعود (زعيم البصرة) يخاطب الامام الحسين (ع)، بعد أن دعاه لنصرة، بقوله: 
«ان الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها، أو دليل على سبيل نجاة، و أنتم حجة الله على خلقه، و وديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها و أنتم فرعها ».
    كما يتجسد هذا الوعي بوضوح في ارجوزة العباس بن علي بن أبي طالب (ع)، بعد أن قطعوا يده اليمني خلال الواقعة، حيث يقول:
      (( و الله ان قطعتموا يميني             اني احامي أبداً عن ديني 
     و عن امامٍ صادق اليقين             سبط النبي الطاهر الأمين )) 
شرعية سلطة يزيد بن معاوية
   أتباع المدرسة اليزيدية يصفون يزيد بـ « الخليفة الشرعي »!. أو « أميرالمؤمنين »!؛ برغم كل أفكار الكفر و الشرك التي يحملها و ينادي بها علناً، و كل سلوك الانحراف و الفسق و سفك الدماء والظلم و الاستبداد، فضلاً عن أصل تولية العهد، و شرعية خلافة أبيه معاوية، الذي ولّاه العهد من بعده.
   و قد أجمع الصحابة و معظم التابعين على عدم شرعية ولاية يزيد للعهد و خلافته، و كان ذلك سبياً في دس معاوية السم للامام الحسن بن علي (ع) و لسعد بن أبي وقاص، ثم خروج الامام لحسين بن علي (ع) و عبد الله بن الزبير على يزيد، و خلع فقهاء المدينة و أشرافها يزيد، بعد أن زاروه  ورأوا منه الأعاجيب من أعمال الكفر و الفسق، وكان بينهم عبد الله بن خنظلة (غسيل الملائكة) و عبد الله بن أبي عمر المخزومي والمنذز بن الزبير، فأعلنوا لأهل المدينة: 
« إنّا نشهدكم انّا قد خلعناه »، 
فتابعهم الناس. 
     و قد وصف الشوكاني يزيد بن معاوية بأنه:
 (( السكير، الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة)). 
 كما جزم بكفره و صرح بلعنه القاضي أبو يعلي والحافظ ابن الجوزي و التفتزاني و السيوطي. إذ قال التفتزاني: 
«الحق ان رضى يزيد بقتل الحسين و استبشاره به و اهانته أهل بيت النبي مما تواتر معناه.. فنحن لانتوقف في شأنه، بل في ايمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره و أعوانه ».
     و بذلك فان أبرز ما قامت به المدرسة الحسينية، خلال مسيرتها عموماً و حركتها الثورية خصوصاً، انها قضت على كل ادعاءات المدرسة اليزيدية الأموية، التي حاولت فرض نفسها على المسلمين سلطة شرعية تحكم باسم الاسلام، لتحرفه و تشرع ما تشاء، فسحبت البساط من تحت أقدامها، و كشفت زيفها وبطلانها. كما وضعت المدرسة الحسينية معايير واضحة ثابتة للثقافة اليزيدية؛ لتكشف الامة من خلالها مصاديق المدرسة اليزيدية في كل زمان و مكان. و من ذلك قاعدة الثورة على السلطان الجائر المستحل لحرام الله، حيث خاطب الامام الحسين (ع)، طلائع الجيش الأموي بالقول:
 «أيها الناس، ان رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة الله، يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان، فلم يعير عليه بفعل و لا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ».
امتداد الثقافتين الحسينية واليزيدية
     بقيت الثقافة الحسينية على طول التاريخ تمارس الأدوار ذاتها التي مارسها الامام الحسين (ع) نفسه، و تفرز النتائج العاشورائية ذاتها. و قد عبر الامام الخميني عن هذه الحالة بقوله: «ان هذا الدم الطاهر يغلي على امتداد التاريخ ليستقي دين الله و يحرس ثماره». كما يقول الامام محمد حسين كاشف الغطاء: «الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ». ويقول الامام محمد عبدة في هذا الصدد: «لولا الحسين لما بقي لهذا الدين أثر».
     ونستنتج من كل ذلك، انه لولا المدرسة الحسينية لتحول الدين أموياً، ولأصبح رموز الانحراف هم قادته و فقهاءه، دون أية معارضة.
     وتأثير الثقافة الحسينية في حركة التاريخ ما يزال على قوته نفسها التي كان عليها في البداية، ولا يزال شاخصاً في وعي الامة و ضميرها، فهي لازالت تقدم أنجع الحلول لمشكلة الانسان الاجتماعية وعلي مختلف المستويات، و تجعل الماضي على صلة و تأثير مباشرين بالحاضر والمستقبل. و يختصر الامام الخميني كل هذه القضايا بكلمة واحده: « كل ما لدينا هو من عاشوراء ».
     ان فهم حقيقة منهاج كلا المدرستين ورموزهما و امتداداتهما، ثم الانطلاق من خلال ذلك نحو ممارسة المنهاج الحسيني سلوكاً حياتياً عملياً، سيضمن للمجتمع المسلم الحصول على حاجاته المختلفة في الفكر و العمل، و يضمن له حياة الاستقلال، والعدل، و الكرامة، والحرية، في ظل الحكومة الشرعية.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي المؤمن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/01



كتابة تعليق لموضوع : الحسين .. ثقافة لكل العصور
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net