التحولات التي ستصيب الحداثة
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ادريس هاني

الحداثة اليوم تقوم من سباتها..وذلك بعد ملحمة من الوخز الذي قام به فلاسفة جنحوا خارج مقولاتها واستهتروا بمعالم الطريقالتي تؤدي إلى الشكل العقلاني الأثير للحداثة..خرجت الحداثة أو هي تخرج من سباتها بفعل مسلسل من الثورات منذ النهضة وصولا إلى التنوير بمراحله المختلفة..لكنها دخلت في سبات آخر يناسب عنفها الجديد..كانت أولى مظاهر هذا العنف، العنف العقلاني نفسه..مارست الحداثة عنفا عقلانيا ضدّ العقل في مفارقة لن تخرج منها سوى بوخزات ما بعد حداثية..لقد اختارت نمطا من العقلانية وعمّمته في ديكتاتورية قاتلة..عقلانية تستبعد الأبعاد الحيوية للإنسان العميق..كانت العقدة التاريخية من القرون الوسطى قد ساهمت في نشوء الأصولانية الحديثة التي ما فتئت تتعبّد بكل أمر تمامي مخترعة أقاصيص العلموية المطلقة والعقلانية المطلقة..مع أنّها جاءت لتقارع "مطلقات" القرون الوسطى..ستكتشف الحداثة أنّ لا شيء مطلق فيما اخترعته من وجوه الأفكار والتيارات والأنماط..حتى النسبية المطلقة لم تعد مغرية لأنّ كلّ إطلاق سيعيدنا إلى التّمامية التي تناقض الجوهر العميق للحداثة..نحن أمام ميلاد صحوة جديدة داخل الحداثة ضدّ تماميتها..تستهدف كل اشكال تمركزها وأوهامها التي بسط القول فيها لفيف من نقاد الفلسفة وآبائها..لن نعيد ما أحصته مدرسة فرانكفورت من آدرنو حتى هبرماس..ولا الحركة الفلسفية النقدية لا سيما الفرنسية المتأثرة في حقيقة الأمر بالألمان، من فوكو إلى دريدا..هذا ناهيك عن الأب الروحي لمقارعة أوهام الحداثة والمؤسس لنزعة ما بعدها: نيتشه...صمدت الحداثة الفلسفية نتيجة قوة ورسوخ التقنية التي أخفت كل هذا الانسداد..بينما التراجع الذي ستواجهه الحداثة في مداها الاقتصادي والمادي سيكون له انعكاس كبير على خياراتها الفلسفية..إنّ الفلسفة منذ ابن خلدون حتى ماركس رهينة بتحوّل العمران البشري..في فرنسا تحقق الفكرة الخلدونية عن تأثير الغالب على المغلوب لتنتج لنا النتشية الفرنسية الجديدة..النيتشية التي ألهمت هتلر الكثير من الصلابة في سياسة المجال الحيوي..السياسة التي ستستمر حتى مع الحلفاء الإمبرياليين..الحرب تغيّر الأفكار وكذا الانهيارات الاقتصادية الكبرى..أمام وضعية الندرة التي ستواجهها اقتصادات الغرب وكذا التراجع الكبير في السياسات الاجتماعية ونهاية عصر اقتصاد الوفرة سيفتح المجال لأنماط من التفكير أخرى..ستكتشف أوربا شكلا جديدا من العقلانية ربما أكثر تواضعا وأقلّ جنوحا نحو الشمولية..ستكتشف أنّ جزءا من انهيار هذه الحضارة هو الشكل الذي أعطي للعقل..العقل الذي أنتج الاستبعاد الثقافي والاستنزاف البيئي والاستعمار العسكري والضحالة القيمية..هذا الانهيار لم يكن يوما وليد الصدفة..بل هو نتيجة لتراكمات كبيرة من الأسباب..وحينما يزاح الحجاب الذي سببه سكر القوة والتقنية والوفرة أمام الغرب، سيدرك أنّ الطبيعة نفسها تكفر بأبدية التمثيل للعقل..وبأنّ الدورة الحضارية قاضية بتغيير الأنماط وابتكار أنماط جديدة..كل هذا لا يعني نهاية الحداثة بل هو ميلاد حداثة جديدة على أنقاض أخرى..هو يعني الصحوة الحداثية الجديدة..يمكن أن نتصوّر حداثة أكثر تواضعا وسباتا من حداثتنا..وربما حداثة أكثر مصالحة مع التاريخ والإنسان..ولكن لا زال أمامنا طريق طويل من الفظاعات التي سيسبّبها النمط المتوحش من الحداثة..النمط الذي يكفر بالإمكان..لا بدّ من المأساة التي سيسبّبها فعل الفطام من أنماط التّمامية القاتلة التي كرستها الحداثة في مراكزها وفيما تثيره من ردود الأفعال في هوامشها..لكن ما هي هذه التحولات التي ستنعكس على الحداثة خلال الحقب القادمة؟ إن تحوّلات عميقة تمسّ بنية العقل السياسي الكوني حيال الدولة مفهومها وإدارتها، وبالتالي مفهوم السلطة ووظيفتها..العهود القادمة ستشهد تراجعا في منسوب الأسطرة السياسية للدولة والرأي العام والديمقراطية..ستتجه الأنظار نحو الإنجاز..سيتراجع الابتهاج بالديمقراطية لصالح أنماط في الحكم مزيجة بين الحرية والعدالة الاجتماعية تعيد النظر في فكرة المستبد العادل..ديمقراطية المستبد العادل..المستبد هنا هو الواسع الصلاحيات النافذ حيث يتوقّف القرار..سيلعب المستبد العادل أدوارا أكبر على مستوى التنمية البديلة والمندمجة..سيدرك العالم أنّ الديمقراطية في مفهومها الليبرالي الرأسمالي لا يمكنها أن تكون منصفة أو عادلة تجاه الفقراء الذين سيزداد عددهم خلال السنوات القادمة..إن التفقير الذي ينتظر أوربا سيسبب مأساة كونية حقيقية..سيكون العالم الثالث مؤهّلا لقيادة العالم بأفكار بديلة تخرج من أكثر البؤر حيوية في عالم الجنوب..ولإدارة هذه المرحلة وجب التراجع عن الديمقراطية الرومانسية التي تخفي التحكم الأوليغارشي بالعملية السياسية..التدفق الديمغرافي الذي لم تخفف منه الحروب سيفرض تحديا على الحداثة سينعكس في بدائلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية..فالحداثة عاجزة عن إدارة ملايير البشر فوق هذا الكوكب بالمفارقة السياسية لديمقراطية تنتج الهشاشة والفقراء وتختصر الحرية في الزّعيق السياسي..سيطرأ بالتأكيد تحول في أنماط السياسات التنموية..فالتنمية البديلة هي أصلا اختراق لتمامية حداثة بنت مجدها وجبروتها على الاستنزاف الإمبريالي للموارد البشرية والطبيعية..التحول الذي سيطرأ على النظرة الأنطولوجية للإنسان..والوعي الحاد بتاريخ سترغمه قوة الانهيارات على مراجعة سياسة التذكّر خارج لعبة التزييف..بداية عهد أيديولوجي تستبدّ به المعرفة..ستتراجع الثنائية الحادة بحيث سينزع الكثير من العلمانيين باتجاه الكثير من حقائق الأديان كما أنّ الأديان ستنزع باتجاه مزيد من العقلنة..فالعقلانية الجديدة هي مستوعبة غير مستبعدة..تحوّلات ستصيب الجغرافيا وتظهر من خلالها أشكال جديدة من العيش المشترك وتلاقح الأنماط وتثاقف الكيانات..ستتراجع فكرة القوة لصالح النموذج، وسيكون الصمت بديلا عن البوليميك ويصبح المدار على الفعل الإقناعي..كل شيء سيتغّير بما في ذلك العلم..إنّ كوننا الحداثي نهائي جدّا..ضخّمته أيديولوجيا الوفرة والتقنية وعسكرة المجال الحيوي..ولكن سنكتشف قريبا بأنّ هذه الحداثة مثلها مثل القرون الوسطى، احتفظت بنصيبها الوافر من كلّ الفظاعات والسلبيات والأساطير والسحر..لسنا اليوم مؤهّلين أكثر لإدراك ذلك إلاّ في إطار المقاربات النظرية لكن سيظهر ذلك أكثر حينما يكتمل نظام الحداثة البديلة الممكنة..حداثة تعاقر بعضا من جنونها المفقود بعد أن تفكّ أقفال مفاهيمها بمزيد من نقدها ومراجعتها وفكّ ضفائرها....
ادريس هاني 24/9/2015
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat