صفحة الكاتب : د . علي المؤمن

الإصلاح الترقيعي والإصلاح المنهجي للواقع العراقي الحلقة الثلاثون
د . علي المؤمن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من كتاب حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي

     لقد كان التعويل بعد عام 2003 على الزمن والمخططات العلمية لحل أزمات العراق المستعصية، وكان كلامنا كأصحاب الاختصاص يتمحور حول خطة ستراتيجية استشرافية؛ أمدها المناسب هو 50 عاماً؛ تتوزع على عشر خطط خمسية أو خمس خطط عشرية؛ أي أنها تنتهي في عام 2053، ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات وأخذت تتراكم بشكل مرعب بسبب انشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والأنقاض الموروثة الهائلة التي خلفها النظام البعثي؛ ولما تنتهي بعد. 

      في الجهود البحثية التي طرحناها في فترة ما بعد عام 2003؛ تم التأكيد على ضرورة الإلتصاق بالواقع، والانطلاق من الواقع في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية، وبالتالي تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر الى مشاكل العراق وأزماته. ورغم مرور أكثر من 12 عاماً على تغيير نظام الحكم في العراق؛ إلّا أن شعارات الوحدة الوطنية واللحمة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن؛ لم تنفع في معالجة مشاكل العراق وحل أزماته؛ لأن كل فريق ينظر الى العراق من زاويته، وكل مكون يريد عراقاً مفصلاً على مقاسه كما ذكرنا سابقاً. 

     قد يرى بعض المعنيين أن الدراسات الحفرية لا ضرورة لها؛ لأنها تكشف عن المشاكل والعقد والأزمات، وتشنج الأوضاع وتثير الحساسيات، فضلاً عن أنها لون من التنظير والترف الفكري كما يقولون. ومثل هؤلاء الناس يفضلون حقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم معالجته علاجاً حقيقياً، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ أما بدافع الإبقاء على بنية الدولة العراقية كما كانت عليه قبل 2003، أو بدافع الحرص على الوضع النفسي للشعب كي لا تثار مخاوفه. وكلا هذين الدافعين غير واقعيين، ولا يحلان مشكلة ولا يعالجان مرضاً.

 

مقاربات العلاج

       في مقاربات العلاج ربما من المفيد اعتماد "فرضية عامة"، والاستناد الى "قاعدتين أساسيتين": 

 الفرضية: إن أزمات العراق ليست مميتة وقاتلة وميؤوس منها؛ بل هي أزمات مزمنة صعبة؛ بالإمكان إيجاد العلاجات والحلول لها؛ وإن كانت هذه العلاجات موجعة ومرّة وخطيرة وطويلة الأمد. 

القاعدة الأولى: قبول الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين للمكونات الدينية والمذهبية والقومية في العراق بحقائق العراق الثابتة، وبالوقائع الجديدة التي أفرزها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية عام 2003، والقبول باستحقاقاتها وتبعاتها، وعدم تجاوزها والعبور عليها؛ لأن في تجاوزها إصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات، ومن هذه الحقائق: 

1- إن العودة الى عراق ما قبل عام 2003؛ بايديولوجيته وثقافته وسلوكياته الطائفية العنصرية بات مستحيلاً، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات الشوفينية الطائفية؛ أصبح جزءاً من هذا الماضي المؤلم، وإن اجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي؛ حاله حال النازية في المانيا والشوفينية في ايطاليا والفرانكوية في إسبانيا، ومن غير الواقعية الطلب الى ذوي الضحايا المصالحة مع القتلة المصرين على ايديولوجيتهم؛ بل ومن غير الجائز بكل المعايير الأرضية والسماوية الطلب الى القتلة والإرهابيين والطائفيين الشوفينيين؛ العودة الى وضعهم السياسي والثقافي والعسكري؛ كما كانوا.

 

التركيبة الاثنية

2- إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة؛ بنسبها المعروفة، وما يترشح عن هذه النسب من استحقاقات طبيعية؛ يفرضها الواقع والقانون:

أ‌- الشيعة العرب، ويشكلون حوالي 56 بالمئة من سكان العراق. ولذلك فمن الطبيعي أن يكون للشيعة العرب حضورهم المتناسب مع نسبتهم العددية في الدولة وسلطاتها.

ب‌- السنة العرب ويشكلون حوالي 16 بالمئة.

ت‌- السنة الكرد ويشلكون حوالي 14 بالمئة.

ث‌- إن الشيعة بعربهم وكردهم وتركمانهم وفرسهم وشبكهم يشكلون حوالي 65 بالمئة من سكان العراق؛ أي أنهم الأكثرية السكانية المطلقة. 

ج‌- إن الكرد ليسوا سنة وحسب؛ بل أن الكرد الشيعة تصل نسبتهم الى حوالي 5 بالمئة من نفوس العراق، وبذلك تكون نسبة الكرد السنة والشيعة حوالي 19 بالمئة من نفوس العراق، ويترتب على هذه عدم استفراد الكرد السنة باستحقاقات المكون الكردي.  

3- إن السنة العرب لم يعد باستطاعتهم احتكار السلطة وقرار الدولة؛ كما كانوا طيلة مئات السنين، كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة العراقية، ولم يعد الكرد متمردون كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الكرد والتركمان والشبك مواطنون من الدرجة الثالثة؛ بل بات الجميع مشاركون مشاركة واقعية في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالاعتبار استحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق. 

4- إن عقيدة الجيش العراقي لم تعد عقيدة طائفية عنصرية؛ هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الاعتداء على دول الجوار؛ بل عقيدة وطنية محضة، وإن مهمته هي حماية سيادة الدولة وحدودها.

إن المناهج التعليمية؛ ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية؛ لم تعد تكتب وفقاً للبنية الطائفية والعنصرية للسلطة العراقية السابقة؛ بل وفقاً لآلية علمية، وآلية التوازن بين التوزيع المذهبي والقومي للسكان، وهو ما ينطبق على وسائل إعلام الدولة والحكومة أيضاً، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة. 

 

مفهوم التعايش الوطني وشعار الوحدة الوطنية

القاعدة الثانية: استبدال الشعارات المفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة؛ بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق، وفي مقدمها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي، وأول هذه االشعارات؛ شعارالوحدة الوطنية، وتقريبه من مفهوم التعايش المشترك؛ لأن شعار الوحدة الوطنية شعار ضبابي وعائم وملغوم، ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق كان يفسر الوحدة الوطنية  بأنها الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة الأحادية الايديولوجيا الشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن؛ كما هو الممكن في البلدان التي لا تعاني من التركيبة القومية والمذهبية السكانية التي لا يحسد عليها العراق.

      و شعار الوحدة الوطنية بدلالاته الموروثة من النظام السابق؛ شبيه بشعار وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين الى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائما؛ حيث قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي تحت شعار الوحدة الوطنية. وقد أثبت شعار الوحدة الوطنية خلال مرحلة ما بعد عام 2003 أنه شعار نظري وغير عملي؛ إذ أنه لم يحقق وحدة واقعية بين أبناء الوطن الواحد. 

      أما مفهوم التعايش الوطني فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق؛ حتى وإن ترشح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الاتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو ربما انفصال إقليم كردستان، أو استحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافية الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه.

وهذا هو سلوك الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة؛ الذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة؛ ولكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وانسجام. 

 

حلول التعايش المشترك

      وعليه؛ يكون التطبيق الواقعي لمفهوم التعايش المشترك في العراق التعددي الجديد؛ متمثلاً بما يلي: 

1- تعديل الدستور تعديلا شاملاً؛ يشمل الجانبين الفني والمادي، ويضع خاتمة لكل الثغرات التي تسببت طيلة الفترة الماضية بتعميق الخلافات السياسية بين المكونات العراقية والفرقاء السياسيين. 

2- تغيير النظام السياسي البرلماني الحالي الى النظام الرئاسي- البرلماني؛ على غرار النظام السياسي الفرنسي أو المصري؛ فيكون هناك رئيس جمهورية منتخبٌ انتخاباً مباشراً من قبل الشعب؛ يتمتع بصلاحيات تنفيذية يحددها الدستور، ويكون القائد العام للقوات المسلحة في الوقت نفسه، كما يكون هناك برلمان منتخبً شعبياً، ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب باختيار مرشح الكتلة النيابية الأكبر التي يحدد الدستور مواصفاتها بدقة؛ ليكون رئيساً للوزراء؛ بعد التصويت على كابينته في مجلس النواب، وفي هذا النظام تكمن فلسفة التعايش الحقيقي بين مكونات الشعب العراقي. 

3- العمل بمقتضى ما تفرضه الأنظمة الديمقراطية من وجود حكومة منسجمة سياسياً، ووجود معارضة داخل البرلمان وخارجه، ويتم تشكيل الحكومة المنسجمة سياسياً التي تحظى بأغلبية برلمانية؛ من جماعات وأعضاء يمثلون التنوع العراقي؛ أي حكومة أغلبية؛ فيها تمثيل واقعي متوازن للعرب والكرد والتركمان والشبك؛ بشيعتهم وسنتهم، فضلاً عن الأقليات الدينية القومية، وتذعن هذه المنظومة الحكومية الى حقائق الديمغرافيا العراقية في نوع المشاركة وحجمها، وينطلق تشكيل هذه الحكومة من نقطة تشكيل تيارات منسجمة سياسياً؛ تتصدرها أحزاب تنتمي الى الأكثرية السكانية، وينضوي تحتها جماعات وأفراد من كل الطوائف والقوميات، وتدخل الانتخابات كقوائم وطنية وليس قوائم مذهبية أو قومية، أما الائتلافات والأحزاب التي لا تحقق الأغلبية؛ فإنها تبقى في المعارضة؛ وإن زعم بعضها إنه يمثل مكوناً معيناً. 

4- تقنين واقع دولة التعددية القومية والمذهبية والجغرافية؛ التي تحقق التعايش المشترك بين المختلفين؛ على قاعدة قناعتهم بهذا العيش المشترك؛ من خلال الدولة العادلة الإنسانية. 

5- إعطاء المحافظات الشيعية الثماني حقها في استعادة توازنها النفسي والاجتماعي والسياسي والعمراني؛ على وفق نسبة الإرباك الذي تسبب فيه ظلم النظام البعثي السابق لها، وأخذ استحقاقاتها من المناصب المركزية، ومن الثروات والتعليم والاعمار والبنى التحتية؛ على حسب ما تكتنزه أرضها من ثروات طبيعية، وعلى وفق حجمها السكاني. 

6- إن من حق المحافظات السنية الثلاث استعادة توازنها واخذ استحقاقها من البناء والثروات والمناصب؛ على وفق حجم الدمار الذي لحق بها جراء عبث الجماعات الإرهابية فيها بعد 2003، وعلى حسب حجمها السكاني وما تتمتع به من ثروات، بل أن من حق أية محافظة أو مجموعة محافظات؛ تشكيل إقليم؛ وفقاً لما نص عليه الدستور.

7- أما إقليم كردستان الذي توحدت فيه المحافظات الكردية الثلاث؛ فإن من حقه العمل وفقاً لآلية تقرير المصير؛ وصولاً الى إقامة دولة مستقلة؛ إن أراد مواطنوه ذلك؛ لأنه حق يكفله القانون الدولي، ولو بادر أي إقليم أو مكون قومي وديني ومذهبي الى إجراءات قانونية ودستورية تتعلق بشكل العلاقة بالحكومة المركزية؛ فإن الأخيرة ليس من حقها إجبار ذلك الإقليم أو المكون على العمل وفق إرادتها السياسية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي المؤمن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/10



كتابة تعليق لموضوع : الإصلاح الترقيعي والإصلاح المنهجي للواقع العراقي الحلقة الثلاثون
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net