لا يُقاس الإنسان بعدد السنين التي عاشها، بل بالعطاء الذي قدمه، والمبدع الحقيقي هو القادر على صنع شيء يخلده حتى بعد رحيله، وتحتفظ الذاكرة العربية بصفة خاصة، والإنسانية بصفة عامة بمبدعين كُثْر، وعباقرة كبار، تعددت مواهبهم ومزجوا بين شتى المجالات الثقافية والعلمية، ممن تركوا بصمات خالدة كثيرا ما استفاد منها الباحثون والمختصون، وفي عالمنا العربي بصفة أخص.
ومنذ ظهور الإسلام أصبح الإنسان عبارة عن موسوعة علمية متنقلة ينهل الجميع منها دون استثناء، وخير مثال على هذا ما اجتمع في الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من مختلف العلوم الإنسانية والعلمية من الفقه والعقائد والأدب والطب والكيمياء وغيرها الكثير، فنجد الارتباط بين الطب والأدب أشد وضوحا منه بين باقي العلوم.
كما أن هناك عددا لا بأس به من الأطباء اشتغلوا بالأدب، ونبغوا فيه منذ القدم وحتى الآن، فلا غرابة أن تجد الفيلسوف طبيبا، أو الطبيب أديبا، كابن سينا مثلا الذي كان فيلسوفا وشاعرا وأديبا أيضا، والدكتور إبراهيم البصري، وإبراهيم ناجي، وأحمد تيمور، ومن كتاب القصة نجد الدكتور يوسف إدريس، وعالميا الروسي تشيخوف أحد أفضل كتاب القصة القصيرة في العالم...
فالتوأمة بين المجالين الأدبي والطبي قديمة قدم الاثنين، وكثيرا ما أتيح للأطباء الجمع بينهما، جاعلين من ذلك مزيجا يصب في مصلحة الطرفين، وقد تجلى ذلك مع ظهور أفلاطون وسقراط وأرسطو، وصولا لعصرنا الحالي... فإذا كان الطب في الأساس ميدانا لعلاج الأبدان، فإن الأدب له أثر طيب في علاج النفوس، وهذه دائرة من دوائر التقاطع بين الاثنين.
ومن الجميل أن نجد هذه الظاهرة في الأدب العراقي الحديث وصولا إلى طبيب وأديب عراقي شاب اجتمعت فيه هذه التوأمة، لتعطي مزيجاً من الإبداع متعدد الألوان: كالقصة، والمسرحية، والمقال، وغيرها من ألوان الأدب المختلفة.
الدكتور مسلم بديري، من مواليد مدينة الكوت، درس في كلية الطب جامعة البصرة، كتب في مجال الأدب في سن مبكرة، وشارك في مهرجانات ومسابقات عديدة، ينشر في مواقع كثيرة على الانترنت، صنع شهرته بما قدمه من العطاء الأدبي، صاحب مسرحية (سورة الطف) الفائزة في مهرجان المسرح الحسيني العالمي الذي تقيمه العتبة العباسية المقدسة وغيرها من المسرحيات والقصص القصيرة...
- قبل أن نبدأ بأي سؤال، هل لنا أن نتعرف على العلاقة بين الطب والأدب؟
علاقة الطب بالأدب تنحى من منحى الألم الإنساني، ويقال: إن الأطباء من كان منهم أدباء يتفاخرون بقربهم من النفس البشرية، حيث إن مهنتهم تمنحهم تماسا مباشرا مع الإنسان، فيطلعون على أمور لا يستطيع الغير قراءتها، والأدب والطب كلاهما رافد يصب في نهر الألم الإنساني، كما أن الألم يكشف جانبا مظلما من جوانب النفس البشرية، سواء كان الألم نفسيا أم جسديا، بحكم اتصال الطبيب بكافة شرائح المجتمع.
- هل قرأت تجارب سابقة لأطباء كانوا أدباء من العرب والأجانب؟
نعم، الكثير منهم، إبراهيم البصري من العراق، والكبير يوسف إدريس من مصر، وإبراهيم ناجي وغيرهم، أما الأجانب فيكفي الروسي تشيخوف، والألماني بريشت.
- كيف لطبيب في عالمه العلمي الدقيق وكتبه الجافة أن يأتي إلى عالم الأدب، وهو عالم افتراضي وتخيلي ومختلف اختلافاً جذرياً؟
لكي تلم بشيء، يجب أن تكون ملماً بأشياء أخرى، وكما يقال: إن الكتب تعطيك ما لا تعطيك ألف سنة عيش، فالقراءة عالم مصغر، وتعطيك الكثير من التجارب، وان كانت تُحكم بفوارق فردية، فهناك من يقرأ ليكون أديبا، وآخر يقرأ لأنه محب للقراءة، دون أن يفكر بأن يصبح أديبا في يوم ما، وأنا اخترت أن أكون أديبا.
- هل للطب حضور في أعمالك الأدبية؟ وهل مزجت بين الهواية والمهنة؟
مؤكد، الواقع الذي تعيش فيه، والمهنة التي تعمل بها، لابد أن تترك أثرا في كتاباتك، وان تكتب عن مهنتك وما حولها هو اقرب بل أولى كما يقال (ينتصر لأبناء جلدته)، وقد يعتبر نوعا من الإخلاص لمهنتك؛ لأنك تسلط الضوء على جوانب قد لا يراها الغير كما تكتبها كعمل أدبي. أما الأدب في الطب فيقيناً هناك تأثر، فكونك أديبا وقارئا فأنت تختلف عن القارئ العادي، فأنت تنظر وتقرأ بصورة مغايرة للواقع، وذات أبعاد متعددة لا يراها الإنسان العادي.
- لماذا تميل إلى المسرح أكثر من غيره؟
المسرح هو عين الشعب، ففيه تقول ما حصل وما تريد أن يحصل، هو وسيلة تعليمية تكشف خبايا المجتمعات والعصور، ومحاولة لتطهيرها بصورة غير مباشرة، اذ ان المسرح هو أن ترى الشخوص الذين تكتبهم على الورق أمامك في الواقع، وهو محاكاة للفعل البشري، ولا يعني الفعل هنا مجرد حركات الممثل التي يصور بها الشخصية، وأنما تشمل الجوانب النفسية والعقلية التي تحرك سلوكه الظاهري، ومن هنا وجدت أن المسرح اقرب إلى نفسي من غيره.
- تكلمت عن المسرح، ولكن حصرته في الغربي فقط، ولم تتكلم عن المسرح العربي أو العراقي؟
للأسف، وهي غصة في القلب عندما يقال: إن المسرح العربي متأخر كثيرا عما يجب الوصول إليه أو لما عليه المسرح الغربي، من اغلب الجوانب، في الدعم المادي والثقافي وغيره الكثير، وكذا يلام المسرحيون لما يطرحونه من المواضيع والقضايا الاستعلائية التي لا تلامس الواقع الاجتماعي، فتجد أن اغلبهم يبحرون في الماضي السياسي دون أن يمسوا الواقع الذي هو أشبه بمرارة الأمس.
- هل يوجد في العراق من تراه متصدراً بالكتابة المسرحية ؟
الكثير يعلم انه لا يوجد شاعر بل توجد قصيدة، ولا يوجد مسرحي بل توجد مسرحية، وأتمنى أن يكون جميع الادباء من أبناء بلدي في الصدارة، ومن يستطيع أن يصبح عالميا ليوصل قضيتنا إلى العالم، فهذا هو الذي يفرحنا كثيرا كما هو حال الكثير من العرب أمثال: الكاتب نجيب محفوظ الذي أوصل صوت حارته إلى الغرب.
- كيف يمكن للكاتب المسرحي أن يصبح ناجحاً وينال شهرته العالمية؟
على الكاتب أن لا يكون مسيّساً أو فئوياً، عليه أن يكتب لأجل الإنسانية فقط، فعندما تكتب عن الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) فأنت تكتب عن الإنسان وللإنسان، ومن الغريب أن هناك بعض الجهات والمواقع الالكترونية ترفض نشر المسرحيات الحسينية! مع أن المسرحية الحسينية هي عين الإنسانية، لما فيها من حلول وشمولية تستوعب العالم اجمع.
-بأي أسلوب يكتب الدكتور مسلم بديري مسرحياته، نحن نرى انك تبتعد عن أسلوب الطرح المباشر، وتختار العالم التخيلي أكثر من غيره؟
قد لا يكون هناك أسلوب ثابت، فعندما اكتب أجد نفسي مغيباً تماما عن الواقع، هكذا هي الكتابة أن تعيش كأي مخلوق داخل المسرحية، فأنا أحب أن أذوق نفس الكأس الذي يذوقه أبطال العمل المسرحي، وأصبح واحدا منهم لأرى نفس المصائر التي اخلقها لهم... وأتمنى لو أن احدهم ينتفض وغالبا ما ينتفضون، وهذا هو الذي يخلق الصراع، الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو يرزق مخلوقاته، أما الكاتب فهو الخالق للعمل الادبي، لكن مخلوقاته (شخصيات العمل) هي التي ترزقه فلها أن تنتفض في أي وقت.
- ماذا تعني لك المستشفى والإنسان المريض في عالمك الأدبي؟
في المستشفى تجد أن الإنسان المريض محاط بهالة من الغموض بالإمكان أن تُقرأ وتؤول بآلاف القراءات والتأويلات، فهي أشبه بمنجم فيه الكثير من الآلام والمتاهات النفسية التي تعد مصدر إلهام للأديب.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat