صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

تعليقات حول وصايا المرجعية العليا للخطباء والمبلغين
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

صدرت من المرجعية الدينية العليا لسماحة السيد السيستاني أدام الله ظله الوارف وصايا للخطباء والمبلغين قبل شهر محرم الحرام سنة 1441هـ (2019م) كي ينتفعوا بها ويعملوا وفقها. ونرجو أن نرى اهتماماً بها - ولو بعد حين من صدورها- يليق بالمضامين الحقة لهذه الوصية وبمقام المرجعية العليا التي حرصت على إصدار هكذا وصية جامعة لما ينبغي أن يسير عليه الخطباء والمبلغون. ولو تمعنّا بهذه الوصية المباركة لوجدناها طريقاً لو استقام عليه الخطباء والمبلغون ومن يستمع لهم لآتاهم الله خيراً كثيراً، قال تعالى: {وأنْ لَوِ استَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسقَيناهُم ماءً غَدَقاً}.

هذه الوصية المباركة التي كُتبت بشكل حِكَم موجودة في موقع سماحة السيد على الرابط https://www.sistani.org/arabic/archive/26341/

ولو تأمل الإخوة المؤمنون فيها لرأوا تركيزاً في اهتمام سماحة السيد على أمور جوهرية ينبغي الاهتمام بها والتركيز عليها والعمل وفقها من قبل الجميع، وأعني العقائد الحقة والقرآن الكريم ونفي الغلو.

وفيما يلي نستعرض بعضاً مما ذكره سماحته في وصيته المباركة:

1- (الحكمة الأولى: الاهتمام بالقرآن الكريم في الخطاب اهتماماً أكيداً، فإنّه رسالة الله سبحانه إلى الخلق كافّة وثقله الأكبر في هذه الأمّة وميزان الحقّ والباطل، وقد أنزله الله سبحانه هدىً ونوراً وبصائر للناس، وهو ذكر مبارك وحكيم، وإنّما كانت سيرة أهل البيت صلوات الله عليهم وتضحياتهم تطبيقاً لتعاليمه وامتثالاً لها، فينبغي أن يكون هو واجهة الخطاب ووجهه ويكون ذكر ما سواه في ظلّه وتحت لوائه)

تعليق: يجعل سماحة السيد للاهتمام بالقرآن الكريم في الخطاب أولوية كبرى، هذا الكتاب الذي شرّفنا الله تعالى بتنزيله لكي يكون السبيل لحياة كريمة في الدنيا وفلاح في الآخرة. وقد أكّد سماحة السيد أن الأئمة سلام الله عليهم إنما هم تبع للقرآن الكريم في تعاليمه، وهذا يمثل مفهوم كونهم سلام الله عليهم الثقل الأصغر التابع للثقل الأكبر القرآن العظيم.

وما أروع عبارته حفظه الله تعالى: (فينبغي أن يكون هو واجهة الخطاب ووجهه ويكون ذكر ما سواه في ظلّه وتحت لوائه). وهذا يعني أن الحديث عن الأئمة سلام ربي عليهم إنما يكون تحت ظل القرآن الكريم.

إن الأئمة سلام الله عليهم قد عظّموا القرآن أيّما تعظيم ودَعَوا إلى جعله إماماً للناس يسترشدون به. فعن أمير المؤمنين سلام الله عليه في خطبة له حول فضل القرآن الكريم وردت في كتاب نهج البلاغة: (وَاعلَمُوا أَنَّ هذا القُرآنَ هُوَ النّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالهادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكذِبُ. وَما جالَسَ هذا القُرآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قامَ عَنهُ بِزِيادَةٍ أَو نُقصانٍ: زِيادَةٍ فِي هُدىً، أَو نُقصانٍ مِن عَمىً. وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَيسَ عَلَى أَحَدٍ بَعدَ القُرآنِ مِن فاقَةٍ، وَلاَ لِأَحَدٍ قَبلَ القُرآنِ مِن غِنىً; فاستَشفُوهُ مِن أَدوائِكُم، وَاستَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأوائِكُم، فَإنَّ فِيهِ شِفاءً مِن أَكبَرِ الدّاءِ، وَهُوَ الكُفرُ وَالنِّفاقُ، وَالغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسأَلُوا بِهِ خَلقَهُ، إنَّهُ ما تَوَجَّهَ العِبادُ إلَى اللهِ بِمِثلِهِ. وَاعلَمُوا أَنَّهُ شافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَن شَفَعَ لَهُ القُرآنُ يَومَ القِيامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَن مَحَلَ بِهِ القُرآنُ يَومَ القِيامَةِ صُدِّقَ عَلَيه، فَإنَّهُ يُنادِي مُنادٍ يَومَ القِيامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حارِثٍ مُبتَلىً فِي حَرثِهِ وَعاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيرَ حَرَثَةِ القُرآنِ; فَكُونُوا مِن حَرَثَتِهِ وَأَتباعِهِ، وَاستَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُم، وَاستَنصِحُوهُ عَلى أَنفُسِكُم، وَاتَّهِمُوا عَلَيهِ آراءَكُم، وَاستَغِشُّوا فِيهِ أَهواءَكُم).

