• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الحسناء والذئب .
                          • الكاتب : حيدر الحد راوي .

الحسناء والذئب

تجول الذئب كعادته في تلك الغابة , يبحث عن طريدة , يفتش الارض , يحدق في الاشجار , يراقب حركات القرود , يستمع الى زقزقات العصافير , فشم عطرا أخاذا , تناقلته نسمات الهواء الخفيفة , لم يعهده من قبل , رفع راسه واخذ شهيقا عميقا , حتى امتلئت رئتاه , فتحرك نحو مصدره , بهدوء وترو , متخفيا بين أغصان الاشجار والاعشاب الطويلة , فسمع صوت انثوي رخيم , يغني بمرح وسرور , طفحت به الغريزة , فاسرع الخطى , حتى وصل الى مكان مكشوف , ليس فيه اشجار , توسطته بركة ماء , حفتها ازهار زاهية الألوان , فأذا بتلك الحسناء , تجلس تارة على المرج , وتارة ترقص وتغني , برشاقة وتأني , تنحني على الزهور تشمها وتداعبها . 

اتخذ له مكانا مخفيا بين الاغصان , يراقب ويستمتع بالمنظر , ويشنف اسماعه بذلك الصوت الرخيم , فأطلق زفرة , فيها حسرة , وقال : 

- ليتني كنت انسانا ... او حيوانا اليفا ... فيتسنى لي الاقتراب منها اكثر ... ولعلها ستداعبني بـيديها الناعمتين ! . 

 قطفت بعض الازهار وهامت بالرحيل , تعقبها بحذر , حتى خرجت من الغابة , وتوجهت نحو القرية المجاورة , فأقفل عائدا . 

في اليوم التالي , انتظرها في نفس المكان , يراقب الطريق , حتى وصلت , تتمتم وترقص , القت التحية على الازهار : 

- مساء الخير ... 

شعر الذئب بجسده يذوب كشمعة , ورد عليها التحية بصوت خافت : 

- مساء الخير ! . 

شرعت بحفر حفر صغيرة , واقتلعت بعض الازهار من اماكنها الحرجة , وغرستها في تلك الحفر , ثم ملئت ابريقا من ماء البركة وسقتها جميعا , فقال الذئب بحسرة : 

- أشعر بالعطش ! . 

نظرت الى ساعتها وقالت مخاطبة الازهار : 

- اليوم يجب ان اعود سريعا ... فأمي مريضة ... ويجب ان اعد طعام العشاء لوالدي واخي ! . 

اقترب احد القرود , فسرق الابريق , طاردته بالمعول الصغير , فولى هاربا , صارخا , وصرخت بدورها في القرود : 

- لا تعبثوا بأزهاري ... سمعتم يا مشاكسين ! . 

ودعت الازهار واقفلت عائدة الى البيت , شاهد الذئب القرود تقترب من الازهار , فشعر بمسئوليته في الحفاظ عليها , انقض عليها مغضوضبا , واخذ يدور حول الازهار , وكأنه الحارس الامين ! . 

في اليوم الثالث , وعندما اقتربت ساعة مجيئها , غادر الذئب , وقبع جالسا في مكانه السري , تفحصت الازهار وقالت : 

- عجيب ... لم تعبث الحيوانات بأزهاري ... وكأن حارسا كان يحرسها ! . 

فقال بصوت خافت اجش : 

- نعم ... انه انا ! . 

وصل صيادان كانا يتجولان في الغابة , يصطادان الطيور , فنظرا اليها نظرات مريبة , وسألها احدهم : 

- ماذا تفعلين في هذا المكان ؟ . 

- اعتني بحديقتي هذه ! .      

نظر كلا منهم في وجه الاخر , فأدرك الذئب انهما بيتا نوايا سيئة , وضع احدهم البندقية جانبا , والقى الاخر بما يحمل من الطيور , وسارا نحوها ببطيء , فأدركت خطر الموقف , التفتت يمينا ويسارا , وبدأت بالتراجع الى الوراء وتقول : 

- ماذا تنويان ... دعوني وشأني ! . 

انتفض الذئب من مكانه , وشن هجوما سريعا ومباغتا , فحال بينهما وبين البندقية , وهربا بطريق , وهربت الحسناء من طريق اخر , طاردهما حتى تأكد من عودة الحسناء الى قريتها بسلام , فعاد ليحرس الازهار , وتناول الطيور عشاءا دسما لذيذا ! . 

                        ************************* 

لم تأت الحسناء الى الازهار مرة اخرى , لكن الذئب استمر بالحراسة ولم يقطع الامل . 

- ربما سوف لن تعود ! . 

وعلى حين غرة , جاءت الحسناء , فوقفت على الازهار وتفحصتها , ابتسمت للازهار وقالت : 

- هل هناك حارسا يحرسكم ؟ ... لازلتم كما تركتكم ... لم يعبث بكم حيوان ... لكني يجب ان اعود بسرعة والا عاد الصيادان ... ولحدث امرا فظيعا ... في المرة السابقة انقذني ذئب ... عجيب ! ... ذئب متوحش ينقذني من ابناء جنسي من البشر ... لا يسعني الا ان اقول شكرا لهذا الذئب ! ... ان شاهدتموه بالجوار اشكروه نيابة عني ! . 

احس الذئب بحرارة تسري في جسده , فتنملت اعضاءه , وخر مستلقيا على الارض , فسمع زئير اسد , قطع على الحسناء طريق العودة , فأستيقظ من حالته , وتخلص من غريب ما اعتراه , وهجم على الاسد , فأشتبكا بقتال دامي , يرمق الحسناء وكأنه يقول لها ( اهربي ... اهربي  ... فهذه هي اللحظة المناسبة ) , هربت الحسناء , وعندما خرجت من دائرة الخطر , أفلت نفسه من قبضات الاسد , وولى هاربا بدوره , لكن مثخنا بالجراح ! . 

                           *************************** 

لم تعد الحسناء مرة اخرى , لكنه مستمرا بالحراسة والانتظار , رغم الجراح واتصال الغياب , حتى شاع خبر الذئب العاشق بين حيوانات الغابة , تسلق فهد شجرة ما , فهربت القرود الى اعالي الاغصان , و قفز اخرون الى الاشجار المجاورة , فقال لهم : 

- لا تخافوا ... ليس من اجلكم تسلقت ... بل لاسترق النظر لذلك الذئب المتوحش العاشق ! . 

ثم انفجر مقهقها , فقطعت عليه قهقهاته قردة عجوز : 

- وما شأنك انت ؟ . 

شعر الفهد بالاستفزاز واجاب : 

- جئت لارى تأثير الجمال على الوحش الكاسر ! . 

- وماذا رأيت ؟ . 

- ذئبا متوحشا خائر القوى ... يكاد يموت من نار الهوى ! . 

- ذلك الحب ... العشق ... وتلك اثاره ! . 

- لكنه غير متجانس ... فذاك ذئب ... وتلك حسناء ادمية ! . 

- اصعب ما في العشق ... ان يكون المحبوب صعب المنال ! ... او يكون حب من طرف واحد ! .  

- اعجب لتأثير الجمال على قلوب الوحوش القاسية فتلين ... ونبضت تلك القلوب بالعشق ... فسمت الدماء ... واسقمت الابدان ! . 

- الان وقد رأيت كل ذلك ... فماذا تريد ان ترى اكثر ؟ . 

- انتظر قدوم تلك الحسناء ! . 

- وما تريد منها ؟ . 

- اضرب الذئب حتى يشارف على الموت ... ثم امضغ لحمها امام ناظريه ... فيزداد عذابا الى عذابه ! . 

- لماذا ؟ . 

- ليس للوحوش حق في العشق والغرام ... وليس لها ان تلين قلوبها وتخرج من فطرتها ... يجب ان يبقى الوحش وحشا ! .

- لكن ليس الذئب وانت من ينتظر قدومها ! . 

- من غيرنا اذا ؟ . 

- انظر هناك ... الاسد ينتظر ايضا ! .            

اندهش الفهد عندما شاهد الاسد يجلس مترصدا في مكان قريب , ثم قال احد القرود : 

- انظروا هناك ... الصيادان مختبئان ايضا ! . 

فقال الفهد مندهشا ( تلك الحسناء لم تجن على الذئب فقط , بل ستجني على سكان الغابة ) . 

                     ***************************** 

جلس الاسد في زاوية ما , يراقب حركات الذئب الجريح , ويقول بصوت خافت : 

- ايها الذئب الولهان حلت بيني وبين فريستي في المرة السابقة ... والان سأقتلك وامضغ لحمها واشرب دمها وادق عظامها ما ان تصل الى الازهار ! . 

                 ******************************* 

بينما الصيادان متواريان بين الاغصان , قال احدهما للاخر : 

- انه ذلك الذئب الذي هجم علينا ! . 

- انت تقتله ... وانا امنعها من الهروب ... ثم نفعل فعلتنا ونغادر ! . 

شم الذئب عطرا ذكيا , مشابه لما شمه اول مرة , فبدأ قلبه بالخفقان , نهض مسرعا ليتوارى في مكان قريب , وأستعد الجميع لتنفيذ خطته , ما ان وصلت الحسناء الى الازهار , كان الاسد اول الممثلين ظهورا على المسرح , فكان الذئب له بالمرصاد , وجه الاسد ضربة موجعة القته ارضا , في غضون ذلك , صوب احد الصيادين بندقيته نحو الاسد , فأصابه اصابة طرحته ارضا من غير حراك , ثم توجه الصياد الاخر مسرعا نحو الفتاة , فحال بينه وبينها الفهد , الذي قفز عليه وطرحه ارضا , جثة بلا حراك , بينما اطلق الصياد الاخر النار على الفهد , فأرداه قتيلا , ثم رمق الحسناء بنظرة غضب , واجال بصره في الميدان , انفطر قلبه لموت صديقه , فطرح البندقية جانبا , وتوجه نحو الحسناء قائلا : 

- سانتقم لصديقي ... لا مفر لك مني اليوم ! . 

لم يكن الذئب قد لفظ انفاسه بعد , فأستجمع قواه , ليقترب من الصياد الاعزل , وباغته بقفزة عاشق مجروح , التهبت جراحه , ليغرس انيابه في عنقه , وليقتلع حنجرته , فسقطا معا على المرج , فأختلس الذئب النظرة الاخيرة , نظرة الوداع , واطلق زفرته الاخيرة ! .    




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=27140
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 02 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28