استلاب الوطنية عند العراقيين
سلمان رشيد الهلالي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
سلمان رشيد الهلالي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
(على الوطنية ان لاتعمي عيوننا عن رؤية الحقيقة , فالخطأ خطأ بغض النظر عمن صنعه او فعله) مالكوم اكس
استعرضنا في مقالات سابقة ظاهرة استلاب الحرية واستلاب الشجاعة عند العراقيين , واليوم نكمل مشروعنا الفكري في تفكيك السلوكيات النفسية والممارسات الاجتماعية التي يمارسها الفرد العراقي (الشيعي خاصة), وتعريتها ونقدها وتحليلها وسحبها من منطقة اللاشعور المظلمة الى منطقة الوعي والتنوير , حتى لاتبقى (عقدة) متضخمة قد تتحول بمرور الزمن الى (عقيدة) متجذرة ومنهج عمل وراي عام وخطاب شامل يكتسح النظام المعرفي والثقافي للمجتمع العراقي – كما حصل عندنا في استلاب الحرية والشجاعة – الذي بدأ كعقدة نفسية عند الانتلجنسيا الشيعية المخصية التي عاصرت الحكم الطائفي والبعثي , وتاثرت نفسيا بممارساته الاعلامية والتخوينية والقمعية , ثم تحول الى نسق فاعل وخطاب عام ومفهوم راسخ , امتد بتاثيره ونتائجه حتى الى الجيل الجديد الذي لم يعاصر تلك الانظمة الاستبدادية , ولم يخضع لخطابها بصورة مباشرة من خلال اليات التكرار والاعلام والتلقي .
الاستلاب : هو فقدان الانسان لوجوده الجوهري , الذي ينتج عن رد الفعل غير العقلاني والموضوعي للاتهامات التي يطلقها الاخر عليك . . بمعنى ان اي فرد او جماعة عندما تتعرض الى حملة من الاستهداف والاتهام والتشكيك والطعن , من قوة مركزية وسلطوية وايديولوجية تحتكر الخطاب والمفاهيم , فان ردة الفعل تكون من خلال خيارين :
1 - اما مواجهة تلك الاتهامات والطعون بشجاعة ومهاجمتها ونقدها وتعريتها .
2 - او الاستسلام الى تلك الاتهامات والركون لها والتصديق - لاشعوريا - بخطابها التخويني والانسياق لمقولاتها الاقصائية . وهذا الامر يعتمد على قوة الهوية وتضامنها وفاعليتها وتوحدها , وبما ان الجماعة الشيعية في العراق هى بالاصل تفتقر الهوية والتضامن العضوي والتوحد السياسي , فانها اختارت – للاسف - الاستجابة الثانية لهذا الاتهام والاستهداف ,وهو الركون لخطاب المركزية السنية والحكومات الطائفية ضدها , والتسليم بمقولاتها الذي كان الغرض منه ترويضها وتدجينها وتشويهها من خلال توجيه شتى الاتهامات الاجتماعية والاخلاقية لها , وتخوينها والطعن بعروبتها ووطنيتها واسلامها , واتهامها بالتبعية والاجنبية والصفوية والمجوسية والهندية وغيرها . وكان من اهم الاتهامات والطعون الى وجهتها المركزية السنية والسلطات الطائفية والقومية الحاكمة للاغلبية الشيعية هو : انعدام الوطنية وتفضيل المذهب على الوطن والتبعية لايران او للغرب .
وقبل ان نبدأ بشرح هذه الظاهرة وتحليلها وتفكيكها اجتماعيا وسياسيا , لابد ان نرجع الى الوراء قليلا ونعرف كيف تبلور مفهوم الوطنية في العراق ؟؟ وماهى القوى السلطوية الحاكمة التي صنعت هذا المفهوم ؟؟ اذ يعتقد كثيرون خطأ ان الوطنية مفهوم مجرد ومتعالي وبديهي وبسيط , ويمكن ان يفهمه او يتاثر به اي انسان , وهم ربما يقصدون التعريف المدرسي الخطابي للوطنية وهو (حب الوطن) , وليس مفهوم الوطنية المعقد الذي تبلور مع تاسيس الدولة الحديثة عام 1921. ولانريد الدخول بتعريف الوطنية وتطورها التاريخي والسياسي في العراق وانماطها الخمسة , لان كل ذلك ذكرناه بدراستنا المفصلة في موقع الحوار المتمدن (تطور الوطنية في العراق) وهى بخمسة اقسام , ولكن يجب ان نذكر حقيقة محددة وهى : ان مفهوم الوطنية الحالي والدارج عند الانتلجنسيا العراقية بخاصة هو صناعة الدولة العراقية الحديثة التي اسسها الانكليز عام 1921 , وهو ليس بالغريب او المنقصة , فالوطنية هى بالاخير من افرازات الدول الحديثة والانظمة السياسية , الا ان الاختلال فيها ان تلك الانظمة ,وبمساعدة سلطات الانتداب البريطاني ادرجت مفاهيم وتصورات طائفية وعنصرية في تلك الوطنية , بحيث تنال من الاغلبية الشيعية والاكراد وتقتصر في مطابقتها واطروحاتها على السنة العرب .
