من اورع ما قاله مارتن لوثر كينج جونيور في الظلم : "الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان. "
كما ان الامراض والفيروسات قد تنتقل بالعدوى من شخص الى اخر ؛ كذلك المظالم والجنايات والسلبيات , ولعل اقرب مثل لما نحاول توضيحه , المثل القائل : (( من حُلقت لحية جار له فاليسكب الماء على لحيته )) فالظلم يبدأ بغيرك ثم ينتهي اليك , فاذا عومل الناس بشكل غير عادل في أي مكان من الوطن ، فقد تتعرض أنت أيضًا لمعاملة غير عادلة فيما بعد ؛ فلا أحد يسلم من الظلم ؛ حتى تتحقق العدالة لجميع الناس ومن دون استثناء .
إن العدالة الاجتماعية وسعادة افراد المجتمع تتحقق حين يصبح كل فرد مسؤولا عن اتخاد قراراته وتحديد مصيره بما يعود بالنفع عليه وعلى محيطه، وحرا بحياته الشخصية بما لا يتعارض مع حريات الاخرين والقوانين السائدة , وهذا الامر يحتاج مقدمات طويلة ومن اهمها الوعي والعلم والمعرفة والايمان بحقوق الانسان والقيم المدنية والانسانية وحب الوطن والشعور بالهوية الجمعية المنتجة والانتماء اليها بنحو من الانحاء , ان لم يكن الانتماء كليا ؛ والإيمان بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة , وأن ليس من حق أي أحد السيطرة والتسلط على غيره او تقييد حريته او الاضرار به وباي نحو من الانحاء ومن دون استثناء .
فالقمع والجور والظلم بإسم المعتقد او الإصلاح او السياسة او الخطط الحكومية او المعتقدات والأيديولوجيات ؛ جريمة نكراء في حق الشعوب والافراد لا تغتفر ؛ لأنها تعطل الحياة والتنمية والتطور , وتدمر الوشائج الاجتماعية والاواصر الانسانية , و تتسبب بشيوع مشاعر الخوف والاضطراب والقلق واليأس والخضوع والذل والعبودية ... ؛ وذلك لان السعادة والطمأنينة والتطور والازدهار يكمن في عدم تقييد الفكر والسلوك الانساني , و صون الانسان من شتى انواع المظالم وكافة ضروب الاهانة وهدر الكرامة .
ومما سبق نعرف سر اصرار الديانة الاسلامية على شجب الظلم وتغييره , واستمرار الثورات الشيعية ضد الظالمين والطغاة والجلادين , وتشبيه المجتمع بالجسد الواحد , وبضرورة انكار القمع والجور والمنكر باليد او اللسان او القلب وقد وصفت الروايات الاسلامية الانكار بالقلب بانه من اضعف الايمان , فالظلم كالفايروس المعدي والذي ينتشر بين المواطنين عبر الاجواء والاختلاط , والذي يتطلب تظافر الجهود لمواجهة الفيروسات , والحجر الصحي على المرضى وعزلهم عن الاصحاء , وغيرها من الاجراءات الضرورية التي تحد من انتشار المرض او تعالجه ؛ كذلك الظلم يتطلب منا جميعا الشجب والاستنكار , والعمل الجماعي , والاتحاد والاتفاق بين كافة افراد وجماعات المجتمع ؛ لإزالته , واستئصاله من جذوره , واقتلاعه من تربته الفاسدة , والا عم الاجواء وانتشر في الافاق وقضى على الجميع كالطاعون , وكما عبر دانتي أليغييري في اعماله الفنية ؛ فإن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل , او الذين حافظوا على حيادهم أوقات الأزمات الأخلاقية ؛ كون هذا التخاذل و السلوك السلبي يمهد الطريق للباطل والظلم والقمع ويضع صاحبه موضع المتفرج الاناني ، وكل ادعاءاتهم زائفة , فالبعض يدعي انه يبتعد عن الفتنة والاخر يقول : لا قبل لنا بالظالمين , والثالث يقول : المظلوم يستحق الظلم او هذا قدره في الدنيا , او ان امره لا يعنيني ما دمت انا بخير ... الخ , والبعض يغلف الظلم بالشعارات الدينية والسياسية والوطنية , ويجد التبريرات للجرائم والمظالم والمجازر , ويغض الطرف عن الجلادين والظالمين ان كانوا من جماعته وبطانته وحزبه , ولا يعلم ان طوق الطائفية ودائرة العنصرية والفئوية لا تنجيه من تداعيات الظلم التي ستطاله ولو بعد حين , فالظلم كالنار يحرق الاقرب ثم الابعد بمرور الوقت .
ومن خلال ما تقدم نعرف ان السعي إلى تحقيق العدل بين الناس والدفاع عن أي مخلوق مظلوم , والمطالبة بحقوق اي مواطن مهضوم ؛ مهمة وطنية ومسؤولية انسانية تقع على عاتق كل إنسان واع وحر وشريف ، والدفاع عنهم يعني بالضرورة والالتزام الدفاع عن حقوقك وحقوق اهلك وذويك ؛ لأننا في مركب واحد ومصير مشترك , فاذا اصيب احدنا بمرض معدي انتقل المرض الى الاخرين كما قلنا انفا , والتغافل عن هذه المسؤولية وغض الطرف عن الظلم والمظالم والظالمين والمظلومين ؛ يعتبر انانية وغباء وجهل وحيوانية لا تتناسب مع القيم البشرية ، لذا قيل : ان الظلم لا يصدر الا من الناقص والجاهل والمصاب بالعقد والامراض النفسية ؛ وكذلك لا يعتبر حرا من يرى إنسانا يهان ولا يشعر بالإهانة كما عبر عن ذلك نلسون مانديلا ؛ وقد جاء في الاثر الاسلامي ما يؤكد ذلك : من رأى منكم حية تحوم حول اخيه ولم يخبره وقتلته الحية , فهو شريك في دمه , بل ان المشرع الاسلامي اوجب عقوبة بحق كل شخص لم ينصر المظلوم المجني عليه ؛ والرضى بالظلم والقهر بسبب الخوف هو من علامات ضياع الأخلاق وضعف الإيمان واليقين، لذا جاء في الاثر الاسلامي الراضي بالظلم يحشر مع الظالمين , فهو مشمول بالعقاب الالهي , اذ ان هدف كل الملل والديانات هو إقامة العدل وحماية البشرية من الظلم والجور والتعسف والغبن .
وليس من المعقول القبول بالقمع والظلم والتعدي وتقييد الحريات ونهب الثروات واهدار الكرامات واهانة الناس والوطن والمقدسات ؛ بحجة قوة وغلبة قوى الاحتلال والاستعمار والاستكبار او بطش وفتك الحكام والطغاة ؛ او بذريعة الشريعة والدين , والحكمة والاصلاح , والاجراءات الحكومية والقوانين النافذة والطوارئ ؛ فكل تلك الامور لا تعد مبررا لارتكاب المظالم والجرائم والحاق الضرر بالمواطنين ؛ والشعوب هي من تقرر مصيرها وهي من تدافع عن فكرها ومصالحها وشؤونها ، وهم يطيعون الحكام ان اقتنعوا بهم وسار الحكام على نهج العدل والعدالة والحرية وحقوق الانسان , وإن رأوا منهم ظلما أو جورا او قمعا فلا طاعة لهم عليهم , ولا حبا ولا كرامة , وبغض النظر عن تاريخهم ومكانتهم واصلهم ، فالظلم مؤذن بخراب العمران كما أكد ابن خلدون.
وللظلم اشكال وصور متنوعة ودرجات مختلفة بين الناس ؛ فالغيبة والنميمة , والكذب على الاخرين وخداعهم والتغرير بهم والاستهزاء والسخرية منهم ؛ من الظلم , فضلا عن ضرب الناس وتعذيبهم وقتلهم وسرقتهم وتشريدهم وتهجيرهم واعتقالهم وسجنهم ... الخ ؛ وغش الناس والاستهانة بهم واهدار كرامتهم , وعدم الاهتمام بهم واهمالهم , يعد من ضروب الظلم ايضا , وكذلك تختلف وتتعدد أسباب تفشي القمع والجور المسلط على الشعوب المقهورة والجماعات المظلومة من طرف حكامهم أو ممن لهم مسؤولية عليهم ، وانتشار الظلم بين الناس , فهناك من يسلط ظلمه وجبروته على مرؤوسيه بهدف توسيع دائرة نفوذه والسيطرة عليهم بقبضة من فولاذ، وهناك من يسلط سوطه ظالما لإخافة معارضيه وإسكاتهم وإعطاء العبرة بهم لغيرهم، وهناك من يظلم ويطغى فقط لينتشي بعظمته وقوته أمام الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة للدفاع عن أنفسهم , وهناك من يظلم بسبب الامراض النفسية والعقد العنصرية والاجتماعية والأيديولوجيات السياسية الفاسدة والدينية المتعصبة ... الخ .
ويتصف افراد المجتمعات المأزومة والمصابة بكل ترسبات التاريخ السلبية ؛ بالأنانية والنرجسية , والبرجماتية , واللامبالاة تجاه مظاهر الظلم والمظالم العامة , والتعود على رؤية المظلومين والمضطهدين والمعذبين والمحرومين والمهمشين في حياتهم اليومية من غير أن يحدث ذلك شيئا في أنفسهم او يحرك مشاعرهم وكأن لسان حالهم يقول "هذا أمر عادي وطبيعي ومقدر ، وما شأني أنا ما دمت لست بمظلوم ولا ظالم , ولا اقوى على تغييره " ؛ بل قد يصل الامر بهم الى اعتبار الظالم مظلوما والفاسد المُفسد صالحا ومصلحا نتيجة لسياسات تضليل الرأي العام وترويج المغالطات والتعتيم على أصحاب الحق والاقلام الحرة .
اما المجتمعات الحرة والجماعات الايجابية وذات الروح الوطنية والانسانية ؛ فإنها تتحمل مسؤولية مقارعة الظلم والظالمين وتطالب بالحقوق والحريات , وتشجب تفشي الظلم وسلب الحقوق ، وتفضل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الضيقة , ولا تضحي بالوطن والمواطن من اجل حفنة من السحت الحرام , وتفضح الظالم ثم تواجه الظلم بالعلم والعمل بهدف القضاء عليه وتطهير المجتمع منه او الحد من انتشاره , وجاء في الاثر الاسلامي ما يدعو المسلمين الى العمل بهذه السيرة الانسانية والمسيرة الاخلاقية , اذ قال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ فالطالب معني برفع الظلم عن إخوته داخل الجامعة وخارجها، والعامل والفلاح والحرفي عليه أن يقف بجانب أخيه المظلوم من طرف رئيسه أو زميله في العمل، والمرأة لها دور مهم في الدفاع عن الحق وكشف الظلم والفساد في محيطها ومجتمعها، ورجل التعليم من مهامه التعريف بالحق والدعوة له وشجب الظلم والفساد وتربية تلاميذه على ذلك، والطبيب والمهندس والسائق والربان وغيرهم من أبناء المجتمع كلهم معنيون برفع الظلم وفضح الفساد حتى لا يصير عادة في نظر الناس ... الخ ؛ فلن يحدث التغيير الايجابي ولن يتم القضاء على الظلم والجور والقمع والعنف إلا بتظافر جهود جميع مكونات المجتمع من صغار وكبار ونساء ورجال وأفراد ومؤسسات وأحزاب وجمعيات وتنظيمات بمختلف توجهاتها ومرجعياتها.
ويخطئ من يظن ان الظلم الذي يطال الاخرين والبعيدين عنه والمختلفين معه بالعقيدة واللون والتوجه والعرق , لن تصل تداعياته الخطيرة اليه او الى ذويه واحبابه فيما بعد , اذ ان اثار الظلم والقمع والبؤس والعنف ستطال الجميع وبلا استثناء , فهو يصب في صالح الاعداء , لأنه المعول الهدام الذي بواسطته تهدم الاوطان ويهان الانسان . فخطورة الظلم تشمل كافة نواحي الحياة وجميع بني البشر , فما تنعم ظالم الا بما حرم منه مواطن , وما فرح جلاد الا بما تعذب به معتقل , فالأوغاد يرقصون على اجساد الضحايا , والانذال يضحكون على بكاء الارامل واهات المساكين ودموع اليتامى وصراخ الثكالى , وصدق من وصف الظالمين عندما قال : (( ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم ، وما سمنت أجسامهم حتى نحلت أجسام من استأثروا عليه )) فالظلم يخلق الفوضى في المجتمع، ويزرع الحقد والبغضاء، ويولد الحسد والمشاحنات بين الناس , والظلم يفضي إلى خراب ودمار مقدرات الأفراد والمجتمعات، ويعزز من انتشار الجشع والاحتكار والطمع والغش والتزوير في المجتمع، ويعمل على انتشار قيم اللصوصية وشريعة الغاب، ويكرس ثقافة الخوف والقرصنة والكذب والتدليس، فتغيب المروءة لدرجة يصاب فيها الأفراد بفوبيا الخوف الدائم على أنفسهم وأسرهم وحقوقهم وأملاكهم، سواء أكانوا ظلمة أم مظلومين ؛ فنار الظلم تحرق الجميع بما فيهم الظالمين :
قضى الله أن البغي يصرع أهلـه ***وأن على الباغي تدور الدوائـر
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat