صفحة الكاتب : ادريس هاني

جغرافيا سياسية فاجرة
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 نحن كائنات تسكن الزمان حتى وهي في حالة تشرد جغرافي مزمن..تأخرنا في الدفاع عن الأرض لأننا كنا ندافع عن الأزمنة الضائعة.. كم من لحظات مفصلية قاتلنا فيها من أجل أحاسيس جماعية وكبرياء نفسي ثم في النهاية نضيع الأرض..في حرب أكتوبر الذي كان أكبر انتصار كان أيضا أكبر خسارة للأرض..وفاوضنا على أرض هي مسمى جغرافيا لكنها مجرد إحساس بأرض مثقلة بالشروط..ظلت أراضينا مغتصبة وأخرى في حالة أسر أو إقامة جبرية.. حائرون بين أن نحتفل بتاريخ مجيد أم نحزن على جغرافيا ممزقة ولا زالت تخضع للتمزيق..خريطة برنار لويس ليس إلاّ تكريس لما هو مزمن في ثنايا جغرافيتنا المفخّخة..تخوم وحدود ملغّمة..التقطيع الجغرافي كأساس للقطيعة التاريخية..أحيانا يصبح تمجيد التاريخ تعويضا عن خلل جغرافي..من ناحية أخرى لا بد من التّأكيد على أننا نواجه تحدّي انحراف الجغرافيا السياسية.. الطوبوغرافية الشبقية..حينما يصبح الاحتلال حقيقة واقعة تولد ظاهرة الفجور التّاريخي.. وتجارة الرقيق..وتجار النّفايات..جغرافيا غير سوية مرتهنة دائما لمن يفرض شروطه عليها..يرتبط العهر السياسي بالجغرافيا الملتبسة..حينما تصبح الجغرافيا موضوعا لسؤال الشرعية والملكية..قانون من أين لك هذا..الرغبة في تقطيع الجغرافيا الذي يعقبه تقطيع في الهوية والتاريخ والثقافة والسياسة والأنا التي هي ملح البقاء المادي والرمزي..لا أحد يسائل أولئك الذين يتمدّدون بلا شرعية غير الغلب..وفي المجال العربي تعيّن أن نضيق ونتفكك اكثر لنساوي دولة الاحتلال بما يناقض قانون ترموديناميكا الأرض..لا بدّ من تبادل حراري مستحيل بيننا وبين إسرائيل لم تعد هندسة سايكس بيكو تكفي..فلصوص الأرض يلاحقوننا باستمرار لاسترجاع ما يبدو أنه فوق حاجتنا..لن يكفوا حتى يحوّلونا إلى أبواب حارات تحمل أحاسيس قارات..أحيانا يتعيّن أن نوقف ترانيمنا التّاريخية ونتحجّر من أجل استرجاع الأرض..
الجغرافيا خلافا للتاريخ لا تحتاج إلى وثيقة..فكل شيء فيها ناطق وأبدي..هي الوجه الثّابت للتّاريخ المتحوّل..الوعي الجغرافي لا يحضر في الثقافة العربية حضور الشعر والتاريخ..لأنّ عرب زمن الانحطاط يجدون في الشعر فرصة للمفارقة المريحة للعقل..كما يجدون في التاريخ فرصة لاختزال العالم في حقائق ظنّية..في الشعر يهيمون في كلّ واد وفي التاريخ يحذفون الحقيقة ويتربّصوا بالوقائع..في الشعر قد يكون أصدق القول أكذبه..وفي التاريخ أصدق القول أجرمه..أمّة تنتهك المضمون المقدّس للحقيقة..حتى شعرها لمّا بات خارج التاريخ ولا يقف على جغرافيا حرّة بات صناعة خاوية على عروشها..والتاريخ هنا ليس سوى صياغات تهيم هي الأخرى في أودية التوافقات..وجب أن ترسوا الجغرافيا العربية على قرار نهائي لكي تعرف كيف تعيد ترميم أشيائها..تصبح الجغرافيا أحيانا عبئا ثقيلا..نلجأ إلى تقطيعه كما نلجأ إلى تقطيع أعضاء من الجسد حينما تتورم الجغرافيا وتصبح أكبر من أن يحتويها حاضر مقطوع من شجرة التاريخ..في المجال العربي قد نتخلّى عن الأرض لنتخلّص من العبئ السياسي للإمتداد..نقطع الجغرافيا تماما كالثعلب العالق في فخاخ الصيادين..وعادة ما يلجأ الثعلب إلى قطع رجله بأسنانه للنجاة من المصيدة..نحن ضحايا مصائد السياسة..ومصائد غبائنا الجغرافي والسياسي.. 
وحدهم الأمريكيون تحرروا من أوزار التّاريخ...يعيشون في هذا الكوكب حياة خاصة..جغرافيا بلا تاريخ...وها قد ورد نابتة هناك ليعلن نهاية التاريخ...بينما نهاية التاريخ هنا تحصيل حاصل..المعني بذلك هي أوربا...حين كفرت أوربا بنهاية التاريخ أرغموها على القبول بنهاية الجغرافيا...كانت بريطانيا وستكون دائما في وارد تقديم الخدمات لابنها المشرد يوما..خدمة مبنية على الإحساس بالذنب...تأخذ بريطانيا من العالم ما تشاء وتأخذ منها امريكا ما تشاء.. تماهت القارة العجوز مع النّمط اللاّتاريخي الأمريكي..وهي هنا كما يصفها رجيس دوبريه بأنّها فقدت تاريخها(أي أوربا) وأصبحت مرتهنة للجغرافيا وهذا سبب انحطاطها..والحقيقة هي أنّ أمريكا استدرجت أوربا إلى لعبة الدينامية الجغرافية..فمع تشظّي أو التلويح بتشظّي أوربا طفت أسوأ الحساسيات التصنيفية وكأنّ ليفياتان ينحر ببطئ شديد..ماذا تريد يا ترى أمريكا بأوربا؟أخذت منها وهج التاريخ وتريد أن ترميها جغرافيا مفكّكة..أوربا الممزقة ستكون أكثر تبعية إلى أمريكا من أوربا موحّدة..وفي السباق الأوراسي فإنّ أوربا مفككة سيكون خطوها أضيق من العملاق الأمريكي..هي في نهاية المطاف إخضاع الجغرافيا إلى قدر الاقتصاد السياسي الآتي لا ريب فيه..ستمر أمريكا إلى المجال الأوراسي من دون ان تراها أوربا..ستمر من الحديقة الخلفية لهذا الكوكب..ولتعطى أدوار أفريقية لأوربا وحاطبي ليل الجغرافيا الممزقة..أفريقيا جغرافيا إلهاء لأوربا والعالم غير الأمريكي..هذا الأخير لا يحتاج إلى استراتيجيا معجزة لاختراق أفريقيا بعد أن يكون قد وضع اليد على أكبر مساحة من المجال الأوراسي، ذلك لأنّ أمريكا غدت هي حلم الأفريقي..لا ننسى أنّ النسبة الأكبر للسود الأفارقة بعد أفريقيا هي في أمريكا..تلك أرض الأجداد لا تنسوا..أوباما برقصة أفريقية يمكن أن يطيح بالصين في أفريقيا..أمّا هل يا ترى ستغادر أمريكا الشرق الأوسط، فإنّ ذلك لا يجري على مستوى التاريخي الداخلي..ما يسميه دوبريه تاريخ داخل التّاريخ..بل هو أمر تشعر به إسرائيل وتشعر به الجغرافيات القلقة..زمان التحوّلات الجيوسياسية أبطأ من الزمان السوسيولوجي..التهويل الزمني يشوّش على الوعي الزمني للتّحولات الكبرى..إشرائيل تضبط إيقاع مستقبلها على أساس هذه الحقيقة..هي وحدها تدرك كيف تقرأ ما في رأس حليفها الذي يجمع حقائيه بالتدريج..هي تسابقه إلى أوراسيا وفي جعبتها التحدّي التقني..تريد أن تعوّض الفشل التاريخ للشرق الأوسط الجديد الذي انهار بفضل المقاومة..مشروع بيريز أولا قبل أن يكون مشروعا لكوندوليزا رايس..حيث يمجّد بالعبقرية اليهودية مقابل الموارد الطبيعية والبشرية العربية..النفط والحرافيش العرب والعقل الابتكاري اليهودي..كان يحلم الحلم الأمريكي لكن في جغرافيا خلقت له مزاجا قلقا نابعا من إحساس كلوستروفوبي..حينما يضيق المجال تتوتّر سيكولوجيا الشعب فتصبح الدولة التي هي جماعهما دولة مارقة..اليوم هناك شرق أقصى جديد يتم التحضير له والسباق نحوه بين أمريكا وإسرائيل..ولأنّه لم يعد اليوم من إمكانية لاستيدال استيطان بآخر، فالهدف بات هو شكل آخر من احتلال الشرق الأقصى..سيسمحون للصين أن تستغرق في أفريقيا وتؤثث بنيتها التحتية قبل أن يفكّر الأمريكي في الرجوع..الصين في أفريقيا ستسمح لأمريكا باختراق سلس لأوراسيا..وتفتيت لأوربا وإشغال روسيا باقتصاد التقسيط الأوربي أيضا يعطي فرصة لإتمام اختراق أوراسيا..يخطئ من يظنّ أنّ الأمريكي يفكر كما يفكر هؤلاء..لذا وجب الحذر على طول ممشى البقر..
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/06



كتابة تعليق لموضوع : جغرافيا سياسية فاجرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net