وقد ادرجت هذا النمط من الوطنية في الدراسة السابقة (تطور مفهوم الوطنية في العراق) (القسم الثاني) بالقول (وتبلور هذا النمط على هامش تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . وهو اول نمط وطني تفرضه الحكومة العراقية من خلال استخدام مقدرات الدولة الاعلامية والمالية والتعليمية والعسكرية , واستند الى الايديولوجية القومية العربية كاساس عقائدي وعمق استراتيجي للاقلية السنية الحاكمة في البلاد , والارتكاز على المحيط العربي الكبير في مواجهة الاغلبية العربية الشيعية التي اتخذت صف المعارضة للحكومة العراقية , بعد اعلانها الموافقة على المعاهدة العراقية – البريطانية عام 1922 , التي رسخت واكدت سلطة الانتداب البريطاني , ومن ثم انعدام الاستقلال الحقيقي والتمثيل المتوازن والعادل لفئات المجتمع العراقي , فاشاعت الحكومة من خلال كتابها واتباعها وصحفها بان من وقف ضد انتخابات المجلس التاسيسي - الذي سيقوم بالمصادقة على المعاهدة - وحرم المشاركة فيها من رجال الدين ومراجع الحوزة العلمية عام 1923 في النجف والكاظمية , انما فعل ذلك لاسباب طائفية واجنبية ,وليست دوافع وطنية , واستندت في هذه الاتهامات الحكومية الى الدعم الانكليزي الذي اراد الترويج للمفهوم الوطني / القومي العربي في بداية تاسيس الدولة العراقية لمواجهة عقبتين :
الاولى : مواجهة الاتراك والميول العثمانية عند اهل السنة في العراق - وخاصة طبقة الافندية منهم - الذين كانوا يمثلون طليعة المثقفين والاداريين , والخوف من النجاحات التي حققها اتاتورك من ان تشكل انبعاثا جديدا للعثمانية .
الثاني : مواجهة النمط الوطني العراقي الثوري الاول (المؤسس) الذي يشكل الشيعة دعامته الاساسية والمنادي بالاستقلال التام والديمقراطية الحقيقية .
وقد اتحدت النخبة الملكية الحاكمة والضباط المنشقين عن الدولة العثمانية المعروفين بالضباط (الشريفيين) الذين تسلموا اغلب مقاليد الادارة والحكم في مواجهة النمط الوطني الثوري الحقيقي الذي يشكل الشيعة ركيزته الاساسية , من اجل الحفاظ على صيغة المعادلة الطائفية الحاكمة منذ قرون اولا , والاستحواذ على مقدرات الدولة ومناصبها ومراكزها الرفيعة ثانيا , وقد ذكر الكاتب الامريكي اريك دافيس في كتابه (مذكرات دولة ) (ان سبب تبني الملك فيصل الاول والضباط الشريفين المنشقين عن الدولة العثمانية للقومية العربية , هو لانهم ليسوا من اصول عراقية , ولم يتبنوا المنهج الوطني العراقي). فيما اكدت الكاتبة الامريكية سيمون (ان علما وخوذة وملكا اجنبيا لن ينتجوا هوية وطنية) . ويعد المنظر القومي – التركي الاصل – ساطع الحصري من ابرز المروجين لهذا النمط الوطني /القومي في مواجهة الحركة الوطنية والاستقلالية المناوئة لصيغة التاسيس الحكومية والسلطوية تحت الرعاية او الوصاية البريطانية , فقد اعترف في مذكراته بالتحالف والتنسيق مع المستشارين الانكليز في مواجهة تلك الحركة والترويج للقومية العربية . وكانت من اهم الاسس والمفاهيم التي رسخها هذا النمط الوطني /القومي على الاغلبية العربية الشيعية المعارضة هو (العجمة) وتعني الاصول الاجنبية او الفارسية لنسبهم , واعتبارهم طارئين او وافدين على البلاد من اماكن اخرى يحددونها بحسب طبيعة الصراع . وقد ظهر بمواجهة هذا النمط الوطني / القومي او الحكومي والسلطوي احزابا وشخصيات وجمعيات من بقايا النمط الوطني الشيعي الاستقلالي الاول , اتخذ صيغة وطنية عراقية معارضة للتوجهات الحكومية الاقصائية , وكان على راسها الحزب الوطني العراقي (اول الاحزاب السياسية في الدولة العراقية ) الذي راسه محمد جعفر ابو التمن , هو شخصية شيعية متنفذه اجتماعيا وماليا , وصف بانه (ابو الوطنية العراقية) , فيما وصف حزبه ايضا بانه (ابو الاحزاب الوطنية) , نتيجة لمواقفه الاستقلالية المناوئة لسلطات الانتداب البريطاني , وخروج العديد من اهم التوجهات السياسية العراقية التي وصفت تاريخيا بالوطنية من مدرسته وهى ( جمعية النهضة العراقية وجماعة الاهالي الليبرالية والحزب الشيوعي العراقي وجمعية الاصلاح الشعبي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال العراقي) . وقد اشاعت السلطات الحاكمة ان هذه الجمعيات والشخصيات والاحزاب ذات توجهات فوضوية وعبثية ولها ارتباطات خارجية , واعتبرت من خلال اعلامها وكتابها وصحفها ان الضباط الشريفيين الذين تسلموا رئاسة اغلب وزارات العهد الملكي , هم الوطنيين والحريصين على مصلحة البلد , امثال نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعبد المحسن السعدون وناجي شوكت وطه الهاشمي وعلي جودة الايوبي وارشد العمري وغيرهم .
وقد تصاعدت السرديات الوطنية الحكومية الاقصائية حتى وصلت قمتها الى النمط الوطني الذي تبلور بقوة بعد الانقلاب البعثي في شباط 1963 , الذي تميز في الترويج العلني للسرديات الطائفية والعنصرية الاقصائية , من خلال استغلالة لمقدرات الدولة للترويج لهذا المفهوم الوطني / القومي , واعتبار كل من يقف بالضد من الايديولوجية القومية العربية او السلطات الحاكمة خلال الفترة المذكورة هو (شعوبي) او (رجعي) , او غيرها من المصطلحات التي استخدمت لاول مرة في تاريخ العراق الحديث , والصقت تحديدا في بداية الامر بالحزب الشيوعي العراقي الذي يشكل الشيعة والكورد والمسيحيين اغلبيته الساحقة , ثم عمم لاحقا على الاحزاب الشيعية الاسلامية التي برزت في عقد الثمانينات , وباقي الفئات المعرضة الاخرى واهمها الاحزاب الكوردية , واصبح مفهوم الوطنية مقتصرا على قاعدة السلطات الحاكمة وعصبتها الاساسية والبشرية وهم الاقلية السنية في العراق . وهذا النمط الوطني /القومي هو اقوى الانماط الراسخة في العراق , لان الحكومات الشمولية والاحادية بعد انقلاب 1963 اعتمدت في ترسيخه والترويج له على خمسة اليات وطرائق لم تعتمدها الحكومات السابقة وهى : التعليم والجيش والوظائف والاعلام والترهيب .
اعتمد هذا النمط الوطني / القومي على اطروحتي المقدس sacred والمدنس secular في الحكم والتقييم على التوجهات السياسية والفكرية والفئات الاجتماعية والاثنية والمذهبية في البلاد , او على الشعوب والمجتمعات والدول الاقليمية والدولية . فالمقدس عندها (التوجهات القومية الوحدوية والاشتراكية , والاقلية السنية الحاكمة , والدول العربية , وتركيا وريثة الدولة العثمانية , والانظمة الاشتراكية الشمولية) , وتبلور هذا التقديس من خلال اسطرة تاريخها وتبييض افعالها والتعمية على اخطائها والتغطية على سلبياتها . وهذه التوجهات والفئات والدول تدخل في دائرة (التابو) و(المقدس) الذي لايجوز نقدها او مسها بكلمة في الاعلام والمناهج الدراسية وغيرها . واما (المدنس) فهو يشمل التوجهات السياسية والفكرية المتضادة مع السلطة القومية (كالليبرالية والماركسية والفئات الاجتماعية المقصية عن الادارة والحكم كالشيعة والكورد وباقي الاقليات الاخرى كاليهود والمسيحيين وغيرهم , فضلا عن الدول التي توصف بالمعادية للنظام السياسي الحاكم مثل ايران والدول الغربية كالولايات المتحدة وبريطانيا )(وان كان هذا التصرف مع الدول الغربية يخضع للمساومة والتخادم السياسي كما حصل في عقد الثمانينات) , ويكون هذا التدنيس من خلال ابراز سلبياتها والتعمية على ايجابياتها والطعن في مواقفها وتشوية تاريخها وتبخيس افعالها , وهذه التوجهات والفئات والاقليات والدول المدنسة يتم الهجوم عليها والنيل منها بنسق وتنظيم مستمر - ودون انقطاع - في الاعلام والتربية والتعليم والجيش , وغيرها من القنوات التي تتصل فيها السلطة بالمجتمع , حتى اصبحت بمرور الزمن مثال الشر والسوء في المخيال الاجتماعي والسياسي عند العراقيين .
ان هذا النمط من الوطنية هو من اقوى الانماط رسوخا وانتشارا في تاريخ العراق الحديث والمعاصر , حتى انه مازال حتى الان يشكل النظام المعرفي والسياسي والبنية اللاشعورية للانتلجنسيا العراقية , واخترق ليس الاحزاب والتوجهات والفئات السياسية والفكرية المعارضة لنظام حزب البعث والمفاهيم الايديولوجية التي ينادي بها كالحزب الشيوعي العراقي والاحزاب الاسلامية فحسب , بل وحتى الفئات الاجتماعية (الاثنية والمذهبية) التي جعلها هذا النمط في خانة المدنس والاستهداف المنظم كالشيعة والكورد والمسيحيين وغيرهم . فرغم ان هذا النمط من الوطنية قد اعتبر الشيعة والكورد(عجم , شعوبيون , خونة , غرباء , هنود , عملاء ....الخ ) الا انه مازال اكثر من 90% من الانتلجنسيا الشيعية والكوردية والمسيحية المخصية تعتبر هذا النمط مرتكزا دلاليا في الحكم والتقييم عندها , وهذا يرجع الى قاعدة ابن خلدون الشهيرة (بان المغلوب دائم الاقتداء بالغالب) .
وقد تبلور على هامش هذا النمط من الوطنية المثقف الشيعي المستلب والمخصي , فاذا كان ميشيل فوكو يقول (ان الحضارة الغربية عرضت المجنون للاستلاب) ,فان السلطات القومية الحاكمة في العراق عرضت المثقف الشيعي للاستلاب . لان الاستلاب – كما قلنا - هو ظاهرة نفسية – اجتماعية تعني استسلام الفرد او الطائفة او الاثنية او المجتمع للاتهامات السلبية التي روجت ضده ,او الصقت به تاريخيا من قبل (الاخر) المخالف بالتوجه الحزبي والسياسي والاجتماعي والثقافي , وبما ان الحكومات القومية بعد انقلاب شباط 1963 قد روجت ورسخت من خلال الاعلام والتعليم والجيش , وغيرها من المؤسسات الحكومية التي سيطرت عليها بعد القرارات الاشتراكية , بان المجتمع الشيعي والكوردي والحزب الشيوعي هو عنوان العمالة والتبعية والخيانة والشعوبية والاعجمية والانحراف والتخلف والرجعية , وغيرها من الصفات التي تحمل جميع الخصال السلبية , فقد عاش المثقف العراقي الشيعي في المؤسسات الاعلامية , والمتعلم في المدارس الحكومية , والاكاديمي في الجامعات والكليات الرسمية , والنائب ضابط والعريف في الجيش والاجهزة الامنية , حالة من الاستلاب الوطني والقومي والمدني والعلماني والديني والمذهبي - وهى المسارات التي تم توجيه الطعن اليه فيها - كان رد فعله قد اتخذ مسارين متناقضين :
الاول : محاولة نفي الاتهام والاستلاب من خلال التبني المتطرف للمسارات التي وجه الطعن اليه فيها . فلمواجهة الاستلاب الوطني ,اصبح اكثر وطنية حتى من (نيوكلاس شوفان) نفسه في دعم الحكومات القومية على مدى التاريخ المعاصر . ولمواجهة الاستلاب القومي ,فقد تبنى اشد القوميات الاستعلائية العربية تعصبا , حتى اصبح اكثر قومية من ساطع الحصري نفسه . ولمواجهة الاستلاب المدني ,فقد اصبح اكثر الفئات عصرية وانفتاحا في المسار الاجتماعي والعائلي . ولمواجهة الاستلاب العقدة الايرانية ,اصبح اكثر عنصرية وطائفية من خير الله طلفاح في مهاجمتها . ولمواجهة الاستلاب العلماني , اصبح اكثر الحادا من فيورباخ وماركس ونيتشه في الحكم والتقييم على المنطلقات الدينية والغيبية . ولمواجهة الاستلاب الديني والمذهبي ,فقد وجة نقودات وهجومات ضد الاسلام الشيعي اكثر من طه الدليمي والشيخ العرعور , معلنا البراءة من جميع الطقوس والمتبنيات الفكرية التي ينادي بها .
الثاني : محاولة ترسيخ مفهوم الاستلاب عند المثقفين المخصيين من خلال تاكيد صحة الاتهامات التي ذكرتها او روجت لها السلطات القومية الحاكمة , وذلك من اجل الحيازة على رضاها واعترافها , وبيان صحة الاراء والاتهامات التي ذكرتها , والادعاء او الايحاء بانها واقع موجود استطاع هو فقط ( او مجموعة قليلة من الخيرين او المثقفين المخلصين) من تجاوزه والتسامي عنه , فاصبح بالتالي المثقف الشيعي يتهم الشيعه الاخرين بالشعوبية او العمالة او الخيانة او التبعية او العجمة او التخلف والتدين , وغيرها من الصفات والسلبيات التي حددها الاب الحاكم , وكل هذا ليس من اجل حيازة المقبولية السياسية ونيل رضاه وبركاته فحسب , بل من اجل اثبات وطنيته وقوميته ومدنيته وعلمانيته امامه , حتى يحصل على صك البراءة من هذه الاتهامات التي يعدها خطيرة جدا على مستقبله السياسي والمهني والثقافي الذي يحدده له الحاكم الاوحد , وتاريخه الذي يكتبه عادة المنتصر من هذا الصراع الخفي , او المؤسسات الاعلامية والتعلمية التابعة له والتي ذكرناها سابقا , وقد اشار الى هذه الظاهرة الكاتب الامريكي اريك دافيس في كتابه (مذكرات دولة) الى ان الحكومات العراقية لاتقبل من الوسط الشيعي الا من كان متخليا عن تراثه الثقافي , فيما ان المفارقة انها تقبل من السنة حتى اشد الناس انغماسا بتراثه الثقافي والعشائري والمذهبي .
عملت السلطات الطائفية والعنصرية على ترويج هذا المفهوم من الوطنية وترسيخه على مر العقود المنحصرة بين عامي (1921- 2003) , لان هذا المفهوم هو من يضمن هيمنة الدولة القومية وسلطتها ومصالحها واقصاء المعارضين لها واتهامهم بالخيانة والتبعية وغيرها , وبما ان الجماعة الشيعية في العراق اكبر الفئات الاجتماعية المقصية عن الادارة والحكم عددا ,واكثرها انضماما الى صفوف المعارضة من التوجهات السياسية الليبرالية والشيوعية والحركة الاسلامية , رغم ان معارضتها كانت سياسية وايديولوجية وليست طائفية , فان التركيز عليها في ترويج مفهوم الوطنية كان واضحا , واتهام من يخرج على السلطة الحاكمة بالتبعية والخيانة والعمالة , ظاهرا اكثر من غيرها من الفئات الاجتماعية الاخرى , وبالتالي جعلت الفرد - او المثقف الشيعي - يستجدي الاعتراف بالوطنية من (الاخر) , ويعيش حالة من الاستلاب والنقص والخشية من الاتهام بعدم الحرص على الوطنية من الاخرين المتحكمين بالخطاب والاعلام , فكان الحل الاوحد عنده لانهاء هذا الاستلاب ,ليس مواجهة تلك السرديات العنصرية والطائفية وانتقادها عقلانيا وتفكيكها معرفيا وتحليلها سياسيا , وانما الرضوخ لتلك السرديات الاقصائية والمقولات السلطوية , ومن ثم التبني المطلق لخطاباتها والترويج لسردياتها من اجل البحث عن اصرة وتواصل مع الدولة القومية والطائفية التي لاتقبل من الشيعي الا من كان متخليا عن هويته وثقافته المذهبية , ومندمجا مع النظام السياسي والثقافي والايديولوجي , بل والمزايدة عليها , ليس امام السني الحاكم من اجل اثبات وطنيته – كما قلنا – وانما امام الشيعي المستلب مثله من ابناء جلدته واهله ,واتهامهم بالخيانة والتبعية والعمالة عند اي موقف يستشف منه معارضة السلطة او مواجهتها او نقدها او الخروج عليها , واعتبار الانظمة الطائفية والعنصرية قبل السقوط عام 2003 التي اقصته وقمعته وافقرته وخونته واذلته هى (الوطنية) فحسب , واما الاخرين فهم خونة وعملاء - سواء اكانوا اكراد ام شيعة ام تركمان - وخاصة القوى السياسية المسلحة التي واجهت النظام البعثي الديكتاتوري , فهى اكثر من غيرها من تعرضت للاتهام والتخوين , ليس من اتباع السلطة المقربين وقاعدتها الاجتماعية السنية فحسب , بل ومن الشيعة المخصيين المستلبين والمأزومين على قاعدة (المخصي يفتخر بفحولة سيده) , لذا تجد ان المثقف والكاتب والاديب الشيعي بالعراق هو اكثر الناس استخداما لكلمة (الوطنية) والتغني بها , بل واكثر الناس فرحا وحبورا (مثل الطفل الصغير) عندما يحصل على لقب (الوطني) من الاخر السني , وصلت الى مرحلة الاستجداء لها والمزايدة عليها , وخاصة في المواقف التي حددت المركزية السنية لمن يستحق ان يطلق عليه هذه الكلمة السحرية , واهمها عدم انتقاد الانظمة الطائفية والعنصرية والبعثية السابقة , والتغني بقادتها وتاريخها ورموزها , ومهاجمة القوى التقليدية التي وقفت ضدها مثل الشيعة والاكراد , فيما الواقع ان ذلك لايدخل في خانة الوطنية حقيقة , وانما هو (استلاب الوطنية), فالمثقف الشيعي فهم خطا ان استلاب الوطنية ((التي هى ردة فعل لاشعوري وعصابي على الاتهامات التي وجهتها له قوى سلطوية وطائفية ضده بعدم الوطنية)) هى (الوطنية) , لان الوطنية بالاصل ليست هذا التعريف او تلك السرديات التي صنعتها او روجت لها السلطات القومية بعد تاسيس الدولة العراقية عام 1921 – كما قلنا – وانما هى مفهوم ايجابي متعالي جامع لكل المكونات الاجتماعية , يعتمد الاعتراف بالاخر والمشاركة السياسية بالادارة والحكم والاعتراف بالحقوق الطبيعية والليبرالية والتعددية الثقافية والسياسية والديمقراطية والحريات العامة للعراقيين عامة , لان مفهوم (الوطن) بالاصل قد ظهر في اوربا في القرن السادس عشر كتعريف يجمع (البلاد زائدا الحرية) , فالبلاد دون حرية لاتسمى (وطن) وانما (بلاد) ,ومن هنا جاءت عبارة روسو (من لاوطن له , فلديه بلاد على الاقل) . فكيف يكون الانسان وطنيا وهو تحت الاستبداد والقمع والاقصاء ؟؟ لان هذا منتفي عقلا وغير وارد نفسيا , لان الانسان او المواطن سيكون عندها اما خائفا او منافقا او مزدوجا او مستلبا (لان الانسان يفقد جوهره الحقيقي) , اذ كيف سيدافع عن وطنه والانظمة السياسية فيه استبدادية وطائفية وعنصرية عملت على تهميشه وابعاده وقمعه وتخوينه واستعباده وتنال من تاريخه وثقافته ورموزه ومذهبه ؟؟ لذا وقع الانسان الشيعي بحالة من الاستلاب , فهو يعرف جيدا ان هذا الوطن ليس وطنه او ملكه ,وانما وطن او ملك الاقلية السنية الحاكمة ,ويجد هذا واضحا في دراسته الجامعية وخدمته العسكرية ومراجعاته الادارية واحكامه القضائية التي احتكرها السنة وهم يعاملونه كمواطن من الدرجة الثانية او الثالثة . ومن جانب اخر لايستطيع الاعتراض او الاحتجاج على هذا الواقع المازوم , لانه سيتهم بالتبعية والعمالة والخيانة من قبل تلك السلطات , فعاش حالة من التوتر والارتباك والقفز على المشكلة من خلال السكوت على ذلك الواقع والتصالح معه والتبني المطلق لمفهوم الوطنية كنوع من الاستلاب والمزايدة .