2- (الحكمة الثانية: تضمين الخطاب ـ حيث يقتضي المقام بنحوٍ ما ـ ما يثبت أصول العقيدة الحقّة ودلائلها المحكمة من أدلّة قويّة ووجدانيّة بأساليب ميسّرة وقريبة من الفهم العامّ، كما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبويّة وآثار العترة الطاهرة، وذلك لمزيد ترسيخها في نفوس الناس ودفع الشكّ والشبهة عنها بما يزيح تلك الشبهة عنها ويزيل وهن التقليد والتلقين فيها، وذلك كأن يذكر المبلّغ ضمناً دلائل وجود الله سبحانه من روائع الكون وعجائب الخلقة ممّا يشهده الإنسان بوجدانه أو يطّلع عليه من خلال الأدوات والحقائق العلميّة، ودلائل صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله وحقّانيّة هذه الرسالة ممّا جاء في القرآن الكريم وتضمّنته شواهد التاريخ وثوابته الواضحة).

تعليق: يؤكد سماحته على أن العقيدة إنما تُعرَض وفق ما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبويّة وآثار العترة الطاهرة بأسلوب مُيسّر قريب من الفهم العام كي ترسخ أكثر في نفوس الناس. لأن عَرض هذه المفاهيم بأساليب معقدة أو بأساليب لا يفهمها الناس بيُسر سوف لا يؤدي الغرض من عرضها. وهذا التعقيد والبعد عن الفهم يحصل في كثير من الأحيان عندما لا يكون القرآن المجيد والسُّنّة المُحكَمة هما المرجع في طرح أمور العقيدة، فيُستبدلا بتأويلات المتأوِّلين بغير هدى من الله ورسوله صلى الله عليه وآله ومن العترة الطاهرة سلام الله عليهم، وبالاستدلالات العقلية المعقّدة التي اتخذها البعض طريقاً لمعرفة العقيدة بلا شاهد واضح من الكتاب أو السُّنّة. وهذه الاستدلالات تبتعد عما تعارف في مدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم ويُتّبَع فيها أناس لم يستندوا فيها إلى ركن وثيق باتباع العترة الطاهرة سلام الله عليهم. وقد استلزم هذا ظهورَ بدَع سار عليها الكثير من الناس مع الأسف.

ومن الأمور العقائدية الجوهرية التي هي من أصول الدين والتي قلّ التركيز عليها في أوساطنا التبليغية هي دلائل صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله وحقّانيّة رسالة الإسلام، والتي لا يمكن الذود عن هذا الدين إلا بمعرفتها، ولا يمكن إثبات إمامة أهل البيت سلام الله عليهم بدون إثبات نبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وآله. ولا شك أن هذا أهم من الاستغراق في أي شيء يقل عنه أهمية. ولو تحصّن المجتمع بهذه المعرفة لأمكنه صد هجمات الملحدين والمبشرين النصارى وغيرهم من الذين يريدون النيل من هذا الدين القويم.  

3- قال سماحته في الحكمة الثانية أيضاً: (وليذكّر المبلّغ تذكيراً مؤكّداً بالدار الآخرة وأهمّيّتها حيث يؤتى كلّ امرئ بصحيفة أعماله في هذه الحياة وتوضع موازين القسط ليوم القيامة فيكون لكلّ امرئٍ ما سعى إليه من خصال وأعمال فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا الحسنى).

تعليق: ركز سماحته على التذكير المؤكَّد بالآخرة. فلو هُجر ذكر الموت وما بعده من سؤال منكر ونكير ويوم القيامة والجنة والنار سيؤدي هذا إلى أن يخلد الناس إلى الدنيا ويطمئنوا بها وبما يعملون فيها سواء كانت أعمالهم حسنة أو سيئة، وخاصة مع وجود الآمال العريضة التي يرسمها الكثير من المبلغين والخطباء بأن بعض الأفعال والأذكار توجب الجنة، مما يورث الاطمئنان في قلوب الناس بأن هذا سيُكفِّر عنهم خطاياهم وسيكونون في أمان من أهوال يوم القيامة وأنهم سيدخلون الجنة حتماً. وبالتالي سيضمحلّ الخوف من دخول النار التي أوعد الله العاصين بها. بل ترقّى الأمل عند الكثير وصار واقع الحال (وربما المقال أيضاً عند البعض) مشابهاً لعقيدة الفداء عند النصارى الذين يعتقدون بأن المسيح سلام الله عليه قد تحمل خطايا أتباعه عندما صُلِب حسب زعمهم.

إنّ من تدبّر في كتاب الله تعالى لَلاحظ وجود آيات كثيرة متعلقة بالآخرة وأهوال يوم القيامة ومصير المطيعين والعاصين. ولا يصح الإعراض عن هذه الآيات الجليلة والاتكال على آمال رسمها بَشَر لم يتدبروا في كتاب ربهم ودلالاته.

4- في الحكمة الثانية كذلك: (وفي خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة مَثَل أعلى لما ينبغي أن يشتمل عليه الخطاب، حيث إنّه عليه السلام يبدأ بذكر الله سبحانه وآياته في الخلق ويذكّر الناس بحقّه العظيم عليهم بخلقه لهم وإنعامه عليهم، ويصف رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله بما اشتملت عليه من دلائل ومعانٍ، ويصف الدار الآخرة وصفاً يستحضرها به المخاطَبون حتّى كأنّها نصب أعينهم، ويذكر مكانة أهل البيت عليهم السلام في هذه الأمّة وامتيازهم كما يصف وجوهاً من الحكمة والقيم الفاضلة تزيد في الرشد وتساعد على التربية الاجتماعيّة القويمة والصالحة، ولذكر ذلك كلّه مراتب حسب اقتضاء المقام.

كما أنّ في أدعية الصحيفة السجّاديّة الشريفة مَثَل أعلى لما يمكن أن يذكره المبلّغ في خاتمة خطابه فيقتبس فقرة منها ويدعو بها ليستحضر الناس الأدعية البليغة لأئمّة الهدى صلوات الله تعالى عليهم)

تعليق: إن أسلوب خُطب أمير المؤمنين سلام الله عليه في نهج البلاغة يضع منهاجاً صحيحاً لما ينبغي أن يسترشد به المبلغون من حيث مراعاة أن تكون الأولوية في العقائد لله سبحانه بإثبات توحيده وبيان عظمته وحقه على عباده جل شأنه، ثم بيان عظمة القرآن الكريم وبديع ما فيه وضرورة جعله إماماً للناس يسترشدون به، ثم وصف رسالة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وبيان حقانيتها - ويلاحَظ هنا بوضوح إجلال وتعظيم الإمام سلام الله عليه لسيده رسول الله صلّى الله عليه وآله- ثم وصف الآخرة وصفاً يجعل المخاطَبين يشعرون كأنّهم يرونها، مما يورث اليقين في نفوسهم بيوم القيامة وبما فيه من مواقف واليقين بالجنة بحيث يرغب بها المستمعون وبالنار فيخافون منها. وهو سلام الله عليه -كما قال سماحة السيد- يصف وجوهاً من الحكمة والقيم الفاضلة تزيد في الرشد وتساعد على التربية الاجتماعيّة القويمة والصالحة.

أما الصحيفة السجادية فإنها تضمنت أصول العقائد الحقّة وبيان العُبودية الصحيحة، فالإمام السجاد سلام الله عليه قد أكّد على التوحيد وتعظيم الله تعالى وتمجيده والتذلل له سبحانه وبيان عظمة القرآن الكريم وبديع ما فيه وذكر النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وحقانية أهل البيت سلام الله عليهم والتأكيد على حسن العاقبة عند الموت والحذر من أهوال الآخرة كما في قوله سلام الله عليه: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبارِك لَنا فِي حُلُولِ دارِ البِلَى، وَطُولِ المُقامَةِ بَينَ أَطباقِ الثَّرَى، وَاجعَلِ القُبُورَ بَعدَ فِراقِ الدُّنيا خَيرَ مَنازِلِنا، وَافسَح لَنا بِرَحمَتِكَ فِي ضِيقِ مَلاحِدِنا، وَلا تَفضَحنا فِي حاضِرِي القِيامَةِ بِمُوبِقاتِ آثامِنا، وَارحَم بِالقُرآنِ فِي مَوقِفِ العَرضِ عَلَيكَ ذُلَّ مَقامِنا، وَثَبِّت بِهِ عِندَ اضطِرابِ جِسرِ جَهَنَّمَ يَومَ المَجازِ عَلَيها زَلَلَ أَقدامِنا، وَنَوِّر بِهِ قَبلَ البَعثِ سُدَفَ قُبُورِنا، وَنَجِّنا بِهِ مِن كُلِّ كَربٍ يَومَ القِيامَةِ وَشَدائِدِ أَهوالِ يَومِ الطّامَّةِ، وَبَيِّض وُجُوهَنا يَومَ تَسوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ فِي يَومِ الحَسرَةِ وَالنَّدامَةِ ).

 إن من يتمعّن في الصحيفة السجادية المباركة سيتعلم أسلوب الدعاء الصحيح ويتبين له كيف يتذلل الإمام سلام الله عليه لربه تعالى وكيف يرجوه ويتوسل إليه وكيف يدعوه سبحانه مباشرة كما قال تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم} وكما قال جلّ شأنه: {وإذا سألَكَ عِبادِي عَنِّي فانِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} بلا حاجة لأي واسطة بينه وبين ربه عزّ اسمُه، وكيف أن الدعاء سلاح فعال للمؤمن يمكن استخدامه لمختلف الأمور عظيمِها وصغيرِها. وهذا الأسلوب في الدعاء هو نفسه في مختلف الأدعية البليغة لباقي الأئمّة سلام الله عليهم.

إن التدبّر في كلام الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم يدلّ على أن محورية الدين إنما تصب في:

  1. العبودية لله تعالى أولاً كما هو نهج القرآن الكريم، قال تعالى: {وَما خَلَقتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلا لِيَعبُدُونِ}. وهذا يتطلب تركيز الاهتمام بما يؤدي لهذا الأمر كإقامة الدلائل على إثبات وجوده سبحانه واعتقاد التوحيد الحق في ذات الله عزّ وجلّ وفي صفاته وخالقيته لكل شيء وربوبيته وعبادته وحده والابتعاد عن الشرك الجَلي والخفي، وجعل محبة الله في قلب الإنسان أقوى من محبة النفس والأهل وكل مخلوق أياً كان، وغير هذا من مظاهر ومستلزمات أولوية العبودية لله عزّ وجلّ،
  2. ثم بيان حقانية الرسالة المحمدية وكتابها المجيد وما يتعلق بشخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من صفات وفضائل كي يقتدي به الناس ويدفعوا الشبهات التي يذكرها أعداء الإسلام حول شخصه الكريم. وكذلك توضيح عظمة كتاب الله تعالى وبيان ما فيه من إعجاز وهداية للبشرية، خاصة ما يناسب فهم أهل هذا الزمان، وبيان ما يتضمنه من الحكم والمواعظ والأحكام الشرعية وقصص الأنبياء والرسل سلام الله عليهم، قال الله تعالى: {لَقَد كانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ} وقال سبحانه: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ}،
  3. ثم الآخرة وما فيها وأهمية الإيمان بها كما مرّ بيانه،
  4. والإيمان بأن للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله خلفاء مفترضي الطاعة، قال الله تعالى: {يا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولِي الأَمرِ مِنكُم}، وهم سلام الله عليهم يوضحون للناس دين ربهم عن طريق معرفتهم الراسخة بالقرآن الكريم وما ينقلونه عن سيدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، ويكون قولهم وفعلهم وتقريرهم سنة تهتدي الأمة بها.

5- (الحكمة الثالثة: الاهتمام ببيان التعاليم والقيم الفطريّة السامية الإلهيّة والإنسانيّة المتمثّلة في دعوة النبيّ وعترته صلوات الله عليهم وفي ممارساتهم وحياتهم، وتوضيح محلّهم في الأسوة والاقتداء). ثم يقول سماحته: (ومن ثَمّ ينبغي عرض أصول هذه التعاليم والقيم من خلال القرآن الكريم مقروناً بما يتمثّل منها في محاسن أقوالهم ومكارم أخلاقهم وسيرتهم حتّى شهادتهم والتنبيه على مقتضياتها في العصر الحاضر. فإنّ ذلك أوفى ببيان شخصيّتهم ومقاصدهم التي ضحّوا من أجلها مع ما فيه من القيام بوظيفة الدعوة الإلهيّة إلى الله تعالى).

ثم يلخص سماحته الموضوع بقوله: (وعلى الإجمال فإنّه لا بدّ من تركيز المبلّغين والدعاة على عناصر الرشد والحكمة والأخلاق في أقوالهم ومسيرتهم صلوات الله عليهم واستنطاقها عنها والاهتمام بإيضاحها والدعوة إلى وعيها واتّباعها والتأسّي بها بما يلائم مقتضياتها في الزمان الحاضر).

تعليق: إن سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أفضل نموذج تحتذي به البشرية كي تفلح في دنياها وأخراها، قال تعالى: {لَقَد كانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ واليَومَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. وتبعه في هذا أهل بيته سلام الله عليهم، فهم العروة الوثقى التي مَن تمسك بها أَمِن مِن الضلالة ومَثَّل القيم التي جاء بها الإسلام ناصعة سليمة من الانحراف وضَمنَ السعادة في الدار الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الحديث المتواتر: (إني تارك فيكم الثَّقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يَرِدا علي الحوض)، وقال صلى الله عليه وآله: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق).

وهذا يتطلب من الخطباء والمبلغين أن يعرضوا ما في هذه السير الكريمة من أقوال النبي وآله صلوات الله عليهم وأخلاقهم الراقية وأفعالهم وباقي سيرتهم على أن يكون القرآن الكريم هو المنبع في عرض مكارم الأقوال والأفعال لهم صلوات ربي عليهم، فهو الثقل الأكبر الذي أمر الرسول صلى الله عليه وآله بالتمسك به، ثم تطبيق ما جاء فيه على سيرتهم كما قال سماحة السيد: (ومن ثَمّ ينبغي عرض أصول هذه التعاليم والقيم من خلال القرآن الكريم مقروناً بما يتمثّل منها في محاسن أقوالهم ومكارم أخلاقهم وسيرتهم حتّى شهادتهم والتنبيه على مقتضياتها في العصر الحاضر).

وهنا يلاحظ تأكيد سماحته على التنبيه على ما تقتضيه مكارم السيرة الشريفة في العصر الحاضر. وهذا كي تكون الفائدة أكبر بأن نعيش مقتدين بسيرتهم صلوات الله عليهم فعلاً. فالإسلام يصلح لمختلف الأزمنة والأمكنة وليس هو ديناً نظرياً يخالف الواقع العملي، بل هو دين يتعلق بمختلف مفاصل الحياة ويضمن للبشرية الطريق الأقوم في دنياها وأخراها، قال تعالى: {وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبُوا فأخَذناهُم بِما كانُوا يَكسِبُونَ}، وعن الإمام علي الرضا سلام الله عليه: (رَحِمَ الله عبداً أحيا أمرنا) فقال الراوي: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: (يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبَعونا).

6- في الحكمة الثالثة أيضاً: (وليسعَ الشعراء إلى تضمين قصائدهم حول أهل البيت صلوات الله تعالى عليهم المعاني الراشدة والمذكّرة والحكيمة والفاضلة ليساعد في تنمية العقل وتحفيز الرشد وتحريك الضمير وتفعيل الفطرة ومزيد الاعتبار، اقتفاءً بكتاب الله سبحانه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وآثار عترته الطاهرين عليهم السلام ولأنّ ذلك هو السياق المناسب لعرض سيرة الأئمّة صلوات الله عليهم وتضحياتهم وما جرى عليهم، فإنّ للشعر البليغ جمالاً بالغاً وأثراً كبيراً في النفوس وقدرة فائقة على تأجيج المشاعر وتهييجها، فينبغي الانتفاع به على الوجه الأمثل للغايات الراشدة والنبيلة).

تعليق: حث سماحة السيد أدام الله ظله الوارف الشعراء على أداء دور رسالي يساعد في تنمية العقل وتحفيز الرشد وتحريك الضمير وتفعيل الفطرة ومزيد الاعتبار. وهذا يعني أن لا ينحسر دور الشاعر الحسيني في تهييج العواطف واستدرار الدموع. وأكد سماحته على اقتفاء الشعراء في هدفهم الرسالي بكتاب الله سبحانه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وآثار عترته الطاهرين عليهم السلام. وهذا يتطلب أن يكون الشاعر ذا معرفة بكتاب الله وسنة النبي وآله صلوات الله عليهم كي يُمَيز ما ينفعه وما ينفع الناس في شعره وأن لا يتكل على أمور مخالفة لما في الكتاب والسنة كالغيبيات التي لا مستند لها والأحلام وكلمات الغلو التي انتشرت مع شديد الأسف والكلام غير الرصين.

7- (الحكمة الرابعة: بيان وصاياهم صلوات الله عليهم الخاصّة إلى أتباعهم ومحبّيهم، وذلك أنّ لأئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ مضافاً إلى بياناتهم للأحكام وتوصياتهم العامّة للمسلمين وتأكيدهم على أهمّيّة الاهتداء إلى محلّ أهل البيت عليهم السلام في هذه الأمّة واصطفائهم منها ـ وصايا خاصّة لمحبّيهم وأتباعهم، فينبغي الاهتمام بإيصالها إليهم حتّى يتأدّبوا بآدابهم وتكون أعرافاً راسخةً في أوساطهم.

وتؤكّد تلك الوصايا على الالتزام العمليّ بتعاليم دينهم والتوادّ بينهم والسعي إلى التحلّي بخصالهم صلوات الله عليهم ومكارم أخلاقهم حتّى مع المختلفين في الدين والمذهب فضلاً عن المشتركين فيهما، كقول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعاة إلى الخير بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا)).

تعليق: يُرشد سماحته هنا إلى وصايا الأئمة سلام الله عليهم الخاصة بشيعتهم لغرض أن يوصي بمثلها الخطباء والمبلغون ولتكون منهاج عمل لأنفسهم ولمستمعيهم من المؤمنين. ولو اتبع الناس هذه الوصايا لأصبحوا دعاة إلى الخير بغير ألسنتهم ولصار لهذا المذهب الحق جاذبية قوية تقرب إليها كل ذي رشد من غير أتباع هذا المذهب لأنها تُمَثل أرقى الأخلاق الفاضلة التي تنشدها البشرية في تعاملها مع بعض، وقبل هذا تمثل صدق التديّن الحقيقي فيما بين العبد وربه عزّ وجلّ.

ورغم وجود هذا الميراث الأمثل من أئمتنا سلام الله عليهم فإننا نرى اليوم انكفاءً عجيباً وانعزالاً وتطرفاً في الخطاب بحيث يتسابق بعض الخطباء لتنفير الآخرين من هذا المذهب القويم باتباع الغلو في كلامهم وبالانتقاص - أحياناً- من الأنبياء سلام الله عليهم، خاصة حينما يقارنونهم مع أئمتنا سلام الله عليهم وبالطعن في رموز الغير على مرأى الجميع من خلال التسجيلات المرئية التي يمكن أن تصل إلى كل مكان. لذا جاءت وصية مرجعنا السيستاني الحكيم العارف بكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وأئمته سلام الله عليهم لتعيد رسم خارطة الطريق الذي مثله القرآن العظيم وسيرة أهل البيت صلوات الله عليهم، والذي يوصل إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

8- (الحكمة الخامسة: أن يحذر المبلّغ في بيان أهمّيّة العقائد الحقّة ومسلّمات مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم في شأن مقاماتهم الشريفة من أن يوهن أهمّيّة الطاعات ويهوّن المعاصي في أعين الناس، فإنّ أمر المؤمن لن يصلح إلّا بالخوف والرجاء، فلا بدّ من حفظ المؤمن للموازنة بينهما في نفسه وفي شأن الآخرين، ولا تأمين في الدين لأحد في ارتكاب شيء من المعاصي عدا اللمم، وهي ما يتّفق من المرء أحياناً من معصية غير كبيرة ثمّ ينتبه ويؤوب إلى الله تعالى، وعلى المبلّغ الفطن أن لا يؤمن الناس من عقاب الله تعالى على معصيته، ولا يؤيسهم من رجائه وعفوه وشفاعة أوليائه بإذنه سبحانه فيما إذا نصحوا له وآبوا إليه، وليذكروا ويذكّروا بمثل قوله سبحانه: {وَيَدعُونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا} (الأنبياء: 90)، وقوله تعالى: {وأن لَّيسَ لِلإِنسانِ إِلا ما سَعَى * وأنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى * ثُمَّ يُجزاهُ الجَزاءَ الأَوفَى} (النجم: 39 ـ 41)، وقوله عزّ وجلّ: {لَيسَ بِأَمانِيِّكُم وَلا أَمانِيِّ أَهلِ الكِتابِ مَن يَعمَل سُوءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (النساء: 123)، وقد تقدّم من أحاديث أهل البيت صلوات الله تعالى عليهم ما يؤكّد ذلك).

تعليق: إن سماحة السيد حينما يوصي بهكذا وصية فهو يقرأ الواقع بدقة، لأن الحال قد وصل بالخطاب الديني في كثير من حالاته إلى هذه المرحلة التي حذر سماحته منها، أي توهين أهمية الطاعات وتهوين المعاصي في أعين الناس من خلال الوعود المفرطة بالنجاة في الآخرة ودخول الجنة لمجرد موالاة أهل البيت سلام الله عليهم أو لمجرد زيارة الحسين سلام الله عليه أو لغير هذا من الأسباب المتعلقة بمحبة أهل البيت سلام الله عليهم وبدون ذكر القيود التي يلزم مراعاتها للفوز بثمار ولايتهم وشفاعتهم سلام الله عليهم. وهذا قد أغرى الناس بارتكاب الذنوب بحجة أنها ستُغفر لهم نتيجة بعض ما ذكرناه، وأيضاً بعدم الاهتمام بالكثير من الواجبات الإلهية لأنهم تخيلوا أنهم قد ضمنوا دخول الجنة. وهذا كله يمثل ابتعاداً عن تعاليم أئمتنا سلام الله عليهم، فعن جابر عن الإمام الباقر سلام الله عليه: (يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء - إلى أن قال : أَحَبُّ العباد إلى الله عزّ وجلّ أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر والله ما نتقرب إلى الله عز وجل إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة. مَن كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تُنال ولايتُنا إلا بالعمل والورع). وعن طاووس أنه رأى الإمام علياً زين العابدين سلام الله عليه يطوف ويتعبد عند الكعبة المشرفة ويدعو ربّه سبحانه قائلاً: (جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد صلى الله عليه وآله في عرصات القيامة)، ويقول أيضاً: (فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمُخفّين جوزوا وللمُثقلين حطّوا، أمع المخفين أجوز؟ أم مع المثقلين أحط؟)، ويقول بعد ما بكى: (سبحانك تُعصَى كأنك لا تُرَى، وتَحلُم كأنك لم تُعصَ، تَتَودّد إلى خلقك بحُسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم). ثم خرّ إلى الأرض ساجداً؟ قال طاووس: فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالساً وقال: (من الذي أشغلني عن ذكر ربي؟) فقلت : أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن علي وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: فالتفت إلي وقال: (هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي. خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً. أما سمعت قوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح).

9- (الحكمة السادسة: تجنّب طرح ما يثير الفرقة بين المؤمنين والاختلاف فيهم، والاهتمام بالحفاظ على وحدتهم وتآزرهم والتوادّ بينهم).

تعليق: ما ذكره سيدنا المعظم في تفصيل الكلام في (الحكمة السادسة) لا يحتاج لمزيد بيان لمَن تدّبر فيها ونزع التعصب من نفسه. ومن يتمعن في سيرة سماحة السيد أدام الله ظله الوارف سيكتشف أن ما يقوله سماحته في هذه الفقرة إنما هو مشابه لأسلوب سماحته في التعامل مع أتباع أهل البيت سلام الله عليهم سواء كانوا من مقلديه أو لم يكونوا، وكذلك مع بقية المسلمين. فسماحته يضع أولوية كبرى لوحدة أتباع آل البيت صلوات الله عليهم فيما بينهم ووحدة المسلمين عموماً فيما بينهم وعدم تشتتهم، لأن في هذا قوة لهم ينتفعون بها وتكون سدّاً منيعاً أمام الأعداء الذين يريدون النيل من هذا الدين العظيم ومن مذهب آل محمد صلى الله عليه وآله.

وهنا حذّر سماحته من أمور هي موجودة فعلاً في مجتمعاتنا بسبب قصر النظر وقلة التورع لدى البعض مما أدّى إلى مزيد تفرقة بين المؤمنين وخلق عداء نحن في غنى عنه. ولا يخدم إلا أعداء الدين والمذهب الحق. ولو عمل هؤلاء بوصية سماحة السيد هذه لاستقام الأمر.

10- (الحكمة السابعة: تجنّب القول بغير علم وبصيرة)، ثم يقول سماحته: (وعلى الإجمال: فإنّه ينبغي للمبلّغ أن يكون ذا فضيلة في العلوم ذات العلاقة، متجهّزاً بالأدوات اللازمة، ممارساً في موضوع بحثه وحديثه، مطّلعاً على المعلومات المتعلّقة بذلك، متحوّطاً فيما لا يعلمه أو لم يتعلّمه بعد). وكذلك يقول: (وليحذر المرء من الابتداع والبدع، وهي إضافة شيء إلى الدين ليس منه ولا حجّةً موثوقةً عليه فيه، فإنّ الابتداع في الدين من أضرّ وجوه الضلالة فيه، وهي تؤدّي إلى تشعّب الدين إلى عقائد متعدّدة وانقسام أهله إلى فرق وأحزاب مختلفة ومتقاطعة ـ كما نشهده في كثير من الأديان والمذاهب ـ، وقد جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله التحذير من البدعة وأنّ شرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار).

تعليق: ذكر سماحته في رسالته العملية "منهاج الصالحين" ج1 مسألة 30 عند تعداد أعظم المعاصي أن "القول بغير  علم أو حجّة" من هذه المعاصي. وهذا الأمر يسري في مختلف أقوال الناس في حياتهم. وقد بيّن سماحة السيد بتفصيل ووضوح وظيفةَ المبلغ والخطيب فيما يتعلق بهذه المسألة. والجهل بهذه الوظيفة قد يؤدي إلى البِدَع، وهي إضافة شيء إلى الدين ليس منه ولا حجّةً موثوقةً عليه فيه. ولو طبقنا هذا التعريف بصورة صحيحة لوجدنا بعض ما يتم تداوله إنما هو من البدع. والبدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار.

11-  (الحكمة الثامنة: أن يلاحظ المبلّغون ـ فضلاً عن سلامة مضمون خطابهم ـ آثاره التربويّة على المخاطَبين والمجتمع).

  تعليق: إن كلام سماحة السيد هذا وما يتعلق به مما ذكره بعده واضح ولا يحتاج لمزيد بيان.

إن أسلوب الخطاب الحالي الذي حاول سماحة السيد تقويمه في هذه الحكمة الثامنة وما سبقها وما بعدها قد جرّ إلى مآسي خطيرة، منها:

* تسطيح العقول بسبب الابتعاد عن التركيز على التحديات الفكرية التي تواجهنا من قبل مدارس الإلحاد المختلفة، ومن تأثيرات الحداثة التي تغلغلت في أوساطنا، ومن حملات التبشير بالنصرانية وبغيرها من الأفكار والأديان غير الإسلامية، ومن قبل الجهات التي تنتمي للإسلام وهي تنصب العداء لنا، ومن قبل الجهات التي تنتمي للتشيع وهي مُسخَّرة لخدمة الأعداء في التشكيك بعقائدنا وقياداتنا الشرعية وفي التفريق بين المؤمنين.

* ضعف الدراية بأساليب الأعداء للنيل منّا ومن مصادر قوتنا بسبب زيادة الانشغال بالنفس وقلة التفكير في الهم المشترك وما يصون عزتنا وكرامتنا ووجودنا، وظهور أخلاق وطباع ليست من شيمنا ولا مما يرضى بها أئمتنا سلام الله عليهم كجعل الولاء الديني والمذهبي متأخراً عن غيره من الولاءات وجعل محبة الغير مقدمة على محبة الإخوان في الله بحجة الانتماء إلى العشيرة أو الوطن.

* قلة الاهتمام بالجانب الأخلاقي الذي يتجلّى بأروع ما يكون في سيرة أهل البيت صلوات الله عليهم بحيث قَلّت الألفة بين المؤمنين وزادت قسوة القلوب وكثر التناحر بين الأفراد والعشائر.

* قلة الاهتمام بالحلال والحرام وضعف التفقه بأمور الدين.  

وبدلاً من هذا استغرق الخطاب بتأجيج العاطفة على حساب الفكر الناضج المستعد لتحمل المسئولية الفكرية وبالسرد التاريخي الذي ملل الناس أحياناً بسبب التكرار.

ومن الجدير بالذكر أننا حين ننتقد الخطاب الموجود بالساحة فلا نعني به كل الخطاب ولا كل المناطق التي يتواجد بها أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم.

12- في الحكمة الثامنة أيضاً ذكر سماحته: (وليحذر المبلّغون والشعراء والرواديد أشدّ الحذر عن بيان الحقّ بما يوهم الغلوّ في شأن النبيّ وعترته صلوات الله عليهم،

والغلوّ على نوعين:

إسباغ الصفات الألوهيّة على غير الله سبحانه،

وإثبات أمور ومعانٍ لم تقم حجّة موثوقة عليها،

ومذهب أهل البيت عليهم السلام خالٍ عن الغلوّ بنوعيه، بل هو أبعد ما يكون عنه، وإنّما يشتمل على الإذعان للنبيّ وعترته صلوات الله عليهم بمواضعهم التي وضعهم الله تعالى فيها من دون زيادة ولا إفراط، بل مع تحذّر في مواضع الاشتباه، وورعٍ عن إثبات ما لم تقم به الحجّة الموثوقة، وإنّما المتّقي من لا يغلو فيمن يحبّ كما لا يحيف على من يبغض، ولا يصحّ بناء هذه المعاني على مجرّد المحبّة، وتصديق كلّ من زاد شيئاً، والإذعان له بمزيد الإيمان، فإنّ ذلك يؤدّي إلى المزايدة في أمر الدين بغير حجّة، وحدوث البدع، وطمع الجاهلين، وترؤّس أهل الضلالة، وتراجع المتورّعين العاملين بالحجّة والمتوقّفين عند الشبهة، وذلك يمحق الدين ويرتدّ ارتداداً معاكساً بتفريط آخرين، والزيادة في العقيدة بغير حجّة موثوقة على حدّ النقصان فيها ممّن قامت عليه الحجّة عليها، ومن زاد اليوم شيئاً بغير حجّة زيد عليه غداً حتّى أنّه ليُتّهم بالتقصير والقصور، فلزوم الحجّة والميزان أحمد وأسلم).

  تعليق: يستحق موضوع الغلو أن يلقَى الاهتمام اللازم به لأهميته الكبيرة ولكونه محل ابتلاء خطير هذه السنين، فإن الاسترسال في الغلو يمكن أن يؤدي إلى خلل في التوحيد الذي هو أساس العقائد الإسلامية، سواء كان توحيد الذات الإلهية أو الصفات أو الخالقية أو الربوبية أو العبودية لله سبحانه.

وقد قسّم سماحة السيد الغلو إلى نوعين: أولهما (إسباغ الصفات الألوهيّة على غير الله سبحانه)، وهذا هو الأخطر والذي قد يؤدي إلى الإشراك بالله سبحانه وتعالى. ومن الخطير في هذا النوع هو ما إذا جرى تنظير له يجعل المغالين يعتقدون أنهم ليسوا من الغلاة وإنما من العارفين بمقامات النبيّ وعترته صلوات الله عليهم كما هو الحاصل فعلاً. وقد يستند هؤلاء المُغالون على (أمور ومعانٍ لم تقم حجّة موثوقة عليها) كما أشار سماحة السيد في النوع الثاني من الغلو. بل صارت بعض الروايات المتعلقة بالعقائد وهي ضعيفة السند أو لا أساس لها متداولةً بشكل مستفيض بحيث يعتقد الناس أنها صادرة فعلاً من أهل البيت صلوات الله عليهم، لأن الخطباء والمبلغين الذين ينقلونها إنما يذكرونها بصيغة يُجزَم معها بأنها صحيحة الصدور.

ومما ساهم في نشر هكذا مفاهيم عدم التوضيح الكافي للناس عن كيفية استسقائهم لمصادر عقيدتهم. فالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأهم لمعرفة العقيدة الصحيحة، والذي يلزم على الناس معرفة عقيدتهم منه بدرجة أساس، لا نرى له حضوراً يليق به على ألسن العديد من الخطباء والمبلغين من حيث التدبّر في آياته وما فيها من دلائل قدرة وعظمة الله تعالى وأن كل من دونه إنما هو عبدٌ له سبحانه لا يشاركه في ألوهيته أو في صُنعه لمخلوقاته، وغير هذا مما يبين العقيدة الصحيحة التي يلزم اتباعها. وهذا يعني أن المصدر الأول للعقيدة الصحيحة - بعد الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله- مُغيّب بدرجة معتدٍّ بها. والنتيجة هي اللجوء إلى بعض الروايات وأقوال القائلين كبديل عن القرآن الكريم. ولكن أي روايات هذه التي لجئوا إليها؟ هل إلى الروايات التي تمثل الدِّين الحق لأهل البيت سلام الله عليهم وعبوديتهم لله عزّ وجلّ وذكرهم الكثير له سبحانه وإيلائهم أهمية قصوى لكتاب الله والتدبر فيه وجعلهم محورية الدين متجهة إلى عبودية وطاعة الله عزّ وجلّ؟ الجواب هو أن مساحة ذكر هذه الروايات ليس بالمستوى المطلوب، والبديل عنها هو الروايات التي لا تخلو من خلل سندي أو دلالي وبلا عرض لها على الكتاب الكريم كما أمرنا أهل البيت صلوات الله عليهم مثل ما ورد في الكافي الشريف عن الإمام الصادق سلام الله عليه: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوابٍ نُوراً فَما وافَقَ كِتابَ اللَّه فَخُذُوه وما خالَفَ كِتابَ اللَّه فَدَعُوه)، وبلا توضيح للناس أن اللازم في الأمور العقائدية هو حصول العلم للإنسان بهذه العقيدة بلا تقليد لغيره، وأن أخبار الآحاد حتى لو كانت صحيحة فإنها لا توجب العلم بحد ذاتها، إنما توجب ما دون العلم كالظن، والظن في العقائد لا يكفي، قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً}. وهنالك بديل آخر عن الكتاب الكريم في العقيدة لدى البعض هو اجتهادات بعض الأعلام بغير مستند واضح من الكتاب الكريم ومن السنة المحكمة للنبي وآله صلوات الله عليه وعليهم.

إن ما توصل إليه سماحة المرجع الأعلى لأتباع أهل البيت صلوات الله عليهم هو أن (مذهب أهل البيت عليهم السلام خالٍ عن الغلوّ بنوعيه، بل هو أبعد ما يكون عنه، وإنّما يشتمل على الإذعان للنبيّ وعترته صلوات الله عليهم بمواضعهم التي وضعهم الله تعالى فيها من دون زيادة ولا إفراط). و يا ليت جميع المبلغين والخطباء يتوصلون إلى ما توصل له سماحة السيد كي نبقى أمة وسطاً بلا تفريط أو إفراط.

ثم يذكر سماحته أربع حكم أخرى ليصل العدد إلى اثنتي عشرة حكمة، وهذه الحكم الأخيرة واضحة لمن تدبر فيها. وقد كان هدفنا في التعليقات السالفة التأكيد على ما هو الأهم وما يحتاج لتأكيدات أكثر. وإلا فوصايا سماحة السيد حفظه الله تعالى إنما هي مجموعة دُرر مبثوثة من شاء أن يلتقط منها فقد غنم.

نسأل الله تعالى التوفيق والفلاح في الدنيا والآخرة، إنه تعالى هو الولي الرحيم. وصلى الله على سيد الخلق محمد وآله الطاهرين.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/17



كتابة تعليق لموضوع : تعليقات حول وصايا المرجعية العليا للخطباء والمبلغين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net