صفحة الكاتب : د . حاتم عباس بصيلة

آراء جمالية عند العقاد
د . حاتم عباس بصيلة

 الكاتب عباس محمود العقاد تميز بالمعرفة الشاملة والموسوعية منذ امد بعيد فاذا ما قرات اي كتاب له فانك تشعر بفيض من المعلومات، ومن عادتي ان اعيد قراءة ما قرات سابقا اذا اعجبني فكان كتاب (في بيتي) واحدا من الكتب التي اعدت قراءتها ولفت نظري تلك الآراء الجمالية التي تعد مبكرة في وعي الفن ومدارسه اضافة الى تلك الرؤية النقدية العميقة في تصوير الفنون الجمالية وربط ذلك مع الفلسفة والفكر والاعتقاد فهو يفلسف كل شيء يخص الابداع ومقارباته وما الى ذلك يقول العقاد في تصوير العبقرية: (
ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال وقد يكون الراوية اخصب قريحة وا سرع بديهة من الشاعر او الناثرالبليغ ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون الشعر ودون مرتبة النقد او البيان المنثور
ص 30)
اذ نجد في هذا القول تفرقة واضحة بين المبدع الخلاق وبين صاحب التذكر او الحفظ والقدرة في البديهة واستحضار المواقف لذلك فضل الشاعر على الراوية الذي كان يحفظ اشعار الاخرين بهدف التوثيق الشفاهي ثم يستطرد الكاتب قائلا ومميزا بين القصه او الروايه وبين الشعر:
وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات ص32ان خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه هذا البيت

وتلفتت عيني فمذ بعدت
عني الطلول تلفت القلب

فالشعر عنده كما ذكرنا قد يختزل مئات الصفحات ببيت شعر واحد في المقارنة بين القصة والشعر وهو راي جريء ومبكر في تاريخ الادب العربي الحديث
و يستطرد الكاتب قائلا على لسان شخصية ابتكرها بعنوان صاحبي
قال صاحبي :
على أنهم قد اثاروا في أوائل هذا القرن ضجة حول القصة بالغوا فيها أيما مبالغة وخيلوا إلى الناس ان فنون الأدب كلها عالة عليها وأنه لا كتابة لمن ليست له قصة ص33)

حيث نلاحظ في قوله هذا ان هناك مبالغة في بادئ الامر باعطاء القصة حجما اكبر مما ينبغي وانها تمثل كل الادب وذلك لا يليق او يقنع عباس محمود العقاد وهو يسوق الأمثلة تلو الأمثلة كما في هذه الاقوال
)
ما الولع ببناء القصور وفي الكوخ سعة لساكنيه انه حماقة وغرور ؟!
ما الولع بالثناء يكذب فيه الشاعر كما كذب شاعرنا حين قال :

لو تعقل الشجر التي لا قيتها
مدت محيية إليك الاغصنا ص 45

وفي معرض الحديث عن الله سبحانه وتعالى فانه يجيب صاحبه المبتكر بقوله
قال صاحبي :
وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء ؟قلت : نعم
ان الله موجود
قال : باسم الفلسفة تتكلم او بأسم الدين ؟
قلت : باسم الفلسفة أتكلم الآن والفلسفة تعلمنا ان العدم معدوم والموجود موجود، موجود بلا اول ولا آخر .....
الوجود الكامل الأمثل هو الله ص 65

اذ يتبين لنا ايمانه بوجود الخالق العظيم وذلك من منظور فلسفي قبل ان يكون منظورا دينيا او ايمانيا
ان العقاد ككاتب هو مؤمن بوجود خالق ومدبر لهذا الكون وهو يستند في ذلك الى المنطق ثم ينتقل الكاتب في رحلته داخل بيته الى موضوع الفن قائلا:

واختطف كلمة في هذا الكتاب وكلمة في ذاك عن فن مريون وفيدياس وليسبس ومن الأهم من المتخلفين فإذا الفن أيضا مظهر لبروز الفرد الإنساني من العمار الشامل إلى مكان التخصيص والتمييز ،التمثال القديم نموذج للشكل والقالب والقوائم .يتساوى فيه كل ذي خلق سوي من الناس ولكنه شامل عام لا تتميز فيه الملامح والتعبيرات ولا يتمثل فيه التخصص والأفراد ثم تعاقب صور الأفراد بروزا وتباينا حتى ينسى الناظر إليها النماذج الشاملة وتناولها بالتقسيم والتفصيل ص71 _ 72

ووقعت يد صاحبي على مجلدات الصور التي تسمى بصور المدارس الحديثة وهي اشكال والوان من المستقبليين إلى فوق الواقعيين إلى الاحساسيين الغلاة وماإلى ذلك من البقع والخطوط والاصباغ التي تحمل عنوان التصوير وليست هي من التصوير في شيء لأنها في استطاعة كل من يتناول الريشة ويغمسها في الألوان ان يفعل ذلك وليست بالفن الذي تعرف له أصول و له مباديء ويمتاز به الفنان بين سائر الناس ص 75_76
اذ نجد في هذا القول تاكيده على صفة الفردية للفنان برغم الملامح العامة في الفن الكلاسيكي اذ ان هناك تباينا واختلافا بين كل فنان وذلك ما يجعل الفن المثالي فنا لا يتجاهل فيه الفنان خصوصيته اي ان الفن المثالي الكامل لا يعدم شخصية الفنان ويذكرنا ذلك بمفهوم ارسطو عن الفن وفي ضوء ذلك يقول في معرض حديثه عن الفن الحديث وملابساته
(قلت لا حاجة الى البحث عن اسم آخر للفن القديم فهو هو التصوير الذي يصنعه المصورون اما هذا الفن فهو الغاز واحاجي كتلك الألغاز والاحاجي التي تنشر في صحف التسلية عن الحروف المتقطعة والأرقام المثلثة او المربعة او العيون التي ليست لها آناف والآناف التي ليست لها عيون وكلها من عمل الملغزين والمفسرين فلا اختصاص بها للمصورين دون غيرهم من العالمين .ص76

اذ يتضح من ذلك ان العقاد لا يستسيغ تلك المذاهب الفنية التي تشبه الالغاز والحروف المتقطعة لقضاء الوقت كما يشير الى ان كل انسان يستطيع ان يكون فنانا على غرار ذلك ويؤكد الكاتب في نظرته الإنسانية للفنون بالقول:
وقد كانت الفنون لغة إنسانية عامة يفهمها على البداهة من لا يتفاهمون باللغات فأصبحت على أيدي هؤلاء المجان خرافة سرية في ذهن رجل واحد لا يمثلها مرتين على نمط معروف .... اذ يتبين مما ذكر ايمانه باللغة الإنسانية للفنون حيث يستطرد قائلا ايضا:
لقد كان الأساتذة الاقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون فجاء من بعدهم أساتذة المدرسة الاحساسية ليصوروا ما يحسون وما يشهدون ص 77

كان الاستاذ القديم يعلم وهو بصور الشجرة ان لها غصونا واوراقا يصورها ذات غصون وأوراق مفروزة كما يعلمها وان كان يراها من حيث يجلس لتصويرها لونا اخضر لا تنفصل ورقة فيه عن سائر الأوراق.....
وكان الاستاذ القديم يحسب الظل سوادا لانه نقيض البياض وان كان يضرب احيانا إلى لون البنفسج او الرماد ......
فجاء الاحساسيون فاصلحوا هذا وذاك وكان لهم الفضل والتوفيق في هذا الابتداء ......
من الواضح في قوله الاشارة الى الانطباعيين الذين سماهم الاحساسيين مشترطا في التاكيد على الفهم والوضوح في الفنون اذ يقول:
كان الاقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون وكان الاحساسيون الصادقون يصورون ما يحسون ويشهدون فجاء من بعدهم من يصورون ما يتوهمون وجاء من بعد هؤلاء من يصورون ما يتوهمون وجاء من بعد هؤلاء من يصورون ما يزعمون أنهم توهموه وهم كاذبون ص 77_ 78 حيث اختصر في هذا القول ملخص رايه في مذاهب واتجاهات الرسم الحديث كما يجب ان ننظر الى اهمية ذلك من حيث النقد المبكر للفن الحديث والحداثة في الوطن العربي ويقول باسلوبه المنطقي الساخر من حركة المستقبليين:

انظر الى هذا الكلب الذي صوره رجل من المستقبليين أ رأيت كلبا قط له اثنتا عشرة قدما وذيلان او ثلاثة ذيول ان هذا المستقبلي يصوره كذلك لانه يزعم أن الكلب وهو يجري قد يرى له هذا العدد من الاقدام والذيول
فمن الذي أنبأه ان فن التصوير قد خلق لتصوير الكلاب وهي واقفة لا تنقل قدما في قصارى شوطها فلم يجهل احد رآها انها تعدو غاية العدو وان الحركة شيء داخل في صناعة المصورين ولو جرى المصورون على هذا المذهب لما جاز لنا ان يرسم انسانا بعينين اثنتين لانه يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال ويرفعهما إلى أعلى ويصوبهما إلى أسفل فلا تستقران في لمحتين ص 79
لقد كانت حجته المنطقية واضحة رغم اسلوبه الساخر وهو كفيلسوف ايضا نجد له رايا في المنطق وكذلك في الاحساس ليفرق بين الموهبة الفكرية و المواهب المصطنعة القائمة على المنطق الجاف اذ يقول:

إنما الخطأ في المنطق خطأ في الإحساس بالأمور على حقائقها النفسية
اتعرف أولئك النظامين الذين يحفظون التفاعيل ليحسنوا وزن الشعر فلا تستقيم لهم التفاعيل ولا تستقيم لهم الأوزان لو احسوا آذانهم لصححوا التفاعيل وصححوا الأوزان معها وكذلك الذين صفرت نفوسهم فلا يشعرون بالحياة على حقائقها يتهمون المنطق وهو براء وهم الذين لا ينطقون ولا يحسنون ص 87
ولا شك في هذا القول انه اتخذ من الشعر لانه الاقرب الى نفسه مثالا لطبيعة النظم القائم على المنطق ومثالا للاحساس القائم على الفطرة السليمة للمواهب الخلاقه ويستطرد في امثلة ذكية حجته بالقول:
ليست قصور الف ليلة وليلة ولا حياتها وجواهرها وموائد طعامها وشبابها خيالا يحتاج إلى ملكة من ملكات التصور والإدراك ولكنها كلها واقع ناقص او واقع موقوف التنفيذ فإذا حصل التنفيذ حصل الواقع الذي يلمس ويرى ويشم ويذاق 90
وهو بذلك يشير الى امكانية ان يكون الخيال واقعا وان كان هذا الواقع ناقصا ثم يستطرد في الحديث عن الموسيقى مصنفا اياها بحسب رايه قائلا ان:
هناك موسيقى الحس المحدود وهي التي تؤدي لنا وظيفة الجارية والنديم والتسليم بانغام الفرح حين نفرح وانغام الشجن حين تنوح
وهناك موسيقى الروح وهي التي تخاطبنا من منبر الالهام وسرقات الغيب وتجلس لنا مجلس المفسرين والدعاة وتقول لنا ما يعجز عنه الكلام لأن الألحان لا تقصر عن وصف الأسرار حين تقصر عنها المعاني والحروف
ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس الحي التي تطربناا
اما ما يخص الممثل الناجح فان العقاد تطرق له بالقول:
وشرط في الممثل القدير على المسرح انه هو الممثل الذي يمثل لك ما لا يقال او هو الممثل الذي يشغل فراغ القول بين عبارة وعبارة من كلمات المؤلفين لان مصاحبة الكلمة البلدية بالمنظر المحزن أن لا يعسر على الكثيرين وإنما عليهم ان يمثلوا لك ما لا يقال بين الكلمتين او بين المنظرين يصعب عليهم أن يمثلوا لك ما تدركه أنت ولا يقوله المؤلف بلسانه ولا تسمعه انت بأذنيك ص 105

وقد تجسد في هذا القول تعمق العقاد في طبيعة مفهوم التمثيل وتفاصيل لم تخطر على بال ناقد من النقاد في ذلك الزمان وهو يبرر وجود الفن بالقول:
وجد الفن في الدنيا لان النفوس تمتليء بالشعور وتشتغل به كل الاشتغال فلا تقنع به شعورا بل تطلبه حسا منظورا ولا تشاء أن تظل فيها حاسة من حواسها فارغة من غير مملوءة بمثاله ومن هنا نشأ التصوير ونشأ التجسيم ومن هنا نشأت هذه الصورة اليوم كأنها أول اختراع .ص 122
يتضح من ذلك ضرورة الفن في الحياة البشرية كما يستطرد العقاد في القول بوحده الوجود حين يتطرق الى الاعمال الفنية التي تجمع بين اكثر من شكل للانسان والحيوان معا اذ انه يعتقد بوحدة الكائنات كما صورها الانسان البدائي او الفنان البدائي اذ يقول:
ان في حياة الانسان شعورا بوحدة الخلق وتلاحم سلسلة المخلوقات شعورا أعمق من الفكر لا بل أعمق من الخيال نفسه ص 126 حول الكائنات المتداخلة ويذكرنا ذلك بالفلسفة البوذية

كتاب في بيتي
عباس محمود العقاد دار التقوى للطبع والنشر والتوزيع دار العلم والمعرفة القاهرة بت


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حاتم عباس بصيلة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/08/20



كتابة تعليق لموضوع : آراء جمالية عند العقاد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net