ان الوطنية بالاصل مفهوم غريب عن بنية المجتمع العراقي وقيمه الاصلية وسلوكه البدوي وافكاره العشائرية والطائفية والاثنية والتقليدية , وان التغني بها لايعدو ان يكون (تشكيل كاذب) – حسب تعبير اشبنجلر - او (وعي زائف) الذي هو اقرب الى مفهوم (افكار دون واقع) , حالها حال الافكار والايديولوجيات الوافدة كالقومية والماركسية والليبرالية والوجودية . وسبق ان ذكر ذلك علي الوردي قبل سبعين عاما بالقول (ان المبادىء الحديثة التي جاءت الى العراق (طارئة) , اذ هى لم تنبعث من طبيعة ثقافته الاجتماعية الاصيلة , فهى قد اتخذت شكل محفوظات واناشيد وهتافات وشعارات وما اشبه , والفرد يتعلمها في المدارس او يقراها في الصحف والكتب او يسمعها في الاذاعات او تلقى عليه في المظاهرات والحفلات , وهى - اذن - تبقى فعالة في مجال الكلام والجدل والانتقاد فقط , ومن الصعب ان تتغلغل يتاثيرها في اعماق النفوس , فالفرد قد يجادلك على اساسها , انما هو لايستطيع ان يغير سلوكه بها الا في نطاق محدود جدا) . وقال ايضا (يمكن القول بوجه عام ان العراقيين في مرحلتهم الراهنة قد تعلموا افكارا هى ارفع من مستوى ظروفهم وقيمهم الاجتماعية , انهم طفروا بافكارهم طفرة واسعة الى الامام ....وان احدهم قد يتمشدق بارقى ما جاءت به الحضارة من مبادىء ومفاهيم , ولكن ذلك ليس سوى طلاء سطحي حيث تكمن تحته الشخصية الزقاقية) . وقارن الوردي بين الشخصية العراقية والشخصية الامريكية ابان دراسته العليا في الولايات المتحدة الامريكية ,حيث اكد ان العراقيين هم اكثر الناس تغنيا وهياما بالوطن والوطنية بالخطابات والشعارات ,ولكنه يهرب من خدمة العلم والجندية ابان دعوته لها . فيما وجد ان الفرد الامريكي نادرا ان يذكر الوطن والشعارات الوطنية في حديثه , ولكنه يقف بالطابور من اجل التسجيل بخدمة العلم والجندية ابان الحروب الامريكية ولايهرب من تحقيق الواجب . وياليت الامر قد اقتصر على الخدمة العسكرية والهروب منها , التي ربما يوجد مايبررها من تواجد الاخطار والموت , ولكن الامر يصل الى التجاوز على املاك الدولة وسرقتها واستغلال مواردها سواء اكانت اراضي او اموال او مقدرات اخرى , فيما تجدهم يتغنون - وبدون خجل او تأنيب - بالوطن والوطنية , ويتهمون الاخرين بالخيانة والعمالة والتبعية , كل ذلك يدخل بخانة الصفاقة والتجاسر على المفاهيم السامية والمعاني الاخلاقية ,(فالعقلية العشائرية العراقية – كما قال الوردي - قائمة على الاستحواذ وليس الانتاج) , ومن الصعوبة ان تتلائم الوطنية مع الاستحواذ , وانما مع الايثار والانتاج والتضحية والعمل التطوعي .
اذن نحن امام ثلاث اشكالات تواجه مفهوم الوطنية السائد عند العراقيين الشيعة وهى :
1 – ان مفهوم الوطنية هو بالاصل (وعي زائف) وغريب عن بنية المجتمع العائلية والعشارية والتقليدية والطائفية والاثنية والدينية , تلقفها العراقيون كشعارات وخطابات واناشيد من المدارس والاذاعات والصحف الحكومية .
2 – ان مفهوم الوطنية هو بالاصل يستند الى سرديات طائفية وعنصرية تنال من اغلبية المجتمع العراقي من الشيعة والاكراد , صنعته الانظمة الحاكمة بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 , ورسخته الانظمة القومية والبعثية بعد انقلاب شباط 1963 .
3 – ان تلك السرديات الطائفية والعنصرية جعلت الفرد الشيعي يعاني من استلاب الوطنية , معتبرا – خطأ او توهما - هذا الاستلاب هو (الوطنية) .
بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 ,كان المفترض ان يتم تلاشي المفهوم الوطني السابق الذي عرض الفرد الشيعي الى الاستلاب , ومن ثم صناعة مفهوم وطني جديد يستند الى العراق الجديد الذي يعتمد التعددية والحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية بالادارة والحكم وانهاء السرديات الاقصائية , الا ان الاوضاع الامنية والصراعات الطائفية والاثنية والحزبية والسياسية والحرب الارهابية والاعلامية وعدم بلورة مفهوم الدولة ساهمت باعادة انتاج السرديات الطائفية والعنصرية السابقة في الوطنية العراقية المتخيلة , عززها ايضا وجود عاملين اخرين :
الاول : ان الجيل المتعلم والمثقف الذي تربى في احضان الدولة القومية والثقافة البعثية واستلاب الوطنية استمر باجترار هذا المفهوم , والسبب هو خضوعه للخصاء القومي والاستهداف الطائفي السابق اولا وعدم معرفتهم او قدرتهم على بلورة مفهوم جديد للوطنية ثانيا .
الثاني : التركيز الاعلامي على ترويج المفهوم الوطني السابق من قبل الاعلام العربي والعراقي ذات التوجه البعثي والطائفي والارهابي , وتبييض صفحته وتسويق سردياته الطائفية والعنصرية من جديد ,واتهام الاغلبية الشيعية بالخيانة والعمالة والتبعية , الامر الذي ادى الى شعور تلك الجماعة بالدونية والنقص , ومن ثم اعادة تبنيها وارتكاسها نحو المفهوم الوطني السابق .
وكما ذكرنا في دراستنا عن (استلاب الشجاعة عند العراقيين) ان منهجنا وهدفنا من هذه الدراسات النفسية والاجتماعية هو الرغبة بعلاجها واصلاحها من خلال سحبها من اللاشعور الجمعي عند العراقيين الى الشعور والوعي من اجل القاء الضوء عليها وتحليلها وتفكيكها ونقدها , ومن ثم التحرر منها والتخلص من اثارها السلبية على الشخصية العراقية الشيعية , فغير المعقول ان نبقى نجتر مفهوم الوطنية الخطابي والعصابي والشعاراتي والطائفي والعنصري نفسه ,رغم عدم نجاحه في تحقيق الحد الادنى من التضامن السياسي والتوحد الاجتماعي في البلاد . وغير المعقول ايضا ان تبقى فئة كبيرة من المجتمع العراقي تعاني من استلاب الوطنية والشعور بالدونية والنقص , واذا كان صومئيل جونسون قال (ان الوطنية الملاذ الاخير للاوغاد) ,فاننا في العراق نقول (ان الوطنية الملاذ الاخير للمخصيين والمستلبين في عدم التجاوز على السرديات الطائفية والعنصرية) , والبقاء في اتون العبودية الفكرية والثقافية بعد ان تحرروا من العبودية السياسية عام 2003 .
ان فشل مشروع الدولة في العراق قد نتج عنه حتمية فشل مفهوم الوطنية الذي هو نتيجة مباشرة له . فالانكليز عندما اسسوا الدولة بالعراق عام 1921 قد اسسوا معها المفاهيم والتصورات المرتبطة معها مثل الوطنية والقومية والعلمانية , من اجل سحب البساط عن الوطنيين والاستقلاليين والعروبيين الحقيقيين من الشيعة , الذين رفضوا الاحتلال البريطاني (1914- 1920) والانتداب (1920- 1932) , وطالبوا بالاستقلال والمشاركة الحقيقية بالادارة والحكم , ومن يومها اصبح الشيعة ولائهم للوطن والسنة ولائهم للسلطان . والمفارقة ان اول من اعترف بفشل مفهوم الوطنية الجامع في العراق هو الملك فيصل الاول نفسه في مذكرته التي كتبها عام 1933 واعطى نسخا منها للسياسيون الحاكمون بقوله (انه في اعتقادي لايوجد في العراق شعب عراقي , بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من اي فكرة وطنية , متشبعة بتقاليد واباطيل دينية , لاتجمع بينهم جامعة ,سماعون للسوء ميالون للفوضى) . فيما كان توفيق السويدي اكثر صراحة عندما نفى وجود الاحزاب الوطنية , مؤكدا التوجهات الطائفية في البلاد بقوله (يوجد في العراق حزبان فقط حزب الشيعة وحزب السنة) . وبهذا الصدد اكد الكاتب العراقي حسين درويش العادلي (ان ازمة الوطنية العراقية هى قصور وتقصير سياسي - نخبوي , وليس قصورا او تقصيرا شعبيا . فتراجع الوطنية كوحدة ولاء هو نتيجة لفشل مشروع الدولة الوطنية الذي اخفق في صياغة امة واحدة , وهو فشل تتحمله كل المدارس الفكرية والنخب السياسية العراقية منذ تاسيس الدولة الحديثة) .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat