صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسية إشكالية وحلول (2)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مذاهب في معالجة الإشكاليّة
إزاء اشكاليّة المعرفة الحسيّة أو اُسس الخبرة كما عبّر عنها بوبر, لدينا أجوبة مختلفة لاختلاف المدارس والإتجاهات التي تبنّتها, فالمدرسة الأرسطية لديها جواب وكذا المدرسة التجريبية وللشهيد الصّدر جوابه الخاص فضلاً عن الإتجاه المثالي والسفسطائي المنكر للواقعية من أصل. وهنا سنقوم باستعراض مختصر لمعالجة المدرستين الأرسطيّة والتجريبيّة بعد ذلك نعطف لبيان معالجة السيّد الشهيد في (المذهب الذاتي) لنخصّه بيان أكثر تفصيلاً, محاولين استيضاح بعض جوانبه, ثمَّ نرى هل هو بمنأى عن ثلاثي إشكاليات فريز المتقدمة أو لا. 
ولكن قبل أن نلج في صلب بيان هذه الاتجاهات والمشارب, نريد التوقّف عند ملاحظة منهجيّة أشارت إليها بحوث السيّد الأستاذ وهي: إنه يوجد في كلمات البعض تصوّر خاطئ مفاده: أن المعرفة الحسيّة ترتبط بالتصورات, فيما ترتبط المعرفة التجريبيّة بالتصديقات, وقد جروا على هذا التصوّر كأمر مسلّم. والواقع أن الأمر على العكس من ذلك, بل المعرفة الحسيّة هي معرفة تصديقيّة, لأنّنا عندما نتعامل مع الأشياء الحسيّة يحصل لدينا إيمان وجزم من هذه المحسوسات, وبالتالي نقوم بحمل الوجود ونسبته للحس, والتجربة على اختلاف المشارب فيها وبأي نحو عرّفناها(1), تتضمّن استقراءً متكرّراً للظاهرة, وهذا الاستقراء عبارة عن مجموعة من التصديقات الحسيّة, فالتعامل مع الظواهر في عالم التجربة يمرُّ من خلال المعاملة الحسيّة.. فالتجربة لا تعدو أن تكون مجموعة من القناعات الحسيّة(2).
1) المدرسة الأرسطيّة:
اعتقدت المدرسة الأرسطيّة أن وجود المحسوسات أمر ضروري وبديهي وخارج عن نطاق الاستدلال والبرهان, فلأجل اثبات واقعية القضايا التي نرتبط فيها من خلال الحس يكفي في ذلك إحساسنا بها فالعقل يصادر عليها.
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا (370- 428 هـ ) في بيان مقدمات البرهان التي منها الحسيات وأنها ضرورية لا تتغيّر: «.. ولـمّا كانت مقدمات البرهان تفيد العلم الذي لا يتغيّر ولا يمكن أن يكون معلوم ذلك العلم بحال أخرى غير ما علم به, فيجب أن تكون مقدمات البرهان أيضاً غير ممكنة التغيّر عمّا هي عليه...»(3). ويقول بعد بيان أقسام المعلومات: «وأمّا القسم الذي فيه التصديق.. والذي على وجه الضرورة فإمّا أن تكون ضرورته ظاهريّة وذلك بالحس أو التجربة أو بالتواتر أو...»(4). وكذا ذكر نفس المعنى الفخر الرازي (544- 606 هـ) في المباحث المشرقيّة(5).
وبالتالي فقد أعتبر الأرسطيون هاتيك المقدمات ومنها الحسيات, مستغنيةً عن البيان ومبادئ المطالب والأقيسة.
نعم؛ إن الفيلسوف المعاصر العلّامة الطباطبائي رحمه الله (1892- 1981م), قد سلك مسلكاً اختلف فيه إختلافاً يسيراً مع حكماء المدرسة الأرسطيّة التي ينتمي إليها في إثبات المحسوسات, فقد رأى الطباطبائي أن معرفتنا الحسيّة بالواقع الخارجي اجمالاً أوليّة, أمّا معرفتنا بالتفاصيل فليست كذلك, فكان في اتجاهه يفصِّل بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة, وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسيّة(6).
تجدر الإشارة كذلك إلى أن الشهيد الصّدر (1935- 1980م) في كتاب (فلسفتنا) الصادر سنة (1959م), وإن كان قد تبنّى المذهب العقلي الأرسطي في المعرفة وجرى فيه على طريقتهم, إلّا أنه سلك مسلكاً اختلف فيه مع حكماء هذه المدرسة في معالجة إشكاليّة المعرفة الحسيّة, فقد أرجع المعرفة الحسيّة إلى معارف مستنبطة بقانون العليّة, وذلك لأنّ الصورة الحسيّة حادثةٌ لابدَّ لها من علّة, وقانون العليّة قضيّة أوليّة أو مستنبطة من قضيّة أوليّة. وإن كان توافق مع آخرين منهم العلامة الطباطبائي في كون معرفتنا الحسيّة بالواقع الخارجي إجمالاً أوليّة.
يسجّل قائلاً: «... أنّ التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أوّلي، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن هذا التصديق الضروري إنّما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الإجمال. وأمّا الواقع الموضوعي لكلّ إحساس، فهو ليس معلوماً علماً ضرورياً. وإذن فنحتاج إلى دليل لإثبات موضوعية كلّ إحساس بصورة خاصّة، وهذا الدليل هو: مبدأ العلّية وقوانينها؛ ذلك أنّ حدوث صورة لشي‏ء معيّن في ظروف وشروط معيّنة، يكشف عن وجود علّة خارجية له، تطبيقاً لذلك المبدأ. فلولا هذا المبدأ لما كشف الإحساس، أو وجود الشي‏ء في الحسّ عن وجوده في مجال آخر. ولأجل هذا السبب قد يحسّ الإنسان بأشياء، أو يُخيّل له أنّه يبصرها في حالات مرضية خاصّة، ولا يستكشف من ذلك واقعاً موضوعاً لتلك الأشياء؛ حيث إنّ تطبيق مبدأ العلّية لا يدلّل على وجود هذا الواقع ما دام يمكن تعليل الإحساس بالحالة المرضيّة الخاصّة، وإنّما يثبت الواقع الموضوعي للحسّ فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلّية، إلّا بواقع موضوعي ينشأ الإحساس منه. ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية:
الأولى: إنّ الإحساس وحده لا يكشف عن وجود واقع موضوعي؛ لأنّه تصوّر، وليس من وظائف التصوّر- بمختلف ألوانه- الكشف التصديقي.
الثانية: إنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال، حكم ضروري‏ أوّلي لا يحتاج إلى دليل، أي إلى علم سابق. وهو النقطة الفاصلة بين المثاليّة والواقعيّة.
الثالثة: إنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذ الحسّ أو ذاك، إنّما يكتسب على ضوء مبدأ العلّية»(7).‏
ولا يخفى فإنّ إشكالَي النزعة (السايكولوجيّة) والتسليم الأعمى (الدوجماطيقيّة), حاضران بقوّة في المعالجة الأرسطيّة, لو سلّمنا بعرضهما العريض, وإن لم يوجد مجال لجريان إشكال التسلسل والإرتداد اللانهائي.
ولكن أليس عامّة الناس لديهم جزمٌ ويقينٌ بوجود المحسوسات, وهم يأخذون هذا الأمر بالبداهة, فلم وصمهم بأنّهم يسلّمون تسليماً أعمى (الدوجماطيقيّة), وأن هذا ركون منهم للنزعة النفسيّة (السايكولوجيّة), فلم كلُّ هذا التفلسف؟!.
بلى, فلا غرو في ذلك الجزم الذي يمتلكه الآدميون, إذ هو قائم على أساس عدم التمييز بين المدلول الذاتي والمدلول الموضوعي للقضايا الحسيّة. ويساعدهم عليه الاعتقاد الخاطئ بأن الإنسان في إدراكه الحسّي يتصل بالواقع الموضوعي (الخارجي) إتصالاً مباشراً. والحال أنّه إتصال بالصورة الذهنيّة وبالمدلول الذاتي دون الموضوعي, وإنّما العجب أنّه إذا كان الحال كذلك فما هو المبرّر للإنتقال من إدراك الصورة الذهنيّة والمحسوس بالذات للإعتقاد بالمحسوس بالعرض والمدلول الموضوعي؟. وهذا حريٌّ بالبحث والدرس, وهذا التفلسف هو الذي يعطي للإنسان قيمته وللمعرفة حقّانيّتها.
يتبع..
 
الهوامش:
( ) لا يخفى أن التجربة لدى الأرسطيّين عبارة عن قياس صغراه القضايا التي تم استقراؤها بالاستقراء الناقص, وكبراه قاعدة (الإتفاق لا يكون أكثرياً ولا دائمياً) التي ادعوا كونها قاعدة أوليّة قبليّة, ومن هذا يعلم أن التجربة عبارة عن مزيج من الحس والعقل. وقد ناقش الشهيد الصّدر في تلك القاعدة وأثبت بالدليل كونها قاعدة تجريبية مستدلّة. أمّا التجربة بالمفهوم الحديث فالمراد منها معنيان: الأوّل ملاحظة الظواهر من دون تدخّل ايجاباً أو سلباً فيها كمن يلاحظ ظاهرة البرق مثلاً ليكتشف منها قانوناً ما, والثاني هو التدخل المباشر في خلق الظواهر, كمن يخلق ظاهرة البرق في مختبره من خلال الإستعانة بالشرر الكهربائي. انظر: الأسس المنطقية للاستقراء: 25, المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصّدر- قم, الطبعة الثانية 1426هـ .
(2) مما استفدناه من محضر درس الأستاذ السيّد عمّار أبو رغيف. 
(3) الشفاء- البرهان 9: 120, مراجعة وتصدير: د. ابراهيم بيومي مدكور, تحقيق: د. أبو العلاء عفيفي. 
(4) الشفاء, نفس المصدر: 63.
(5) المباحث المشرقية في الإلهيات والطبيعيات. فخر الدين الرازي, تحقيق وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي 1: 464, الفصل الرابع عشر في أقسام التصديقات, انتشارات ذوي القربى- قم, الطبعة الأولى 1428هـ .
(6) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي, السيّد محمد حسين الطباطبائي, تقديم وتعليق: مرتضى مطهّري, ترجمة: عمّار أبو رغيف 1: 89, 111, المقالة الثانية.
(7) فلسفتنا, السيّد محمد باقر الصدر: 335, المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر- قم, الطبعة الأولى 1424هـ . 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/03



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسية إشكالية وحلول (2)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net