عَليٌّ.. قَيِّمُ القرآن
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ألقي هذا البحث في (جامعة كربلاء) في (مؤتمر الإمام الحسين عليه السلام الدولي السادس) الذي أقامته العتبة الحسينية المقدَّسة (دار القرآن الكريم) بالاشتراك مع (جامعة كربلاء) تحت عنوان (الأثر القرآني لأمير المؤمنين عليه السلام)، وذلك يوم الخميس 7 شعبان 1446 هـ الموافق 6-2-2024 م
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اتَّفقت كلمةُ المسلمين على نقل وَصِيَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله بالكتاب المنزَل عليه، وبعترتِه الطاهرة، أهل بيته عليهم السلام.
هي وصيةٌ مشهورةٌ معروفةٌ يحفظها الصِّغار والكبار، ينقلُ بعضَ فقراتها مُسلمُ في صحيحه: أَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ الله.. وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِي أَهْلِ بَيْتِي(1).
وقد تكرَّرَت وصيَّته (ص) بالثَّقلين مراراً، حتى قبيل انتقاله إلى ربه تعالى، حين خاطب صلى الله عليه وآله أصحابَه فقال:
إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ كِتَابَ الله (عَزَّ وَجَلَّ) وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَرَفَعَهَا فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ، خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ، لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَأَسْأَلُهُمَا مَا ذَا خُلِّفْتُ فِيهِمَا(2).
إنَّ المعيَّةَ هنا مُتبادَلَةٌ بين عَليٍّ والقرآن، فكلٌّ منهما مع الآخر، حيثُ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُمَثِّلُ الحقَّ المطلق، والحقُّ لا يفارقُ الحقَّ بحال.
وفي هذا البحث نعرض لمحاور أربعة، تُبَيِّنُ التلازُمَ بين عليٍّ عليه السلام والقرآن، وتكشف عن انحصار الهداية وحياة القلوب بالأخذ عنهما معاً، مع التحذير من هجرانهما، وبيان الوجه في توقُّف فهم القرآن بأبعاده الواسعة على تَرجُمانه: عليٍّ عليه السلام.
المحور الأول: عليٌّ والكتاب خليفتان بصيران
إنَّ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله المتقدِّم ما يستحقُّ التأمُّل.. فَعَليٌّ والقرآن في كلامه (ص): (خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ، لَا يَفْتَرِقَانِ)!
يُدركُ المؤمنُ بعقله الذي جعله الله زينةً لهُ ونوراً امتناع اجتماع خليفتين معاً، فكيف تَرَكَ النبيُّ صلى الله عليه وآله -وهو أعظم العقلاء وسيُّدُهم- للنَّاس خليفتين معاً؟ ولو كانا بصيرين؟!
يتأمَّلُ المؤمنُ فيفهم أنَّ المانع من اجتماع الخليفتين معاً هو تزاحُمُهُما عندَ فعليَّة خلافتهما، ويتيقَّن من لزوم انحصار الرئاسة والقيادة بواحدٍ ولو كانا معصومَين مُطَهَّرين، لضمان انتظام الإمامة.
أمَّا لو كان أحَدُهُما ناطقاً، والآخرُ صامتاً، كان الناطق الذي أُمِرَ النَّاسُ باتِّباعه هو الإمامُ باطناً وظاهراً، وارتفعت غائلة التناقض.
لذا أجاب الإمام الصادق عليه السلام لمّا سئل: تَكُونُ الأَرْضُ وَفِيهَا إِمَامَانِ؟
بقوله: لَا، إِلَّا إِمَامٌ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ(3).
أي لا يتصدى، وهكذا كان الحسينُ إماماً في حياة الحسن عليه السلام، لكنَّ النُّطقَ كان للحسن عليه السلام، وإن أمر الناس بالإيمان بهما معاً.
وهكذا ساغَ للنبيِّ صلى الله عليه وآله أن يترُك خليفتين بَصيرين معاً: عَليٌّ.. والقرآن، حيثُ يلزم أن يكون أحدُهُما صامتاً والآخر ناطقاً.
الكتاب الصامت
إنَّ في القرآن الكريم ما في الصُّحُفِ الأولى، وما يحتاجُ النّاس إليه من حلالٍ وحرام، إلا أنَّهُ ليس كتاباً ناطقاً، وقد قال عليٌّ عليه السلام:
ذَلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ!
أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ، وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فَلَوْ سَالتُمُونِي عَنْهُ لَعَلَّمْتُكُمْ(4).
كلُّ ذلك في القرآن.. لكنَّهُ لا ينطق به، بل الناطق به عليٌّ عليه السلام! والكاشف لأسراره صِنوُه في الخلافة، إمامُ الحقّ، وخليفة الرحمان.
لقد قال عليه السلام في القرآن الكريم: هَذَا كِتَابُ الله الصَّامِتُ، وَأَنَا المُعَبِّرُ عَنْهُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ الله النَّاطِقِ، وَذَرُوا الحُكْمَ بِكِتَابِ الله الصَّامِتِ، إِذْ لَا مُعَبِّرَ عَنْهُ غَيْرِي(5).
لقد أشارَ عليه السلام هنا إلى معنىً دقيق، وهو أنَّ القرآن الكريم يحتاجُ إلى مَن يكشفُ مبهماته، ويُظهِرُ علومَه، ويُعَبِّر ما فيه ويُبَيِّنَه للناس، وليس سوى عليٍّ عليه السلام، وعليه يُحمَلُ كون القرآن صامتاً.
أما ما روي عنه عليه السلام في كون القرآن ناطقاً: ..وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ(6)، وأنَّه: يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْض(7)، وأنَّه كلام الله: الصَّادِق النَّاطِق(8).
فمحمولٌ على المحكَمات التي لا تحتاجُ إلى تبيين، ففي القرآن مُحكمٌ بَيِّنٌ يلهجُ بالحقِّ جلياً، ومنه ما يحتاجُ إلى تبيين.
فلا يكونُ القرآنُ صامتاً في المُحكمات، ولا يكون ناطقاً في غيرها.
وعلى هذا المعنى يُحمل قوله عليه السلام: فَالقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ(9).
ويشهدُ لهذه المعاني ما ورد في كتب اللغة حول معاني النُّطق والصمت، بحيث يتضح أنَّ أقرب المعاني لتفسير القرآن بأنه صامتٌ هو تضمنه للمتشابهات، ففي معجم مقاييس اللغة: الصاد والميم والتاء أصلٌ واحد يدلُّ على إبهامٍ وإغلاق(10).
فالإبهام والإغلاق أي عدم إمكان الوصول إليه بيُسرٍ هو صفةٌ قريبةٌ من المتشابه، الذي لا يمكن معرفة المراد منه لكل أحدٍ كيفما اتفق، إلا بِرَدِّه الى المحكم.
وأقرب المعاني لتفسير الناطق هو البَيِّن، وهو الآيات المحكمات:
ففي كتاب العين: نَطَقَ النَّاطِقُ يَنْطِقُ نَطْقاً، وهو مِنْطِيقٌ بليغ. والكتاب النَّاطِقُ: البين(11). وفي المحيط في اللغة: الناطِقُ: البَيِّنُ(12).
وبهذا يتضح أن القرآن صامتٌ من جهة متشابهاته، ناطقٌ من جهة محكماته، وأن متشابهاته التي كان فيها صامتاً، يبينها عليٌّ عليه السلام، فيكون بها ناطقاً، فصار عليٌّ عليه السلام كتاب الله الناطق.
إنَّ علمَ ما مضى وما يأتي مودَعٌ في القرآن الكريم، لكنَّه يحتاجُ إلى مُعَبِّرٍ هو عليٌّ عليه السلام، فيكون القرآن الكريم صامتاً عن ذلك.
ولقد كان القرآن صامتاً في كثيرٍ مما اختلف فيه الناس أيضاً، بمعنى احتياجه لمن يوضح لهم ما اختلفوا فيه.
كما كان ناطقاً فيما اتَّفقوا عليه، وفيما كان جليَّاً بَيِّناً وإن لم يعمَلوا به، كلزوم طاعة أولي الأمر المعصومين عليهم السلام.
عليٌّ قيِّمُ القرآن
مِن ههنا أدرَكَ أعاظمُ فقهاء الشيعة النسبة بين عَليٍّ والقرآن، حتى عَرَضَ الشيخ الجليل الفقيه منصور بن حازم رحمه الله مناظرته مع المخالفين على الإمام الصادق عليه السلام، فترَحَّمَ الإمام عليه مقرَّاً له على أقواله.
لقد أدرك رحمه الله أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله كان حجة الله، وأنَّه ترك بعده حجةً لهم، وهذا الحجة إن كان هو القرآن بنفسه فهذا لا يستقيم مع اختلاف الناس في الاستدلال بالقرآن، قال رحمه الله:
فَنَظَرْتُ فِي القُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ المُرْجِئُ وَالقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ القُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقّاً.
أي أنَّ أصحاب العقائد الباطلة قد يحتجّون بالقرآن الكريم على عقيدتهم، ثم يعجزُ مَن يقابلُهم عن ردِّ دعواهم مع بطلانها، وما ذاك إلا لعجزه عن فهم القرآن، ولأنَّ القرآن صامتٌ لا يمكنُ له أن يبيِّن المراد من آياته حقاً، بل يحتاجُ إلى من يدفع عنه تلبيسات الأبالسة.
ولمَّا لم يَكُن عندَ أحدٍ معرفةٌ بكلِّ القرآن سوى عليٍّ عليه السلام، بل لم تُدَّعَ مِثلُ هذه المعرفة التامَّة لأحدٍ سواه في طول التاريخ، ثبت أنَّ هذا المنصب له، قال رحمه الله: فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً (ع) كَانَ قَيِّمَ القُرْآنِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً..
فقال عليه السلام: رَحِمَكَ الله(13).
فهو عليه السلام قَيِّمُ القرآن، أي مُقيمُ أمره، ومُبَيِّنُ علمه، وهو المحيط بشؤونه، والكاشف لغوامضه، والمبين لمتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وهو الدال على بطونه، والمظهر لعلومه. فليس القرآن مع تمام عظمته بمستغنٍ عن الإمام المعصوم.
الاحتجاج بالقرآن
ظهر بما تقدَّم أن هذين الخليفتين (عليٌّ والقرآن) وإن كانا (خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ) فإنَّهما ليسا على سَمتٍ واحد، وطَرزٍ فارد، فأحدُهما لا ينطق إن استُنطِقَ إلا بالآخر، وقد أوصى الخليفةُ الآخر وهو عليٌّ عليه السلام ابن عباس عندما أرسله للاحتاج على الخوارج فقال:
لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالقُرْآنِ، فَإِنَّ القُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ(14).
ولمّا كان القرآن صامتاً يحتملُ وجوهاً، ولو بعيدةً، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه التوجيهات الفاسدة، إلا بِقَيِّمٍ، وكان الخوارجُ ممَّن لا يقبلون قيموميَّة القيِّم، لم يصلح الاستدلال عليهم بالقرآن، بل لزم الاستدلال عليهم بالسنة الشريفة إن قبلوها، والناطق بهما عليٌّ عليه السلام.
نعم لا يُخاصَمُ القومُ بالقرآن لمكان جحودهم، أما المنصفُ منهم فيقرُّ بفضل الأئمة عليهم السلام من القرآن.
وهذا مختصٌّ بالمتشابه، الذي يحتمل الأوجه المختلفة، أما المحكم فمما خاصَمَ به الأئمة عليهم السلام وأمروا الشيعة بذلك، كما روي عن الباقر عليه السلام:
يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ خَاصِمُوا بِسُورَةِ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) تَفْلُجُوا: أي أثبتوا بها الإمامة، يكون لكم الظفر بذلك.
فَوَ الله إِنَّهَا لحُجَّةُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ الله (ص): فالقرآن الكريم حجةٌ كما الإمام، وإن كانت تمام علومه عند الإمام، وكان القائم بأمره هو الإمام، إلا أنَّهُ يظلُّ حجَّةً فيما هو جليٌّ بيِّن، ومن ذلك سورة القدر.
وَإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ دِينِكُمْ: فصارت هذه السورة سيِّدةَ الدين لأنّها تُثبتُ ما يكتملُ به الدين، وهو الإمامة، فيكون الدينُ منقوصاً عقيماً لولاها، أو لأنها سيدة الأدلة على الإمامة أيضاً.
وَإِنَّهَا لَغَايَةُ عِلْمِنَا: وهذه إشارةٌ إلى ما يتنزل على الإمام في ليلة القدر إلى آخر الدَّهر.
يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ خَاصِمُوا بِـ ﴿حم وَالكِتابِ المُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾، فَإِنَّهَا لِوُلَاةِ الأَمْرِ خَاصَّةً بَعْدَ رَسُولِ الله(ص)، يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾: فأثبتت هذه الآيات لزوم وجود الحجة في كلِّ زمان، وهو الذي تتنزَّلُ عليه الملائكة في ليلة القدر، وبهذا يُعرَفُ ضرورة وجود الإمام الحجة عجل الله فرجه، فإنَّ القرآن الكريم في هذه الآيات يُرشدُ إلى ما حكمت به العقول من لزوم الحجة في عَصر.
أفهل يترك الله تعالى عباده هملاً دون حجَّةٍ يحتجُّ به عليهم؟ ودون نذيرٍ يُنذرهم أمرَ الله؟ سواءٌ قبلوه، أم جحدوه وألجؤوه إلى الغياب.
ثم قال عليه السلام: لَمْ يَمُتْ مُحَمَّدٌ إِلَّا وَلَهُ بَعِيثٌ نَذِيرٌ.. فَإِنْ قُلْت لَا، فَقَدْ ضَيَّعَ رَسُولُ الله (ص) مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ مِنْ أُمَّتِهِ.
قَالَ: وَمَا يَكْفِيهِمُ القُرْآنُ؟
قَالَ (ع): بَلَى إِنْ وَجَدُوا لَهُ مُفَسِّراً.
قَالَ: وَمَا فَسَّرَهُ رَسُولُ الله (ص)؟
قَالَ (ع): بَلَى قَدْ فَسَّرَهُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَفَسَّرَ لِلْأُمَّةِ شَأْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)(15).
فمَن زعمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله لم يوصِ لأحدٍ يكون إماماً من بعده فقد نسب له (ص) التفريط في هداية الأمَّة، وتضييع الأجيال القادمة، لأنَّ أحداً لا يزعمُ أنَّ عنده تفسيرُ تمام القرآن، ولا يكون ذلك إلا لإمامٍ منصوبٍ من الله تعالى يُبيِّنُ للناس، من بعد أن يكون النبيُّ (ص) قد أرشد إليه وسمّاه وبيَّن أمره.
دلالة متبادلة بين القرآن والإمام
إنَّ بين الإمام والقرآن علاقةٌ بالغةُ الدلالة، بحيث يهدي كلٌّ منهما للآخر، ويُرشدُ إليه، ويدلُّ عليه.
أولاً: القرآن يهدي للإمام
لقد كشفَت آيات الكتاب عن هذه العلاقة، بحيث أنَّ الكتابَ نفسَه يهدي للخليفة البصير الناطق، قال تعالى: ﴿إِنَّ هذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(16)، وقال فيها الصادق عليه السلام: يَهْدِي إِلَى الإِمَامِ(17).
ولمّا سُئلَ عليه السلام عن وجه معرفة الإمام وبما يُعرَف قال: بِكِتَابِ الله المُنْزَلِ(18)، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله﴾(19)، وقوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(20).
بل إنَّ رُبع القرآن أو ثلثه نزل في آل محمد عليهم السلام، فما أكثر الآيات الدالة عليهم، والمرشدة إليهم، والآمرة بالأخذ منهم.
بل إنَّ معرفة أمر الأئمة عليهم السلام من القرآن من أوجب الواجبات، حِفظاً للنفس من السقوط في الفتن التي توالت على المسلمين، إذ لا شكَّ عند أحدٍ من المسلمين بصحة الكتاب المنزل وحجيَّته، فمَن عرفَ أمرَهم من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل كان آمناً من الهزاهز، ومَن جَهِلَ ذلك كان عرضةً لأن تُسقطه مضلّات الفتن، حتى ورد عنهم عليهم السلام: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَنَا مِنَ القُرْآنِ لَمْ يَتَنَكَّبِ الفِتَنَ(21).
أي لم يجتنبها ويتباعد عنها، فيلزم أن يكون المؤمن على بينة من أمره في الإمامة، وأن يتمكَّنَ من معرفتها من القرآن الكريم، كمعرفتها من ليلة القدر وسواها من الأدلة الجليَّة.
ثانيا: الإمام يهدي للقرآن
لمَّا كان الإمام هو الناطق عن القرآن، والمُبَيِّنُ لأحكامه، كان دالاً ومرشداً إليه، حتى ورد عنهم عليهم السلام:
وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَانٍ هَادٍ وَدَلِيلٌ وَإِمَامٌ، يَهْدِيهِمْ وَيَدُلُّهمْ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ(22).
والإمام من آل محمدٍ: يُنْذِرُ بِالقُرْآنِ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ رَسُولُ الله (ص)(23).
وقد قال الصادق عليه السلام في عليٍّ والقرآن: صَاحِبَانِ مُؤْتَلِفَانِ يَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ بِتَصْدِيقٍ(24).
بهذا ثبت التلازم بين هذين الخليفتين، أحدُهما لا يفارقُ الآخر، وكلٌّ منهما يُرشِدُ إلى صاحبه، ولكنَّ أحدَهما لا ينطق إلا بالآخر، فصار الناطقُ قَيِّماً، وهو عليٌّ عليه السلام، وبنوه من بعده، الذين طهَّرَهم الله تعالى وعَصَمَهم وجعلهم مع القرآن، لا يفارقهم ولا يفارقوه.
فمَن آمَن بالقرآن آمن بهم، ومَن كفر بهم كفر بالقرآن، ولهذا التلازم صحَّ أن يصفَ عليٌّ عليه السلام حال الأشقى فيقول: فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْهُ ضَلَّ.. وَالقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاهُ هَجَرَ(25).
فمَن ضلَّ عن عليٍّ وهجره كان الأشقى..
وهكذا صار عَليٌّ قَيِّمَ القرآن.. بل صار عَليٌّ هو القرآن حقاً.
فمَن آمن بالقرآن اتَّبَع القيِّمَ والمبيِّنَ والموضح له، فهما خليفتان بصيران لا يُقبَلُ الاعتقاد بأحدهما وإنكار الآخر وجحوده، فإما أن يؤخذا معاً، أو يُتركا معاً..
وهكذا صارَ القرآن قُرآناً بقيِّمِه.. ذاك عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، به تتمُّ حجَّتُه، وبه يصيرُ القرآن ناطقاً، وبه تظهر علومه.
المحور الثاني: عليٌّ والقرآن: سبيل الهداية وحياة القلوب
تعيشُ الأمَّةُ اليومَ في ظَلامٍ حالِكٍ، جَهلٌ وظُلاماتٌ وأحزانٌ وهمومٌ، لا تُفارِقُ الناس بحال.
كيف ما نَظَرتَ على وجه الأرض ترى ظُلماً وقَهراً واضطهاداً واستعباداً للعباد، حتى يكاد يصير بعضُهم عبيداً للظالم المقتَدِر، وقد جعلهم الله أحراراً.
ولا تشذُّ أمَّةُ الإسلام عن هذه الحالة المقيتة، وهي الأمة التي تؤمن بكتاب الله تعالى، كتاب الهدى والرشاد.
فأين الهدى الذي تدَّعيه هذه الأمة؟ وبين أيديها كتاب الله، معجزة الرسول، وفيه أخبار السماء والأرض وأحكام الله تعالى.
إنَّ كتاب الله نورٌ وهُدى، يأخذ بيد العباد، رغم ذلك لا نرى مصابيح نَيِّرَة في سماء المسلمين اليوم كما ينبغي! فأين مَكمَن الخلل؟!
الثقلان من أنوار الله!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام وفي وصيته لأصحابه:
اعْلَمُوا أَنَّ القُرْآنَ هُدَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: أي أنَّه هدىً في كل حال، فلا يخلو الوقت من أن يكون إما ليلاً أو نهاراً، وعلى كلا التقديرين يكون القرآن كتاب هداية فيهما، ثم يقول عليه السلام:
وَنُورُ اللَّيْلِ المُظْلِمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَفَاقَةٍ(26).
بالقرآن يسترشدُ المؤمنون، حيث ينتشلهم مما هم فيه من فاقةٍ وتَعَب.
والمؤمن يتوجَّه إلى الله تعالى داعياً طالباً: أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ:
1. نُورَ بَصَرِي
2. وَرَبِيعَ قَلْبِي
3. وَجَلَاءَ حُزْنِي
4. وَذَهَابَ هَمِّي(27).
لكنَّ عمى البصيرة حَطَّ رحاله بين المسلمين، وخريف القلوب السوداء يسيطر عليهم، والأحزان والهموم لا تفارقهم.
أمير المؤمنين يقول عن القرآن بأنَّه: جَعَلَهُ اللهُ.. نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ..
لكنَّ كثيراً من حَمَلَةِ القرآن اليوم في ظَلامٍ دامس!
ويقول أنَّ الله أنزل الكتاب: نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ.
وأنَّه: لاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ.
ويأمر بالاستشفاء بنوره: وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ.
ولا يرى جُلُّ الناس لهذا الأثر نوراً، فما السرُّ في ذلك يا تُرى؟!
في القرآن ﴿شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُور﴾، لكنَّ صدور المسلمين لم تُشفَ، وحاشى أن يخطئ الله تعالى في كلماته.
يبحث المؤمن عن السرِّ في ذلك، فالقرآنُ كتابٌ في غاية العظمة، به تُكشَفُ الظلمات لا بسواه، فلماذا لا تزال الأمّة في ظلمات الجهل وهي تتلوه ليلَها ونهارَها؟! لماذا لم تهتدِ بأنواره؟
إنَّ السرَّ في مكانٍ غَفِلَت عنه الأمة أو تغافلت، وعَمِيَت أو تَعَامَت.
إنَّ القرآن اليوم ليس حِكراً على فئةٍ من الناس، فكلُّ مَن على وجه البسيطة يقدرُ على الانتفاع به.
لكنَّ من استَنَارَ به واهتدى واسترشد هم أقلُّ القليل، ومَن أذهبَ القرآنُ همَّه هم قِلَّةٌ كالكبريت الأحمر.
فما السبيل إلى بلوغ تلك المنزلة؟ والحظوة بهذه المنقبة؟
لا ريب أن القرآن نورٌ للبصر، ان استرشدنا به واهتدينا.
ولكنَّ القرآن نفسه يرشد إلى نورٍ آخر.. هو الإمام، فمَن اهتدى به اتَّبَعَ النورين: نور القرآن ونور الإمام، ومَن جَحَدَ الإمام كان كمن أغمض عينيه عن نور القرآن.
إنّ القرآن يهدينا للإمام.. فكيف نتنوَّرُ به إذا ما رفضنا دلالته؟
إنَّ الأئمة في كتاب الله أنوارٌ أنزلها الله تعالى لتضيء للأمَّة ظُلُمَات الجهل، فقال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه﴾(28). وعن الصادق عليه السلام: النُّورُ فِي هَذَا المَوْضِعِ عَلِيٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَالأَئِمَّةُ (ع)(29).
هم اثنا عشر إماماً، يمثِّلون الكمال المطلق في عالم الوجود، هم أنوارٌ إلهيةٌ تأخذ بيد الناس إلى الله تعالى، لكنَّ الناس أعرضَت عنهم!
قال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾(30).
وعن الباقر عليه السلام: النُّورُ والله الأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(31).
إنَّ على وجه الأرض اليوم نوران: نورُ القرآن، ونورُ الإمام.
والقرآن يأمر باتباع الإمام، فمَن لم يتَّبعه كان قد أغمضَ عيناً عن نور الإمام، ثم أغمض الأخرى بعدم اتباع أمر القرآن.. فصار في ظلامٍ دامس وجهلٍ مطبق.
شروط الهداية بالقرآن
كيفَ تسترشدُ الأمَّة بالقرآن؟
سؤالٌ يطرحه العاقل فيقول: إذا كانت أمَّة الإسلام اليوم غير مسترشدة بالقرآن وهو بين ظهرانيها، فما السبيل إلى كشفِ الظلمات به؟ وجلاءِ الأحزان وذهابِ الهموم.. ما الطريق إلى حياة القلوب بالقرآن؟
لقد كشفَ النبي (ص) وهو حاملُ القرآن خريطةً لذلك، وأبان المنهج جليّاً، وذلك في أمورٌ منها:
1. اتخاذ القرآن دليلاً واتِّباعُه
قال (ص): فَإِذَا التَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ.. مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيل(32).
إنَّ شرط الاستفادة من القرآن هو أن نجعله أمامنا، أي أن نتَّبعه فيما يقول، لكنَّ الأمة جعلته خلفها، وأعرضت عنه وهو دليلُها إلى خير سبيل.
ولقد وروي نفس المضمون عن النبي (ص) في عليٍّ والأئمة من بعده عليهم السلام، فقال (ص):
تَعَلَّمُوا مِنْهُ وَمِنْ أَوْصِيَائِهِ، وَلَا تُعَلِّمُوهُمْ، وَلا تَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا تَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَ الحَقِّ، وَالحَقُّ مَعَهُمْ لَا يُزَايِلُهُمْ وَلَا يُزَايِلُونَه(33).
وقد حادَت الأُمَّةُ عنهما معاً، فأخَّرَت من قدَّمَ الله، وقدَّمَت من أخَّر الله، واستبدلَت أولياء الله بأعدائهم، فبايَنَت الحقَّ وحادَت عنه، وما اهتدَت بالقرآن الكريم.
ثمَّ وقعَ بعضُ المؤمنين بالأئمة عليهم السلام في هذا الشِّرك المُخيف، فتقدَّمَ بعضُهم على آل محمد وتخلَّفَ آخرون.
أما المتقدِّمُ، فهو المستعجل الذي يُريد بَعثَ دولة الحق قبل أوانها، وقد هلك المستعجلون وأهلكوا، حيثُ ينقلبُ فعلُهم زيادةً في مكروه الشيعة والمؤمنين، وكان حريَّاً بهم أن يمتثلوا أمر الإمام بِتَرَقُّبِ أمره عليه السلام، والجدَّ والورع والاجتهاد.
وأما المتخَلِّف، فذاك الذي يقول في الدين بهواه، وما أكثر هؤلاء اليوم، من القائلين في دين الله بغير عِلم، وكأنَّهم شركاء النبيِّ صلى الله عليه وآله في نبوته.
ولعلَّ منهم العصاة، حيثُ تخلَّفوا بأعمالهم عن آل محمدٍ عليهم السلام، وما أكثر المعاصي في أيامنا، بعدما انتشر الفسادُ في كلِّ مفصلٍ من مفاصل الحياة، وتَخَلَّفَ الناسُ عن أمر آل محمدٍ صلى الله عليه وآله باجتناب المعاصي.
فأنَّى يسترشد هؤلاء بأنوار القرآن والعترة؟ وأنّى لهم النجاة من الفتن المقبلة كقطع الليل المظلم، وهم لم يعملوا بالقرآن ولا امتثلوا أمر أولياء الأمر؟!
2. التعرف على القرآن وعلى أسراره
قال النبي (ص) في وصف القرآن:
فِيهِ مَصَابِيحُ الهُدَى، وَمَنَارُ الحِكْمَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى المَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ.
وفي بعض المصادر (النَّصَفَة).
فعلى الأول، يكون المراد أنَّ من يستفيد من القرآن كمصباحٍ ودليلٍ على الحق هو الذي يعرف صفة القرآن أو وصف القرآن للحقائق، أي من يتعرَّف عليه حقاً ليُدرك معانيه.
وعلى الثاني، تنحصر الإستفادة بالمنصِفِ لا المكابر.
ولعل المراد بالصفة صفة القرآن من حيث احتوائه على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والتنزيل والتأويل، والظهور والبطون، وغير ذلك.
وعلى كل تقدير فلا تخلو العبارةُ من إشارةٍ إلى آل بيت العصمة، فربع القرآن أو ثلثه فيهم، وربعه في عدوهم.. فمن عرف الصِّفة منه عرفهم بها بلا ريب.
وكما غُيِّبَ آلُ محمدٍ عن الأمة، وجهلت الأمة قدرَهم، كذلك جَهِلَت حقيقة القرآن وما فيه من علومٍ ومعارف، حتى في مثل أوصاف الله تعالى، فكيف بسائر الصفات والعلوم؟
فَمِن مُشَبِّهَةٍ إلى مُجبِّرَةٍ ثمَّ متصوفةٍ وعُرَفاء يصفون الله تعالى بصفات المخلوقين، وغيرهم ممن جهلوا القرآن وزعموا القرب من الله تعالى.
3. التفكر بالقرآن والتعقُّل والتدبر
قال النبيُّ (ص): فَلْيَجْلُ جَالٍ بَصَرَهُ، وَلْيُبْلِغِ الصِّفَةَ نَظَرَهُ يَنْجُ مِنْ عَطَبٍ.. فَإِنَّ التَّفَكُّرَ حَيَاةُ قَلْبِ البَصِيرِ.
لا تحصل الهداية بلقلقة اللسان، ولا بحفظ ألفاظ الكتاب وتضييع معانيه، بل بتدبُّر آياته والتفكُّر فيها، فإنَّ النظر والفكر هو طريق الله تعالى، وبه الخلاص من العَطَب والهلاك.
ولا يُصغى إلى من زعم أن لا دور للعقل في الدين.
إن العقل عقلان:
1. عقلٌ قطعي يُستدلُّ به على الله تعالى ورسله.
2. وظنونٌ وأوهامٌ تُنسَبُ للعقل، يبرأُ منها الفِكرُ السليم، وتنهى عن اتِّباعها شرائع السماء.
ومَن خَلَطَ بين الأمرين وزَعَمَ أنَّ العقل حجَّةٌ في ظنونه وقع في المحذور، وأسوأ منه من أخرَجَ أحكام العقل القطعيَّة عن دائرة الحُجَّة فأفقَدَ الإنسانَ رأسَ ماله، وسَلَبَهُ ثمرةَ العقل الذي به يمتاز عمّا سواه.
إنَّ من مصائبنا أنَّ غالبَ مَن في الأمَّةَ قد أوكَلَ أمر التفكير إلى سواه! فاتَّبَعَ مَن خالفَ القرآن، وأعرض عن التفكُّر فيه.. فمات قلبه بموت عقله!
حتى أنَّ رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام يوماً: إِنِّي قَدْ شَكَكْتُ فِي كِتَابِ الله المُنْزَلِ.. لِأَنِّي وَجَدْتُ الكِتَابَ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ..
فقال له عليه السلام:
إنَّ كِتَابَ الله لَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَكِنَّكَ لَمْ تُرْزَقْ عَقْلًا تَنْتَفِعُ بِهِ، فَهَاتِ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَل(34)..
ولقد أجابه الإمام على كل شبهاته، في أبوابٍ شتى، وأثبَتَ أنَّ الفكر السليم هو طريقُ فَهم القرآن، وأنَّ التعقُّل هو سبيل الاستفادة منه.
إنَّ من صفات الكتاب:
أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾(35).
وهكذا يتفكر المؤمن في الكتاب، وفي كلام العترة الطاهرة، فيُرجِعُ المتشابه من كلام الله وكلامهم للمحكم، ويتيقن أن كلامهم يصدق بعضه بعضاً، فيصيرُ من المهتدين.
4. عدم المغالاة في القرآن
لقد ابتُليَ القرآن الكريم كما العترة الطاهرة بقومٍ غالوا في حقيقته، فذهب بعضُهُم إلى أنَّ كلام الله أزليٌّ، كما ذهب النصارى إلى أن عيسى كلمة الله أزليٌّ.
فاشترك القرآن مع آل محمدٍ في أنَّهُ أحد أبواب الامتحان الإلهي، وقد زعم المغالون من العامَّة أنَّه غير مُحدَثٍ بل قديمٌ أزليٌّ كالله تعالى!
حتى قال الصادق عليه السلام:
إِنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله مُحْدَثٌ.. غَيْرُ أَزَلِيٍّ مَعَ الله، تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً، كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا شَيْءَ غَيْرَ الله(36).
فمَن غالى بالقرآن الكريم ونفى عنه الحدوثَ خَرَج عن حقيقة التوحيد، لأنَّه زَعَم أنَّ القرآن قديمٌ كالله تعالى.
ثمَّ غالى قومٌ بالأئمة عليهم السلام كما غالى قومٌ في القرآن، ونسبوهم إلى الألوهيَّة وانتقصوا من الله تعالى.
فتبرَّأَ المؤمنُ من هؤلاء وهؤلاء، إذ لا ريب في أنَّ آل محمدٍ عبيدٌ لله تعالى، مخلوقون مربوبون.
5. الإقرار بعظمة القرآن
ثم إنَّ الفئة التي غالت من هذه الجهة بالقرآن الكريم انتقصت منه من جهاتٍ أخرى، فلم تقرَّ بعظمته، حيث جعلته ككلام البشر في التفسير والفَهم، ففسرته برأيها، لذا قال الإمام عليه السلام:
إِيَّاكَ أَنْ تُفَسِّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِكَ حَتَّى تَفْقَهَهُ عَنِ العُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ رُبَّ تَنْزِيلٍ يُشْبِهُ كَلَامَ البَشَرِ وَهُوَ كَلَامُ الله، وَتَأْوِيلُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَام البَشَرِ، كَمَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يُشْبِهُهُ كَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ فِعْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئاً مِنْ أَفْعَالِ البَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ كَلَامَ البِشْرِ.. فَلَا تُشَبِّهْ كَلَامَ الله بِكَلَامِ البَشَرِ فَتَهْلِكَ وَتَضِل(37).
فإنَّ كلامَ الله تعالى وإن ترَكَّبَ مِن حروف كسائر الكلام، إلا أنَّه لا يُقاسُ به شيءٌ من كلام الناس، ولا يشبهه شيء منه.
والقرآن مع كونه حجَّةً في ظواهره، إلا أنَّ تفسيره بالآراء يخرجه عمَّا أراده الله تعالى منه. ولقد انحرفت فئةٌ أوَّلَت كلام الله على هواها بعدما فسَّرته برؤاها، وغفلت عن أن بواطن القرآن لا تؤخذ إلا من معادن العلم والحكمة.
وكيف لها أن تأخذه من معدنه وقد ضَلَّت عنهم واستهانت بهم واستضعفتهم.
بعليٍّ والكتاب.. تحيا القلوب!
تَعَلَّمُوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الحَدِيثِ.
وَتَفَقَّهُوا فِيهِ، فَإِنَّهُ رَبِيعُ القُلُوبِ(38).
هذا حديثٌ للقرآن الناطق عليٍّ عليه السلام، يأمر فيه بتعلُّم القرآن الصامت.
فالقرآن الكريم ليس كتاباً يُتلى فقط، إنَّهُ كتاب يُتَعَلَّم، ويُتَفَقَّه فيه، فيصير بذلك ربيعاً للقلوب، أي بمنزلة الربيع.
والربيع هو الغيث والمطرُ، أو ما يحيا وينبتُ عند نزول الغيث.
وكون القرآن كالغيث، يعني أنَّه به تحيا وتنتعش القلوب، ودونه تقسو وتموت.
يقول عليه السلام في خطبة أخرى:
فِيهِ رَبِيعُ القَلْبِ، وَيَنَابِيعُ العِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ(39).
وفي ثالثةً عنه عليه السلام:
جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ العُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ(40).
يتأمَّلُ العاقلُ في هذه الأحاديث الشريفة، فيُدرك شيئاً من عظمة القرآن الكريم، لكنَّه لا يرى هذه الآثار عند كلِّ أحد، لأنَّها مخصوصةٌ بأهلِها، ومشروطةٌ بأخذ علم القرآن عن أهله، فليس كلُّ أحدٍ يفقه القرآن ويرتوي منه، إلا أن يأخذه من أهله.
1. من هم أهل القرآن؟
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ عِلْمَ القُرْآنِ لَيْسَ يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلَّا مَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ: قُرَّاءُ القرآن اليوم كُثُرٌ، وليس جميعُهم ممَّن علم بواطنه، ولا ممّن حيا قلبه به، فلقد اسوَّدت قلوب كثيرٍ منهم وماتت، لأنَّهم ما أخذوا القرآن عمَّن ينبغي الأخذ عنه، ما عرفوا طعم القرآن وإن رَتَّلوه بألسنتهم.
إِنَّ عِلْمَ القُرْآنِ لَيْسَ يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلَّا مَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ، فَعَلِمَ بِالعِلْمِ جَهْلَهُ، وَبَصُرَ بِهِ عَمَاهُ، وَسَمِعَ بِهِ صَمَمَه، وَأَدْرَكَ بِهِ عِلْمَ مَا فَاتَ، وَحَيِيَ بِهِ بَعْدَ إِذْ مَاتَ: بالقرآن تنفتح أبواب العلوم، ويحيا العبدُ بعد موته، وههنا معنيان:
المعنى الأول: في دار الدُّنيا، عبدٌ ماتَ قلبُه لجهله بالله وأنبيائه وأوصيائهم، فأرشده القرآن إلى كلِّ ذلك، وأحياه الله بالقرآن (وَحَيِيَ بِهِ بَعْدَ إِذْ مَاتَ).
المعنى الثاني: في النشأة الأخرى، أي بعد موت العبد وانتقاله إلى عالم الآخرة، يحيا بالقرآن بعد موته، لأنه عمل به في حياته.
ففي القرآن إذاً حياةُ القلوب في هذه الدنيا، وفيما بعدها.
.. فَاطْلُبُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ خَاصَّةً: إنَّ من ذاقَ طعم القرآن يعرف كيف يُبَيِّنُه للناس، ومَن تعلَّمَهُ من المعصومين كان حقّاً أن يُطلب القرآن منه.
فَإِنَّهُمْ خَاصَّةً نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ: لا يُطلب القرآن من عند كلِّ أحد، وليس صحيحاً أنَّ أصحاب النبيّ كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا، فليس الجميعُ أنواراً في سماء الهداية، بل هو خاصٌّ بأهل القرآن.
وَأَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَمَوْتُ الجَهْلِ: هي عبارةٌ في قمَّة الرَّوعة، فبأهل القرآن يحيا العلم ويموت الجهل، ولا تحيا القلوب إلا بالأخذ عنهم.
يشير بعد ذلك عليه السلام إلى معنى في غاية الأهمية فيقول:
فَاعْقِلُوا الحَقَّ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ، وَلَا تَعْقِلُوهُ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الكِتَابِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ(41).
ما أكثر من يقرأ القرآن اليوم، لكنَّ قلةً منهم ترعى حقّه، وتأخذه عن معدنه، وتستنير بنوره.
يتبيَّن بهذا أن القرآن لا يكون ربيعاً للقلوب بمعزلٍ عن الثقل الآخر.
أيعقَلُ أن تحيا وتستنيرَ قلوبُ المؤمنين دون الأئمة الأطهار عليهم السلام؟ فإنَّ الأخذ منهم شرطٌ ليصير القرآن باباً للهدى.
وكما أنَّ القرآن نورٌ، فإنَّ الإمامَ نورٌ لقلوب المؤمنين.
يقول الصادق عليه السلام:
وَالله يَا أَبَا خَالِدٍ، لَنُورُ الإِمَامِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ، وَهُمْ وَالله يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ.
كم هو عظيمٌ أثَرُ نور الشَّمس في النهار، وكَم هو نَيِّرٌ لا يخبو، فإنَّ نور الإمام أنوَر منه في قلوب المؤمنين.
القلوب المظلمة كثيرةٌ، أما المؤمن فإنَّ قلبه يستنير بالإمام، حيثُ يصير الإمام مصدَرَ النور والحياة لقلوب أحبابه.
وَيَحْجُبُ الله عَزَّ وَجَلَّ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلِمُ قُلُوبُهُمْ: هؤلاء ما أرادوا الحقّ، ولا أرادوا الاستجابة لأمر الله تعالى، فجحدوا آل محمدٍ، فحجب الله تعالى النور عنهم، وانفرَدَ المؤمن بأنَّه صاحب القلب النيِّر.
يحبُّ المؤمن آل محمدٍ عليهم السلام، لكنَّ حبَّه ليس مُجرَّداً، بل حُبٌّ يستبطنُ موالاةً وطاعةً وتسليماً مطلقاً وانقياداً لهم عليهم السلام.
وَالله يَا أَبَا خَالِدٍ، لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ وَيَتَوَلَّانَا حَتَّى يُطَهِّرَ الله قَلْبَهُ، وَلَا يُطَهِّرُ الله قَلْبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلِّمَ لَنَا، وَيَكُونَ سِلْماً لَنَا.
إنَّ المؤمن يُسلِّمُ للمعصوم عليه السلام كما سَلَّمَ لله تعالى، فلا يحتجُّ على أمره، والمؤمن يُنزِلُ المعصوم في محلِّه، ولا يرفع سواهُ إلى منزلته، ولا يعامل غير المعصوم كما يعامل المعصوم مهما عظم شأن غيره، فإنَّ جميع المؤمنين مَوَالٍ لهم في الطاعة، شركاء في لزوم امتثال أمرهم.
ليس يعقل أن يكون لغير المعصوم طاعةٌ كطاعة المعصوم، فإنَّ هذا يكشف عن جهلٍ بمقام الإمام والإمامة، والمؤمن لا يجهل مقام إمامه.
ثم تستكمل الموالاةُ بالبراءة من أعدائهم، فلا يكون المؤمن أعوَراً يرى الحق فيهم وفي أعدائهم.
وثمرَةُ كلِّ ذلك: طهارة القلب في الدنيا، بأنوار آل محمد، فهم الذين ينورون قلوب المؤمنين.
ومَن طهَّرَ الله قلبه في الدنيا نجا وسَلِمَ من أمراض النَّفس، وكلَّما ازدادت معرفة المؤمن بآل محمد خلا من الحقد والحسد والاعتراض على الله تعالى، فصار من المُسَلِّمين لأمر الله، الراضين بقضائه.
حينها تنقلبُ كلُّ شدَّةٍ عند المؤمن إلى راحة، ويثمرُ كلُّ أذىً طمأنينةً، فإنّه بعين الله الذي يرعى المؤمنين.
إنَّ صعوبات الأيام ومشاكلها لا تنقضي، ولا يخلو منها عبدٌ لله، مؤمناً كان أم كافراً، لكنَّ المؤمن يصبر على بلاء الله، ويعلم أنَّ له عاقبةً طيِّبة فيرضى بقضاء الله وقدره، ويورثه ذلك سكينةً وراحةَ بالٍ مع كلِّ ما يصيبه من بلاء.
وغيرُ المؤمن يجزع لحوادث الليالي والأيام، ويخشى من يومه كخشيته من غده، ويسعى للخلاص بما يراه من أسباب مادية محضة، وتبزغ فيه نزعة الأنانية جليةً، وتزداد يوماً بعد يوم حتى يصير من أهل القلوب القاسية.
وليس الخلاص من ذلك إلا بالقرآن والعترة، لا على نحو اللقلقة والإدعاء، إنما بالمعرفة حقاً وبالعمل، حينها ينال الثمرة الأخرى في الآخرة:
فَإِذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ الله مِنْ شَدِيدِ الحِسَابِ، وَآمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ الأَكْبَرِ(42).
فينال المؤمن النجاة يوم القيامة لمّا عرف القرآن، وأرشده القرآن إلى آل محمد، فتَنَوَّرَ قلبه بهما معاً، ونجا يوم القيامة.
2. الشيعة والإيمان
لقد استقرَّ الإيمان في قلوب الشيعة، بعد أخذهم القرآن من أهله، وتسليمهم لأولياء الله.
إن قلب المؤمن: قَلْبٌ مَفْتُوحٌ، فِيهِ مَصَابِيحُ تَزْهَرُ، وَلَا يُطْفَأُ نُورُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(43).
أيُّ مصابيح هذه؟ الأمرُ صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، بالثقلين معاً، بالإمام والقرآن أزهرت قلوب المؤمنين.
إنَّ الأئمة ينورون قلوب الشيعة، فلا يُكتفى لنور القلب بالقرآن وحده ما لم يقترن مع عِدله، مع آل محمد، لذا قست قلوب المخالفين، وانفرد المؤمن بأن صار من أهل القلوب النَيِّرة وحده، لا يشاركه فيه سواه.
ظَلَّ الشيعة ينتظرون إمامهم، ويترقَّبون فرج الإمام الغائب، ولولا ترقُّبهم للإمام (لَقَسَتِ القُلُوبُ).
فبالأماني التي بذرها النبي والإمام فيهم، بعد الإيمان بالثقلين، حَيَّت قلوب الشيعة.
لقد ترك الثقلان أثراً في الشيعة دون سواهم، فهم أهل هذه الآية: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله﴾(44).
إنَّهم يخافون الله تعالى، حتى تقشعرَّ جلودهم من خشيته، وإنهم يرجونه تعالى حتى تلين قلوبهم لذكره.
المؤمنون هم أصحاب القلوب المطمئنة اللَّينة، وغيرهم أصحاب القلوب القاسية، وقد قست قلوبهم لكثرة الذنوب، وأيُّ ذنبٍ أعظمُ من الإعراض عن إمام الزمان، الذي بيُمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.
تَلينُ قلوب الشيعة لذكر الله تعالى، ثمَّ تلين لما وقع على آل محمد، بل تحترق جزعاً عليهم، فيترحم عليهم الإمام الصادق عليه السلام ويخاطب ربه قائلاً: وَارْحَمْ تِلْكَ القُلُوبَ الَّتِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا(45).
جَزِعَ الشيعة على آل محمد كجزعهم على أنفسهم بل أشدّ، واحترقت قلوبهم ألماً لما جرى على العترة الطاهرة، فأحياها الله تعالى برحمته، وأنارها بنور محمَّدٍ وآله، فصار المؤمنون من أهل القلوب الحيَّة، لمّا جمعوا بين الثقلين: كتاب الله وآل الرسول.
فالكتاب ربيع القلب، وبه جلاؤه، والإمام نور القلب، وبه حياته.
وهكذا صار الإيمان يتبدّى من أهله جلياً، حتى أن الدوانيقي سأل الصادق عليه السلام يوماً:
مَا بَالُ الرَّجُلِ مِنْ شِيعَتِكُمْ يَسْتَخْرِجُ مَا فِي جَوْفِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُعْرَفَ مَذْهَبُهُ؟
لا يأنس المخالفُ بهذا المعنى، يتعمَّدُ إخفاء ما عنده، يُخادعُ ويُنافق، وليس الشيعة أهل نفاق وخداع، فالتقية التي آمنوا بها لا تعني ذلك، بل تختص بمورد الخوف على النفس او العرض أو المال أو المؤمن الآخر، وسوى ذلك ترى المؤمن صريحاً، يُظهرُ ما يبطن، شفافاً نقيَّاً، ففي مجلسٍ واحدٍ يُخرِجُ ما في قلبه.
يجيب الإمام عليه السلام:
ذَلِكَ بِحَلَاوَةِ الإِيمَانِ فِي صُدُورِهِمْ، مِنْ حَلَاوَتِهِ يُبْدُونَهُ تَبَدِّياً(46).
هكذا تكون قلوبهم وصدورهم، ارتقت بحلاوة الإيمان، وأهلها أهل القلوب اللينة الطيبة الطاهرة النيِّرة.
المحور الثالث: عليٌّ.. قرآنٌ الله المهجور!
عن الإمام الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله جَعَلَ وَلَايَتَنَا أَهْلَ البَيْتِ قُطْبَ القُرْآنِ، وَقُطْبَ جَمِيعِ الكُتُبِ، عَلَيْهَا يَسْتَدِيرُ مُحْكَمُ القُرْآنِ، وَبِهَا نَوَّهَت الكُتُبُ، وَيَسْتَبِينُ الإِيمَانُ(47).
كلماتٌ تأسرُ الألباب، وتكشفُ عن سِرٍّ من أسرار القرآن الكريم، بحيث صارت ولاية آل محمد عليهم السلام (قُطبَه)، ويدورُ مُحكَمُ القرآن حولها!
إنَّ القُطبَ هو الأمر الذي يدلُّ على الجمع أو الاجتماع، لذا قيلَ (قُطب الرَّحَى) لما يَجمَعُ أمرَها وتدورُ حولَه، ويقال قطبُ القوم لسيِّدِهم الذي يلوذون به.
والولاية لآل محمدٍ هي قُطبُ القرآن والتوراة والإنجيل وسائر كتب السماء معاً.. فكيف ذلك؟
قَد يُفسَّرُ ذلك، أو يُلازمه ما دلَّ على أنَّ إكمال الدين إنما تمَّ بالولاية، فهي التي تَجمَعُ وتختزلُ أحكام الشريعة، وهي التي أخذ الله تعالى بها المواثيق على الأنبياء ليقرُّوا بها، ثم يبشِّروا بها أقوامهم ويأمروهم بتصديقها.
وما دلَّ على أن القرآن بِهِم تُعرَفُ متشابهاته، وتُستجلى غوامضه، ويُكشفُ عن بطونه..
وقد تتضمن إشارة إلى أنَّ ما دلَّ على ولايتهم من القرآن هو آياتٌ محكماتٌ لا تحتمل اللبس والتأويل.. بلغت الغاية من الوضوح وإن لم تُذكر أسماؤهم عليهم السلام فيه.
أو أن التارك لإمامتهم تاركٌ للقرآن فعلاً، لأنَّ القرآن بمحكماته يأمر باتِّباعهم، فغير المتَّبِع لهم غير متَّبعٍ للقرآن، فيدور الإيمانُ بالقرآن مدارَ ولايتهم وتصديقهم واتِّباعهم..
وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ الله (ص) أَنْ يُقْتَدَى بِالقُرْآنِ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، الثَّقَلَ الأَكْبَرَ، وَالثَّقَلَ الأَصْغَرَ.
فَأَمَّا الأَكْبَرُ فَكِتَابُ رَبِّي.
وَأَمَّا الأَصْغَرُ فَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمَا، فَلَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا(48).
فكان القرآن والعترةُ باباً للهدى فتحه الله تعالى لخلقه، وأرشدهم إلى لزوم اتِّباعه، لينالوا بذلك المعالي في الدُّنيا والآخرة.
لكنَّ المؤمنَ يتعجَّبُ من كثرة الناس الذين لم يستنيروا بنور القرآن الكريم، ولم يتَّبعوا آل محمدٍ (ص)، أنوار الله تعالى في أرضه وسمائه.
فيخالُ بعضُ الأحبَّة أن العيبَ في العلماء، حمَلَةِ رسالة الأئمة عليهم السلام إلى الناس، ويبالغ ويغالي بعضهم حتى يقول: لو كان هؤلاء العلماء قد أحكموا علومَهم، وأصلحوا أنفسهم، ونشروا تراثَ آل محمدٍ عليهم السلام كما ينبغي لاتَّبَعَهم الناس.. ولكنهم أهل القصور والتقصير!
حتى أنَّ من المؤمنين من يتحامل على أهل العلم ويُحَمِّلُهم مسؤولية كلِّ انحرافٍ وخطأ ورِدَّةٍ في المجتمع.
وأهلُ العِلم وإن كانوا لا يُخرجون أنفسهم من حدِّ التقصير كما هو حال كلِّ مؤمن، إلا أنهم لا يتحمَّلون المسؤولية في كفر الكافرين.
فإنَّ الناس على قسمين:
1. أهلُ الحق، أو الذين يطلبونه، وهم الذين يستنيرون بنور القرآن الكريم، حين فتحوا له عقولهم وقلوبهم فاستفادوا منه.
2. أهلُ الشِّقاق والنفاق، الذين لا يطلبون الحق، وما صار هؤلاء من أهل الهداية بالقرآن ولا بالعترة، بل ازدادوا نفوراً وطغياناً وكفراً ورجساً!
والقسم الثاني لا يُريد الهداية مهما رأى من آيات الله تعالى، ومنهم من قال عنه تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَك﴾(49).
وهؤلاء ليسوا ممَّن يُرتجى منهم خير.. ولقد ظهر من آيات الكتاب ما يُبرزُ موقفَ هؤلاء ونظرائهم من القرآن الكريم والعترة الطاهرة ويُبيِّنُ حقيقتهم، فَهُم: أهل النفور من القرآن الكريم، والجحود للعترة الطاهرة.
1. النفور من القرآن الكريم
أما القرآن الكريم، فقد قال تعالى عنهم:
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾(50).
إنَّ الغرض من إنزال الله تعالى للكتاب هو التذكير، والعود إلى الله عز وجل، لكنَّ هؤلاء يزدادون نفوراً!
وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَساراً﴾(51).
والغرضُ أيضاً هو الشفاء والرحمة، شفاءٌ للنفوس والأبدان، ورحمةٌ إلهيةٌ عميمةٌ للمؤمنين، لكنَّ الظالمين جحدوا فكانت خسارتهم أعظم.
وقال تعالى:
﴿وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إيماناً فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ﴾(52). أي شكاً إلى شكِّهم(53).
فالآيات الكريمةُ لا يتأتى منها إلا الهدى والإيمان، لكنَّ الجاحدَ يزداد كُفراً كلَّما نزلت آيةٌ جديدةٌ وكان بها من الكافرين.
ومن شَكَّ يزداد شكاً، ومَن نفرَ يزداد نفوراً..
وهكذا يزداد أصحاب القلوب المريضة مَرَضاً كلَّما أنزل الله تعالى سورةً، فأيُّ معادلةٍ غريبةٍ هذه؟
الله تعالى ينزل آياتٍ للهداية، فيزداد المرضى مَرَضاً!
لا يتوهَّمَنَّ متوهِّمٌ أن الآية نفسها أمرَضَتهُم، بل لا يتأتى من الآية إلا الهدى، لكنَّ جحودَهم لها أو شكَّهم وكفرَهم بها (وهو مِن أفعالهم) أدى بهم إلى أن يزدادوا عن الله بُعداً كلَّما أنزل عليهم آية!
قال تعالى عن القرآن الكريم:
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾(54).
وورد في الدعاء عن لسان الإمام الصادق عليه السلام في القرآن الكريم:
اللهمَّ وَكَمَا أَنْزَلْتَهُ شِفَاءً لِأَوْلِيَائِكَ، وَشَقَاءً عَلَى أَعْدَائِكَ، وَعَمًى عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِكَ، وَنُوراً لِأَهْلِ طَاعَتِكَ، اللهمَّ فَاجْعَلْهُ لَنَا حِصْناً مِنْ عَذَابِك(55).
إنَّ على العبد أن يفتحَ قلبَه للقرآن الكريم، ويستعدَّ لتلقي الإيمان والرحمة الإلهية، فيصير الكتاب له نوراً وحِرزاً ودليلاً.
أمّا إن كان من أهل الشكِّ أو الجحود أو المعصية، ووطَّنَ نفسه على المعاندة، فإنَّه يعمى عن آيات الكتاب الكريم، ولا يهتدي إلى اتباعها سبيلاً.. فيزداد عن الله بُعداً كُلَّمَا توالَت وتَتَالَت آيات السماء.
2. الكفر بالعترة الطاهرة
إنَّ مما يلفت العاقلَ هو أنَّ موقف أهل الشكِّ والكفر والنفاق والمعاصي كان واحداً تجاه القرآن الكريم، وتجاه العترة الطاهرة.
فإنَّ مَن ازداد من القرآن نفوراً ازداد بالعترة الطاهرة كفراً!
والسبب هو السبب، فهو لا يريد الإيمان، وكلَّما أنزل الله تعالى آية ازداد رجساً، فكيف بأعظم آيات الله: عليٍّ وآله الأطهار.
قال تعالى:
﴿قُلْ يا أَهْلَ الكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزيدَنَّ كَثيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكافِرينَ﴾(56).
وفسَّرَها الباقر عليه السلام بقوله: هِيَ وَلَايَةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع)(57).
فكلُّ من كفر بالولاية كان من أهل هذه الآية، يستوي في الانضمام لمصاديقها الملحدون والكافرون والمشركون والمخالفون، وأشدُّهم أعداءُ آل محمدٍ من الأوائل، وبنو أميَّة، ومن سار على نهجهم.
وقد كان لهؤلاء موقفٌ واضحٌ من ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، فما إن نزل أمرُ الله تعالى بها حتى ازدادوا طُغياناً وكُفراً.
وههنا يُلاحَظُ أنَّ ما فعلوه مع القرآن والعترة فعلوه مع سائر أنبياء الله تعالى، فهذا نوح عليه السلام:
﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلاَّ فِراراً * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً﴾(58).
فازدادوا فراراً منه كلما دعاهم ليلاً بعد نهار، وقد بذل غاية مجهوده قَرناً بعد قرنٍ، وما كان عليه السلام مقصِّراً، لكنَّهم أصرّوا واستكبروا، ولا ينفعُ مع الإصرار دليلٌ ولا بُرهان.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾(59).
لقد أنذرَ الله تعالى عبادَه، فجاءهم الأنبياء والرسل بأمره عزّ وجل، فازدادوا نفوراً وكفراً، حتى وصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فما تغيَّرت سيرتهم، ثم من بعده ساروا على نفس النهج فكفروا بوصيَّيه: بعليٍّ عليه السلام، والقرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً * لَقَدْ أَضَلَّني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَني وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً * وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً﴾(60).
لقد أعرَضَ قومُ النبيِّ صلى الله عليه وآله عن الكتاب.. لقد ضلُّوا عن (الذِّكر)، وهجروا (القرآن). فصار كتاب الله المنزل خلفَ ظهورهم.. ثمَّ تلاه الكتاب الناطق!
ولقد فسَّر الباقر عليه السلام (الذِّكر) الذي عنه ضلوا ب (الولَايَةَ)(61)، وفي حديثٍ آخر عن الباقر والصادق عليهما السلام حول الذِّكر قالا عليهما السلام: يعني علياً (عليه السلام)(62).
وقد سبقهم أميرُ المؤمنين عليه السلام إلى ذلك حين قال: فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْهُ ضَلَّ.. وَالقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاهُ هَجَرَ(63).
وهكذا أعرضت الأمّة عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام من يومها الأول إلى هذا اليوم.. والولاية هي قطب القرآن، بها يستبين الإيمان، فلا بالقرآن عملوا، ولا بالإيمان تمسَّكوا، فحقَّ على أكثرهم العذاب حقاً.
لكنَّ هنا مفارقةً في غاية الأهميَّة:
وهي أنَّ القوم منذ اليوم الأول ضَيَّعوا الثقل الأصغر تماماً، فغيَّبوه ظاهراً وباطناً.
وحافظوا على الثقل الأكبر ظاهراً، وإن ضيَّعوا حدوده.. واكتفوا بحفظ حروفه، وأكثروا من استماعها وقراءتها دون فَهمٍ وتدبُّر.
فمنذ أيام الإسلام الأولى ظلَّ القرآن مَتلُوَّاً، غير معمول فيه، أما آل محمدٍ فغُيِّبَ اسمُهم ونهجهم معاً، إلا بمقدارٍ عجزت الأمَّة عن تغييبه، لتظلَّ حجَّة الله تامَّة.
لكن.. هناك مرحلةٌ قبل مجيء أمر آل محمد عليهم السلام، أي قبل ظهور الإمام صاحب العصر والزمان، حين يموت الحقُّ ويذهب أهلُه، ويشمل الجورُ البلاد، وتتغيَّر المعالم، حتى يحين وقتُ اختلاف الأمَّة مع القرآن حتى في الظاهر، يقول الصادق عليه السلام عن ذلك الزمان: وَرَأَيْتَ القُرْآنَ قَدْ ثَقُلَ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاعُهُ!
وَخَفَّ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاع البَاطِل! ..
القرآن رمزُ الحقِّ يصيرُ ثقيلاً حينها!
وكلُّ باطل يصيرُ استماعُهُ خفيفاً سهلاً يسيراً!
يعتادُ الناس على الباطل ويألفوه، فيصير كلام الله تعالى ثقيلاً حتى في الاستماع، فضلاً عن العمل!
فماذا يفعل المؤمن في ذلك الزمن؟
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ، وَاطْلُبْ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ النَّجَاةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي سَخَطِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُهُمْ لِأَمْرٍ يُرَادُ بِهِمْ!(64).
يحذر المؤمن ويخشى من أن يقع من حيث لا يشعر، فيُشرِك هؤلاء في الإعراض عن آيات الله، أو يرضى بفعالهم.
بهذا تبيَّن أن ولاية آل محمدٍ عليهم السلام هي قطب القرآن، وعليها يدورُ رحى مُحكماته، وأنَّ من لم يؤمن بولايتهم عليهم السلام واتَّخَذَ كتاب الله الناطق مهجوراً فهو لم يؤمن بالقرآن حقاً.
وأنَّ أهل النفاق يزدادون نفوراً وكفراً وطغياناً كلَّما نزلت عليهم آيات الله، وهذا كان حالهم مع ما أتى به الأنبياء والأوصياء، ومع القرآن الكريم.
لذا عَلِمَ المؤمنُ أنَّ هؤلاء ليسوا ممَّن يُرتجى منهم الخَير، فأعرض عنهم.
ثمَّ لم يتألّم المؤمن بعد ذلك على ما أصابهم، وقد قال تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾(65).
يعمل المؤمن بتكليفه، وقد قال الإمام: لَا عَلَيْكَ إِنْ آنَسْتَ مِنْ أَحَدٍ خَيْراً أَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ نَبْذاً(66). فإن قَبِلَهُ بقبول الحق اهتدى، وإلا كان ممَّن تَعَمَّدَ هُجران القرآن الناطق، عليّ عليه السلام.. أعظم مظلومٍ في هذه الأمة.
المحور الرابع: عليٌّ.. تَرجُمَان القرآن
يؤمنُ المسلمون جميعاً بأنَّ في القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فقد قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(67).
ويعتقدون أنَّه كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لكنَّهم يواجهون جملةً من الأسئلة التي تحتاجُ إلى جواب، وكلُّ جوابٍ عليها يستدعي سؤالاً آخر..
1. أين علوم القرآن؟ وما هي؟
نبدأ مع سؤال سائلٍ يقول:
كيف يحوي القرآن الكريم الذي بين أيدينا (كَلَّ شيء)؟
ونحن نرى كثيراً من العلوم غائبةً عنا.. ونجزم أنَّ ما لا يُحصى كثرةً منها ظلَّ مجهولَ الحال والمآل لدينا، وهذا ثابتٌ بالوجدان.. فَمِنَ الجَليِّ إذاً أنَّ الكتاب المجموع بين الدَّفتين لا يحوي كل العلوم، فكيف ذلك؟!
إنَّ أصحابَ الأئمة عليهم السلام كانوا يسألونهم عن تفسير القرآن الكريم، وكانوا عليهم السلام يجيبون في الآية الواحدة بتفاسير عدة، ولمّا سئل الباقر عليه السلام عن ذلك أجاب بقوله:
يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً، وَلِلْبَطْنِ بَطْناً، وَلَهُ ظَهْرٌ، وَلِلظَّهْرِ ظَهْرٌ.. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوه(68).
دَلَّ هذا النصُّ الشريف على أنَّ للقرآن الكريم وجوهاً متكثِّرَة، وكَشَفَ نَصٌّ آخر أنَّ وجوه القرآن لا تُحصى، فعن الصادق عليه السلام: وَإِنَّمَا الِاسْمُ الوَاحِدُ فِي وُجُوهٍ لَا تُحْصَى(69).
وعدمُ إحصاء هذه الوجوه يتناسب وشمولها لكلِّ العلوم، فقد أودَعَ اللهُ تعالى كلَّ علوم السماء والأرض في الكتاب العزيز، ولكن على نَحوٍ خاصٍّ لا يُدرِكُه كلُّ أحد.
وقد بيَّن الإمام الصادق عليه السلام ما يضمُّ القرآن فقال: فِيهِ بَدْءُ الخَلْقِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، وَخَبَرُ الجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ، وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ(70).
فإنَّ ما غابَ في السماء والأرض، وما كان وما يكون من أحداثٍ، مخزونٌ في الكتاب.
وقد تضمَّن القرآن الكريم كلَّ علمٍ يحتاجه الناس إلى آخر الدَّهر.. فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِي القُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى وَالله مَا تَرَكَ الله شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادُ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي القُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَهُ الله فِيهِ(71).
غايةُ الأمر، إنَّ إيداعَهُ في الكتاب لم يكن على نَحو النصِّ الجليِّ الظاهر كي يتمكَّنَ كلُّ أحد من الوصول إليه.
فعن الصادق عليه السلام: مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ(72).
وعن الباقر عليه السلام: يَا جَابِرُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ(73).
دلَّت هذه الروايات على أنَّ العلوم الواسعة التي لا تُحصى كثرةً موجودةٌ في القرآن الكريم حقاً، لكن لا يمكن لأيِّ أحدٍ اكتِنَاهُهَا، فهي ليست من النصوص الواضحة الجليَّة، ولا من الظواهر، بل هي معانٍ يستبطِنها النصُّ على هيئة خاصٍة أرادها الله تعالى، وما لم يكن الإنسان مُعَلَّماً من قبل الله تعالى على آلية الاستخراج منه، لم يكن له أن يبلغ ذلك بعقله.
بل إنَّ الإخبار عن هذه العلوم وكشفها يكون مدعاةً للتَّعَجُّب عند ظهورها، كما في الحديث عن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ الصَّادِقَ النَّازِلَ فِيهِ خَبَرُكُمْ وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَخَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، فَلَوْ أَتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ لَعَجِبْتُمْ(74).
أي أنَّ كشفَ هذه العلوم للناس يدعوهم للعَجَب، إما لعظمة هذه العلوم وكثرتها، أو لخفاء آلية استخراجها عندهم واختصاصها بمَن يُخبرُهم بها.
ثمَّ ينقلنا هذا الحديث إلى السؤال الثاني..
2. من هو الكاشف لعلوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن كلَّ شيءٍ مخزونٌ في القرآن فعلاً، ولكن لا سبيل للعقول إلى معرفة كلّ تلك العلوم، تنقدح في البال أسئلة أخرى.
ومن أهمِّها: كيف يمكن معرفة تلك العلوم؟ وما السبيل إلى بلوغها والاستفادة منها؟
يقول أميرُ المؤمنين عليه السلام في نهجه:
هذَا القُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ(75).
فمَن هو تَرجُمان القرآن؟
إنَّهُ عَليُّ بن أبي طالب بلا ريب، وما ادُّعِيَت هذه المنقبة عند عموم المسلمين لأحدٍ بعد النبي (ص) بحقٍّ سواه عليه السلام والأئمة من ذريته عليهم السلام. فإنَّ أحداً غيره لا يقدر أن يثبت إحاطته بما في الكتاب من علومٍ وأنه ترجمانه.
والمخالف الذي يعجز كما نعجز عن (استخراج كلِّ شيء) من القرآن الكريم، يَحارُ في تفسير هذه الآية، ويتخبَّط يميناً وشمالاً، حتى يزعم بعضهم أنَّ القرآن يتضمَّن بيانَ كلِّ شيء لدلالته على حجيَّة القياس! الذي به تُعلَمُ الأحكامُ عندهم! فتُنسَب حينها للقرآن!(76).
أما الشيعة، فإنَّهم علموا أن هذا الاستخراج مقصورٌ على من علَّمه الله تعالى ذلك، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ومن بعده الإمام المعصوم.
وهذا الباقر عليه السلام يقول:
مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إِلَّا كَذَّابٌ، وَمَا جَمَعَهُ وَحَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ الله تَعَالَى إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)، وَالأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ (ع)(77).
فهم الذين عندهم علم الكتاب كلُّه دون سواهم: وَالله عِنْدَنَا عِلْمُ الكِتَابِ كُلُّهُ(78).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع): مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ غَيْرُ الأَوْصِيَاءِ(79).
وليس يطَّلع على كل حقائقه أحدٌ إلا أهل البيت كما في الحديث: لَا يَنَالُهُ كُلَّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ، إِيَّانَا عَنَى، نَحْنُ الَّذِينَ أَذْهَبَ الله عَنَّا الرِّجْسَ وَطَهَّرَنَا تَطْهِيرا(80).
وقد قال النبي (ص): لَا يُوَضِّحُ لَكُمْ تَفْسِيرَهُ إِلَّا الَّذِي أَنَا آخِذٌ بِيَدِهِ.. وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(81).
ومن الجليِّ أنه لا تنافي بين احتوائه على كل شيء، وبين احتياج الناس للمُبَيِّن، وعدم قدرتهم على استخراج كل ما فيه رغم وجوده.
3. لماذا أخفى الله بعض علوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن القرآن حاوٍ لكلِّ العلوم، وأنَّه بعيدٌ عن عقول الرجال.. وأنَّ معرفة هذه العلوم مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام.
وإذا تبيَّنَ أنَّ القرآن ليس على نمطٍ واحد، بل يتضمن المحكمات والمتشابهات: ﴿هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهات﴾(82).
تنقدح تساؤلات عدة:
لماذا خصَّصَ الله سبحانه وتعالى علم القرآن بأكمله بالمعصومين عليهم السلام؟ ولَم يُشرِك معهم الخلق في ذلك؟ ثمَّ لماذا جعل الله سبحانه وتعالى في القرآن متشابهات؟
أليس في هذين الأمرين إخفاءٌ لما ينبغي إظهاره بحسب الظاهر؟ فما السرُّ في ذلك؟
إنَّ لوجود المتشابه في القرآن، وإخفاء الأسرار فيه على نحوٍ لا يدركه كلُّ أحد وجوهاً شتى منها:
الوجه الأول: امتحان العباد
لقد أشار القرآن الكريم إلى سبب احتوائه على محكمٍ ومتشابه، حين قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾(83).
إنَّ الله تعالى عالمٌ بأنَّ المتشابه يفتحُ باباً لمن في قلوبهم زيغٌ، رغم ذلك ضَمَّنَ كتابه المتشابهات، استكمالاً لامتحان العباد..
إنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يُنزِلَ قرآناً مقصوراً على محكماتٍ لا تحتملُ وجوهاً، ولا يمكن حملُها على أكثر من معنى، ولكنَّ هذا يغلق أبواب اختبار الخلق من هذه الجهة.. ويصير الإمتحان مقصوراً على قبول النص وَرَدِّه.
ولكنَّ الله تعالى أراد زيادةً في امتحان العباد، ففتح عزَّ وجل هذا الباب، وامتحنهم بالمحكم والمتشابه، حين أمرهم بالإيمان بهما معاً، والعمل بأولهما دون الآخر.
روي عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ القُرْآنَ فِيهِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ:
فَأَمَّا المُحْكَمُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، فَنَعْمَلُ بِهِ وَنَدِينُ بِهِ.
وَأَمَّا المُتَشَابِهُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِهِ(84).
كيف لا نعملُ بالمتشابه؟
لا نعمل بما دلَّ عليه دلالةً بدويَّة، بل نَرُدُّه إلى المحكم، فنكون قد عملنا بالمحكم لا بالمتشابه.. أو نفسِّرُهُ بناءً على المحكم إن كان مُجملاً.
وقاعدة الامتحان هذه ليست عزيزة، بل هي قاعدةٌ سيّالةٌ تجري في سائر ما ابتلى الله به عباده.
إنَّ الأنبياءُ لم يكونوا أهل غلبةٍ دائمة، ولا أصحاب مالٍ لا ينفد، رغم سَعَةِ قدرة الله تعالى، ورغم أن لا حدَّ لسلطانه تعالى، وأن ليس في ساحته عزَّ وجل بُخلٌ على أنبيائه.. حاشاه ربنا عزَّ وجل.
ولكن.. لو كان الله تعالى قد فتح للأنبياء خزائنه، لتعجَّبَ الناس من قدرتهم ومما أعطاهم، ولسهُل عليهم الانقياد لهم لعظيم ما عندهم.
لكنَّه تعالى يريد أن يمتحن العباد، ويريد أن تكون طاعتهم خالصةً له، لا لأجل ما أعطى الأنبياء، لذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
وَلَكِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالخُشُوعُ لِوَجْهِهِ.. أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ.
تكشف هذه العبارة من الحديث (يَكُونَ.. التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ) أنَّ الله تعالى أراد من العباد أن يصدِّقُوا كتابه لأنَّه كتابُه، لا لشيء آخر!
أي أنَّ عليهم الإيمان به سواءٌ تضمَّنَ متشابهاً أم لم يتضمَّن، لا أن يؤمنوا به لأنَّه محكمٌ فقط.
وقد فتح الله لهم باباً للتصديق من طريق إعجاز الكتاب، ثم اختبرهم بتضمينه المتشابه إتماماً للاختبار لهم.
وَكُلَّمَا كَانَتِ البَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَالجَزَاءُ أَجْزَلَ(85).
هي رحمةٌ من الله تعالى إذاً بالعباد، فإنَّ الثواب يتناسبُ مع الامتحان صعوبةً وسهولةً، وكلَّما اشتدَّ الامتحان والاختبار عَظُم الثواب والجزاء، فيكون في اختبار الله تعالى للعبادِ نوعُ رحمةٍ وتفضُّلٍ منه عزَّ وجل، بحيث يفتح لهم أبواباً أوسع لنيل الثواب والجزاء الطَّيِب.
ومن نماذج ذلك أيضاً امتحانُ الله تعالى للخلق بالحج الى بيتٍ صُنِعَ من أحجارٍ، كما الأصنام التي أُمِروا بهَدمها.. ثم جعله الله في أوعر البقاع، وأمَرَهُم بالتذلُّل له عند البيت في عبادةٍ من نوعٍ خاص، وكان تعالى قادراً على أن يمتحنهم بالحجِّ إلى بَيتٍ عظيمٍ من زمرد وياقوت ونور، ولو فعل، يقول الإمام:
لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ القُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ:
نعم لو شاء الله تعالى أن لا يُبقي شكّاً في النفوس لفعل، ولأعدَمَ كلِّ ما يدعو للريبة، ويَصعُب على القلوب تقبُّلُ أمره.. لكنَّ ذلك يتنافى مع إرادة الله اختبار عباده.. وهو ما فيه خيرُهم وصلاحُهم.
وَلَكِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَبِرُ عَبِيدَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ.. ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾(86).
إنَّ الله تعالى عالمٌ بما كان وما يكون، لكنَّ حكمته اقتضت أن يختبر الناس فعلاً، فتظهر حقائق العِباد بأعمالهم، ويتبين المطيع والعاصي، فيستحق بذلك كلٌّ منهما جزاءه.
الوجه الثاني: الرجوع إلى أبواب الله
على أنَّ هناك وجهاً آخر لِتَضَمُّن الكتاب المتشابهات، وعدم تمكُّن عموم الناس من استخراج كلِّ العلوم منه، واحتياجهم إلى من يكشف لهم بطونه.
والوجه هو التدليل على هؤلاء الذين عَلَّمَهم البطون.
فإنَّ الله تعالى جعل أشخاصاً بأعينهم أبواباً له، وطُرُقاً تدلُّ عليه، وترشد إليه، وأمرَ باتِّباعهم، ثم أنزلَ كتاباً فيه المحكم والمتشابه، فصار المتشابَه خَفياً على الناس، فاحتاجوا إلى أبواب الله، وأُمِرُوا بالرجوع إليهم.
قال الإمام عليه السلام:
إِنَّمَا القُرْآنُ أَمْثَالٌ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلِقَوْمٍ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَهُ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ، فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ مَذَاهِبِ قُلُوبِهِمْ:
إن لم يتمكن عبدٌ من تمييز المتشابه عن المحكم، وَرَدِّهِ إليه، وقع في عظيم البلاء: (فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ)، وسقطَ في الامتحان، لأنَّ فهم هذا القرآن يحتاج إلى مفاتيح وأدلة، وهي عندَهم دون سواهم، فلا بدَّ من العَود إليهم.
وهكذا أنزل الله تعالى آياتٍ متشابهات كي يعرف الناس أبواب الله وأدلائه فيرجعوا إليهم، يقول عليه السلام:
وَإِنَّمَا أَرَادَ الله بِتَعْمِيَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى بَابِهِ وَصِرَاطِهِ:
هنا بيتُ القصيد، الله تعالى أنزلَ كتاباً بيد النبي (ص)، ثم أمر الأمة باتباعه، ثم اتباع الأوصياء من بعده، وجعلهم تراجمة وحيه، وكان السرُّ في (تَعمِيَتِهِ) أي عدم جعل كلِّ علومه واضحةً جليَّةً لكلِّ أحد، أن يستدل الناس بذلك على الأئمة المعصومين المطهَّرين.
إنَّ مَن آمن بأنَّ الكتاب معجزةُ الله لعباده، ثمَّ نظر فيه، فوجده يُصَرِّحُ باحتوائه على تبيان كلّ شيء، ثم نظر فيه بعقله وقلبه فعجز عن استخراج كلِّ ما يحتاج إليه، لا بد أن يبحث عمَّن أودعهم الله علومه، وهم الأئمة عليهم السلام حصراً.. إذ لم يُدَّع لأحدٍ من الخلق سواهم مثل هذه المرتبة، إلا حفنة من الكذابين الذين يظهر بطلان دعواهم جلياً بأدنى تأمل.
أراد الله إذاً بتعميته على عباده أن:
يَنْتَهُوا فِي قَوْلِهِ إِلَى طَاعَةِ القُوَّامِ بِكِتَابِهِ، وَالنَّاطِقِينَ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَسْتَنْطِقُوا مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ:
فليس العبدُ هو المفسِّرُ لكتاب الله الصامت، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ذلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ..
فمَن جعلَ نفسَه من أهل استنطاق أسرار القرآن، وزعم أنَّه عالمٌ بكلِّ ما فيه، أو أنَّه مُستغنٍ عن (القُوَّامِ بِكِتَابِهِ).. فقد أنزل نفسه منزلتهم، وسلب الحقَّ أهله، وَضَلَّ وأضلّ.
هؤلاء قُوَّامُ الكتاب، بهم تُستجلى أحكام الله وتُعرَف، ومنهم يؤخذ الحق، وهم سادة الخلق والعباد، فمَن جعل نفسه لهم قريناً، وادَّعى منزلتهم كان منازعاً لله في سلطانه.
هم العالمون بعلوم القرآن حصراً:
فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَيْسَ يعْلَمُ ذَلِكَ أَبَداً، وَلَا يُوجَدُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الخَلْقُ كُلُّهُمْ وُلَاةَ الأَمْرِ، إِذْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَأْتَمِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْ يُبَلِّغُونَهُ أَمْرَ الله وَنَهْيَهُ(87).
إنَّ الله تعالى قادرٌ أن يُنزِلَ الوحي على كلِّ العباد، ثمَّ لا يرسل لأحدٍ رسولاً، لكنَّ البلوى بذلك تسقط، والله تعالى يريد اختبار عباده.
وليس يُعقل أن يجعلهم جميعاً ولاةً! فعلى أي أحد يكون الجميعُ ولاةً؟ وإذا كان الجميع ولاةً وكانت طاعة الوالي والوليّ واجبةً فمَن هم الذين أمروا بطاعته وكلُّ الناس ولاة؟
لذا كان مقتضى الحكمة الإلهية أن يخصَّ عز وجل الكمَّل بذلك المنصب، فجعلهم أهل علم القرآن، تفسيراً وتأويلاً، ظاهراً وباطناً، وجعلهم بابه الذين منهم يؤتى.
وصار السبب في إخفاء علوم القرآن عن كلِّ أحدٍ هو الإضطرار إلى الرجوع لآل محمد عليهم السلام، قوّام القرآن الكريم.
فما أعظمَ آل محمدٍ عليهم السلام، حيثُ كان الإرشادُ إلى ولايتهم، والتدليل عليهم، سبباً في أن يجعل الله تعالى كتابَه على ما هو عليه!
4. هل يفهم القرآن.. غير الإمام؟
إذا تبيَّنَ أنَّ تمام علوم القرآن مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام، وأنَّ الله تعالى قد أودعها لديهم ليرجع الناس إليهم.
وإذا انكشف أنه تعالى أودعَ الكتاب محكماً ومتشابهاً لامتحان الخلق بذلك، فهل يعني هذا أنَّ القرآن الكريم لا يكون حجةً مطلقاً؟ أو أنه لا يصح العمل بشيء من آياته إلا بعد العودة إلى المعصومين عليهم السلام؟
وهل يدلُّ على هذا المعنى قول الإمام الباقر عليه السلام: وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا يَعْرِفُ القُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ(88).
إنَّ الأمَّةَ كلُّها قد خوطبت بالقرآن، لكنَّها لو اجتمعت بأَسرِها سوى المعصوم ما أمكنها أن تعرف القرآن كلَّه بتمامه وكماله.
فلا جرم أن يكون المخاطب المباشِر به هو الذي يعرفه، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ثمَّ مَن نُزِّل منزلته وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام.
فهل يصير القرآن كتاباً لا يمكن العمل به إلا بعدَ العودة إلى النبيِّ والإمام عليه السلام؟ فيسقط عن الحجية بنفسه؟!
إنَّ ههنا معنىً في غاية الأهمة، وهو أن الآيات التي يجبُ الإيمان بها ولا يصحُّ العملُ بها هي المتشابهات فقط.
وليس من المتشابه ما يكونُ ظاهراً في معنى، ثمَّ لا تقوم قرينةٌ على صرفه عنه، فإنَّ هذا الظاهر مما يجبُ العملُ به بلا شكٍّ وشبهة.
أي أنَّ ظواهرَ القرآن لا بدَّ أن تكون حجَّةً بنفسها، إلا في مواردَ يقوم الدليل على لزوم صرفِها عن ظهورها.
بعبارة أخرى:
إنَّ آيات القرآن على أصناف، فمنها: النَّصُّ، والظاهرُ، والمُجمَل.
1. النَّصُّ: هو العبارةُ التي يُفهَمُ منها معنى ولا تَحتَمِلُ خلافه. ولا شك بلزوم العمل به، والنصوصُ مِنَ المحكمات التي أُمِرنَا بالعمل بها.
2. الظاهرُ: هو العبارةُ التي ظَهَرَت في معنى، لكنَّها تحتَمِلُ معنى آخر. وهنا لا يُصار إلى العدول عن الظاهر إلا بقرينة، ومَعَ فقدها لا شكّ بلزوم العمل بالظاهر.
نعم قد يكون كلامُ الإمام قرينةً على لزوم حَمل الظاهر على خلاف ظهوره، فلا يصحُّ العمل بظاهر هذه الآيات إن وُجِدَت تلك القرينة أو سواها من القرائن، أما مع بقائها على ظهورها، وعدم وجود قرينةٍ صارفةٍ لها، يكون حكمها حكم النصّ وهو لزوم العمل بها جزماً.
وقد يقال بأنَّ الظاهر الذي قامت قرينة على صرفه عن ظهوره، كان من المتشابه، وببركة القرائن عرفنا كيفية التعامل معه بردِّه إلى المحكم.
3. المجملُ: وهو من المتشابه، حتى قيل أنَّه هو المتشابه.
وفي المجمل يكون لِلَّفظ معنَيان أو أكثر، مع تساوي النسبة إلى هذه المعاني.
ويلزم النظر في القرائن التي تُعَيِّنُ المعنى المراد حقاً، ويكون ذلك عبر الآيات المحكمات، أو عبر أدلة العقل القطعي، أو عبر نصوص الأئمة المعصومين عليهم السلام.
أما ما يقال: أنَّ القرآن ليس حجَّةً أبداً! فهذا مما لا يمكن الالتزام به.
فهو وإن تَضَمَّنَ المتشابهات، إلا أنه ليس كتاباً مبهماً.
وإن كان تمام علمه عند المعصوم عليه السلام، إلا أن ما يظهر منه يكون حُجَّةً بلا شك، إلا أن تقوم القرينة على خلاف ذلك.
بل إن من زعم أن القرآن لا يمكن أن يُفهَمَ شيء منه، وأنه مُبهَمٌ غامضٌ بتمامه فقد أحال، إذ كيف يكونُ كتابٌ أنزله الله للهداية غامضاً مُبهَماً؟! وأيُّ ثمرةٍ تترتب عليه حينها؟ ولو كان كذلك لصارَ لغواً لا حاجة له بحالٍ من الأحوال!
وقد نبَّه الإمام الباقر عليه السلام لخطورة هذا الأمر حين قال:
مَنْ زَعَمَ أَنَّ كِتَابَ الله مُبْهَمٌ فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ(89).
هلك لأنَّه أسقط القرآن عن الحجية، فلم يعد يصح الاستدلال به بحال.. وبهذا لا يبقى حجرٌ على حجر.
وكيف يسقط وقد جعله الأئمة دليلاً لهم على مَن خاصمهم، وقد استدلَّت به الزهراء عليها السلام على من سلبها حقها.
لقد استدلوا بمحكماته لا بمتشابهاته، بل أمروا بعرض رواياتهم المشكوك بأمرها على القرآن، أي على محكمات القرآن الكريم، وَرَدِّ ما عارضه معارضةً مستقرَّة، فإنَّهم لا يخالفونه ولا يخالفهم.
وكما أن القرآن يوافق بعضه بعضاً، ولا يخالف شيءٌ منه شيئاً آخر، كذلك كلامُهم كُلُّه مُتَّسِقٌ لا يختلف، ولا يُخالفُ القرآنَ بحال.
ثمَّ إنَّ النصوص صريحةٌ في حرمة مخالفة ما في ظهر القرآن وبطنه، فيكون الظاهر والباطن حجَّة معاً.. والظاهر يعرفه كلُّ أحد، والبطنُ يكشفه الإمام عليه السلام، فعنهم عليهم السلام:
وَإِيَّاكُمْ وَالإِصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ الله فِي ظَهْرِ القُرْآنِ وَبَطْنِه(90).
وصفوة القول..
أنَّ القرآن الكريم حجةٌ في ظواهره وبطونه، وفي تنزيله وتأويله.
ولا مجال لِرَدِّ الظواهر والكُفر بها لأنه يعني سقوط القرآن عن الحجية.
وقد قال أَبُو عَبْدِ الله (ع):
1. إِنَّ قَوْماً آمَنُوا بِالظَّاهِرِ وَكَفَرُوا بِالبَاطِنِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْءٌ.
2. وَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ فَآمَنُوا بِالبَاطِنِ وَكَفَرُوا بِالظَّاهِرِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ شَيْئاً.
3. وَلَا إِيمَانَ بِظَاهِرٍ إِلَّا بِبَاطِنٍ وَلَا بِبَاطِنٍ إِلَّا بِظَاهِرٍ(91).
المؤمنون إذاً يؤمنون بظاهر القرآن وباطنه.
وظاهرُهُ ومحكماتُهُ تُرشدُ إلى المعصومين عليهم السلام، فما كشفوا لنا عن بطونه أخذنا به، وما ستروه عنا عرفنا أنَّ في إخفائه حكمةٌ بالغة.
هكذا تثبت الثنائية بين القرآن الكريم وبينهم عليهم السلام: فَعِلمُ تمام القرآن محصورٌ بهم، والقرآن يدلُّ عليهم، ويرشد إليهم، ويأمر باتِّباعهم.
ولا اتباعَ لأمر القرآن دون اتباع أمرهم، فوِلايتهم قطب القرآن، وعليها تدورُ مُحكماته.. بل إنَّ ولايتهم وإمامتهم أسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي.
جعلنا الله من أوليائهم حقاً وصدقاً، وعَجَّلَ فَرَجَ وليهم، كي ننعم ببركة الثَّقلين ظاهرَين غيرَ مُستَتِرَين، ونحتجب بهما عن الضلالة، ونسترشد بهما إلى طريق الله.
والحمد لله رب العالمين
(1) صحيح مسلم ج7 ص122 ح2408.
(2) الأمالي للطوسي ص479.
(3) بصائر الدرجات ج1 ص486.
(4) الكافي ج1 ص61.
(5) العمدة لابن بطريق ص330.
(6) نهج البلاغة الخطبة 133.
(7) نهج البلاغة الخطبة 133.
(8) الكافي ج2 ص597.
(9) نهج البلاغة الخطبة 183.
(10) معجم مقاييس اللغة ج3 ص308
(11) العين ج5 ص104.
(12) المحيط في اللغة ج5 ص328.
(13) الكافي ج1 ص169.
(14) نهج البلاغة الخطبة77.
(15) الكافي ج1 ص250.
(16) الإسراء9.
(17) الكافي ج1 ص216.
(18) الكافي ج1 ص379.
(19) الأحزاب6.
(20) الأنبياء7.
(21) الكافي ج1 ص7.
(22) كتاب سليم ج2 ص885.
(23) الكافي ج1 ص416.
(24) بصائر الدرجات ج1 ص413.
(25) الكافي ج8 ص28.
(26) الكافي ج2 ص216.
(27) الكافي ج2 ص561.
(28) الأعراف157.
(29) الكافي ج1 ص194.
(30) التغابن8.
(31) الكافي ج1 ص194.
(32) الكافي ج2 ص599.
(33) الغيبة للنعماني ص72.
(34) التوحيد للصدوق ص255.
(35) النساء82.
(36) التوحيد للصدوق ص227.
(37) التوحيد للصدوق ص265-266.
(38) نهج البلاغة ص164.
(39) نهج البلاغة الخطبة176.
(40) نهج البلاغة الخطبة 198.
(41) الكافي ج8 ص390-391.
(42) الكافي ج1 ص194.
(43) الكافي ج2 ص423.
(44) الزمر23.
(45) الكافي ج4 ص583.
(46) صفات الشيعة ص15.
(47) تفسير العياشي ج1 ص5.
(48) تفسير العياشي ج1 ص5.
(49) البقرة145.
(50) الإسراء41.
(51) الإسراء82.
(52) التوبة124-125.
(53) الباقر عليه السلام في تفسير العياشي ج2 ص118.
(54) فصلت44.
(55) الكافي ج2 ص574.
(56) المائدة68.
(57) بصائر الدرجات ج1 ص74.
(58) نوح5-7.
(59) فاطر42.
(60) الفرقان27-30.
(61) تفسير القمي ج2 ص113.
(62) البرهان ج4 ص131.
(63) الكافي ج8 ص28.
(64) الكافي ج8 ص39و42.
(65) فاطر8.
(66) المحاسن ج2 ص232.
(67) النحل89.
(68) المحاسن ج2 ص300.
(69) بصائر الدرجات ج1 ص196.
(70) الكافي ج1 ص61.
(71) الكافي ج1 ص59.
(72) الكافي ج1 ص60.
(73) المحاسن ج2 ص300.
(74) المحاسن ج1 ص267.
(75) نهج البلاغة الخطبة 125.
(76) تفسير الرازي ج20 ص99.
(77) الكافي ج1 ص228.
(78) بصائر الدرجات ج1 ص213.
(79) بصائر الدرجات ج1 ص193.
(80) كتاب سليم ج2 ص847.
(81) روضة الواعظين ج1 ص94.
(82) آل عمران7.
(83) آل عمران7.
(84) بصائر الدرجات ج1 ص203.
(85) الكافي ج4 ص199.
(86) الكافي ج4 ص200.
(87) المحاسن ج1 ص268.
(88) الكافي ج8 ص312.
(89) المحاسن ج1 ص270.
(90) الكافي ج8 ص10.
(91) بصائر الدرجات ج1 ص537.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

ألقي هذا البحث في (جامعة كربلاء) في (مؤتمر الإمام الحسين عليه السلام الدولي السادس) الذي أقامته العتبة الحسينية المقدَّسة (دار القرآن الكريم) بالاشتراك مع (جامعة كربلاء) تحت عنوان (الأثر القرآني لأمير المؤمنين عليه السلام)، وذلك يوم الخميس 7 شعبان 1446 هـ الموافق 6-2-2024 م
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اتَّفقت كلمةُ المسلمين على نقل وَصِيَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله بالكتاب المنزَل عليه، وبعترتِه الطاهرة، أهل بيته عليهم السلام.
هي وصيةٌ مشهورةٌ معروفةٌ يحفظها الصِّغار والكبار، ينقلُ بعضَ فقراتها مُسلمُ في صحيحه: أَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ الله.. وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِي أَهْلِ بَيْتِي(1).
وقد تكرَّرَت وصيَّته (ص) بالثَّقلين مراراً، حتى قبيل انتقاله إلى ربه تعالى، حين خاطب صلى الله عليه وآله أصحابَه فقال:
إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ كِتَابَ الله (عَزَّ وَجَلَّ) وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَرَفَعَهَا فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ، خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ، لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَأَسْأَلُهُمَا مَا ذَا خُلِّفْتُ فِيهِمَا(2).
إنَّ المعيَّةَ هنا مُتبادَلَةٌ بين عَليٍّ والقرآن، فكلٌّ منهما مع الآخر، حيثُ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُمَثِّلُ الحقَّ المطلق، والحقُّ لا يفارقُ الحقَّ بحال.
وفي هذا البحث نعرض لمحاور أربعة، تُبَيِّنُ التلازُمَ بين عليٍّ عليه السلام والقرآن، وتكشف عن انحصار الهداية وحياة القلوب بالأخذ عنهما معاً، مع التحذير من هجرانهما، وبيان الوجه في توقُّف فهم القرآن بأبعاده الواسعة على تَرجُمانه: عليٍّ عليه السلام.
المحور الأول: عليٌّ والكتاب خليفتان بصيران
إنَّ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله المتقدِّم ما يستحقُّ التأمُّل.. فَعَليٌّ والقرآن في كلامه (ص): (خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ، لَا يَفْتَرِقَانِ)!
يُدركُ المؤمنُ بعقله الذي جعله الله زينةً لهُ ونوراً امتناع اجتماع خليفتين معاً، فكيف تَرَكَ النبيُّ صلى الله عليه وآله -وهو أعظم العقلاء وسيُّدُهم- للنَّاس خليفتين معاً؟ ولو كانا بصيرين؟!
يتأمَّلُ المؤمنُ فيفهم أنَّ المانع من اجتماع الخليفتين معاً هو تزاحُمُهُما عندَ فعليَّة خلافتهما، ويتيقَّن من لزوم انحصار الرئاسة والقيادة بواحدٍ ولو كانا معصومَين مُطَهَّرين، لضمان انتظام الإمامة.
أمَّا لو كان أحَدُهُما ناطقاً، والآخرُ صامتاً، كان الناطق الذي أُمِرَ النَّاسُ باتِّباعه هو الإمامُ باطناً وظاهراً، وارتفعت غائلة التناقض.
لذا أجاب الإمام الصادق عليه السلام لمّا سئل: تَكُونُ الأَرْضُ وَفِيهَا إِمَامَانِ؟
بقوله: لَا، إِلَّا إِمَامٌ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ(3).
أي لا يتصدى، وهكذا كان الحسينُ إماماً في حياة الحسن عليه السلام، لكنَّ النُّطقَ كان للحسن عليه السلام، وإن أمر الناس بالإيمان بهما معاً.
وهكذا ساغَ للنبيِّ صلى الله عليه وآله أن يترُك خليفتين بَصيرين معاً: عَليٌّ.. والقرآن، حيثُ يلزم أن يكون أحدُهُما صامتاً والآخر ناطقاً.
الكتاب الصامت
إنَّ في القرآن الكريم ما في الصُّحُفِ الأولى، وما يحتاجُ النّاس إليه من حلالٍ وحرام، إلا أنَّهُ ليس كتاباً ناطقاً، وقد قال عليٌّ عليه السلام:
ذَلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ!
أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ، وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فَلَوْ سَالتُمُونِي عَنْهُ لَعَلَّمْتُكُمْ(4).
كلُّ ذلك في القرآن.. لكنَّهُ لا ينطق به، بل الناطق به عليٌّ عليه السلام! والكاشف لأسراره صِنوُه في الخلافة، إمامُ الحقّ، وخليفة الرحمان.
لقد قال عليه السلام في القرآن الكريم: هَذَا كِتَابُ الله الصَّامِتُ، وَأَنَا المُعَبِّرُ عَنْهُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ الله النَّاطِقِ، وَذَرُوا الحُكْمَ بِكِتَابِ الله الصَّامِتِ، إِذْ لَا مُعَبِّرَ عَنْهُ غَيْرِي(5).
لقد أشارَ عليه السلام هنا إلى معنىً دقيق، وهو أنَّ القرآن الكريم يحتاجُ إلى مَن يكشفُ مبهماته، ويُظهِرُ علومَه، ويُعَبِّر ما فيه ويُبَيِّنَه للناس، وليس سوى عليٍّ عليه السلام، وعليه يُحمَلُ كون القرآن صامتاً.
أما ما روي عنه عليه السلام في كون القرآن ناطقاً: ..وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ(6)، وأنَّه: يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْض(7)، وأنَّه كلام الله: الصَّادِق النَّاطِق(8).
فمحمولٌ على المحكَمات التي لا تحتاجُ إلى تبيين، ففي القرآن مُحكمٌ بَيِّنٌ يلهجُ بالحقِّ جلياً، ومنه ما يحتاجُ إلى تبيين.
فلا يكونُ القرآنُ صامتاً في المُحكمات، ولا يكون ناطقاً في غيرها.
وعلى هذا المعنى يُحمل قوله عليه السلام: فَالقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ(9).
ويشهدُ لهذه المعاني ما ورد في كتب اللغة حول معاني النُّطق والصمت، بحيث يتضح أنَّ أقرب المعاني لتفسير القرآن بأنه صامتٌ هو تضمنه للمتشابهات، ففي معجم مقاييس اللغة: الصاد والميم والتاء أصلٌ واحد يدلُّ على إبهامٍ وإغلاق(10).
فالإبهام والإغلاق أي عدم إمكان الوصول إليه بيُسرٍ هو صفةٌ قريبةٌ من المتشابه، الذي لا يمكن معرفة المراد منه لكل أحدٍ كيفما اتفق، إلا بِرَدِّه الى المحكم.
وأقرب المعاني لتفسير الناطق هو البَيِّن، وهو الآيات المحكمات:
ففي كتاب العين: نَطَقَ النَّاطِقُ يَنْطِقُ نَطْقاً، وهو مِنْطِيقٌ بليغ. والكتاب النَّاطِقُ: البين(11). وفي المحيط في اللغة: الناطِقُ: البَيِّنُ(12).
وبهذا يتضح أن القرآن صامتٌ من جهة متشابهاته، ناطقٌ من جهة محكماته، وأن متشابهاته التي كان فيها صامتاً، يبينها عليٌّ عليه السلام، فيكون بها ناطقاً، فصار عليٌّ عليه السلام كتاب الله الناطق.
إنَّ علمَ ما مضى وما يأتي مودَعٌ في القرآن الكريم، لكنَّه يحتاجُ إلى مُعَبِّرٍ هو عليٌّ عليه السلام، فيكون القرآن الكريم صامتاً عن ذلك.
ولقد كان القرآن صامتاً في كثيرٍ مما اختلف فيه الناس أيضاً، بمعنى احتياجه لمن يوضح لهم ما اختلفوا فيه.
كما كان ناطقاً فيما اتَّفقوا عليه، وفيما كان جليَّاً بَيِّناً وإن لم يعمَلوا به، كلزوم طاعة أولي الأمر المعصومين عليهم السلام.
عليٌّ قيِّمُ القرآن
مِن ههنا أدرَكَ أعاظمُ فقهاء الشيعة النسبة بين عَليٍّ والقرآن، حتى عَرَضَ الشيخ الجليل الفقيه منصور بن حازم رحمه الله مناظرته مع المخالفين على الإمام الصادق عليه السلام، فترَحَّمَ الإمام عليه مقرَّاً له على أقواله.
لقد أدرك رحمه الله أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله كان حجة الله، وأنَّه ترك بعده حجةً لهم، وهذا الحجة إن كان هو القرآن بنفسه فهذا لا يستقيم مع اختلاف الناس في الاستدلال بالقرآن، قال رحمه الله:
فَنَظَرْتُ فِي القُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ المُرْجِئُ وَالقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ القُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقّاً.
أي أنَّ أصحاب العقائد الباطلة قد يحتجّون بالقرآن الكريم على عقيدتهم، ثم يعجزُ مَن يقابلُهم عن ردِّ دعواهم مع بطلانها، وما ذاك إلا لعجزه عن فهم القرآن، ولأنَّ القرآن صامتٌ لا يمكنُ له أن يبيِّن المراد من آياته حقاً، بل يحتاجُ إلى من يدفع عنه تلبيسات الأبالسة.
ولمَّا لم يَكُن عندَ أحدٍ معرفةٌ بكلِّ القرآن سوى عليٍّ عليه السلام، بل لم تُدَّعَ مِثلُ هذه المعرفة التامَّة لأحدٍ سواه في طول التاريخ، ثبت أنَّ هذا المنصب له، قال رحمه الله: فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً (ع) كَانَ قَيِّمَ القُرْآنِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً..
فقال عليه السلام: رَحِمَكَ الله(13).
فهو عليه السلام قَيِّمُ القرآن، أي مُقيمُ أمره، ومُبَيِّنُ علمه، وهو المحيط بشؤونه، والكاشف لغوامضه، والمبين لمتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وهو الدال على بطونه، والمظهر لعلومه. فليس القرآن مع تمام عظمته بمستغنٍ عن الإمام المعصوم.
الاحتجاج بالقرآن
ظهر بما تقدَّم أن هذين الخليفتين (عليٌّ والقرآن) وإن كانا (خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ) فإنَّهما ليسا على سَمتٍ واحد، وطَرزٍ فارد، فأحدُهما لا ينطق إن استُنطِقَ إلا بالآخر، وقد أوصى الخليفةُ الآخر وهو عليٌّ عليه السلام ابن عباس عندما أرسله للاحتاج على الخوارج فقال:
لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالقُرْآنِ، فَإِنَّ القُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ(14).
ولمّا كان القرآن صامتاً يحتملُ وجوهاً، ولو بعيدةً، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه التوجيهات الفاسدة، إلا بِقَيِّمٍ، وكان الخوارجُ ممَّن لا يقبلون قيموميَّة القيِّم، لم يصلح الاستدلال عليهم بالقرآن، بل لزم الاستدلال عليهم بالسنة الشريفة إن قبلوها، والناطق بهما عليٌّ عليه السلام.
نعم لا يُخاصَمُ القومُ بالقرآن لمكان جحودهم، أما المنصفُ منهم فيقرُّ بفضل الأئمة عليهم السلام من القرآن.
وهذا مختصٌّ بالمتشابه، الذي يحتمل الأوجه المختلفة، أما المحكم فمما خاصَمَ به الأئمة عليهم السلام وأمروا الشيعة بذلك، كما روي عن الباقر عليه السلام:
يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ خَاصِمُوا بِسُورَةِ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) تَفْلُجُوا: أي أثبتوا بها الإمامة، يكون لكم الظفر بذلك.
فَوَ الله إِنَّهَا لحُجَّةُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ الله (ص): فالقرآن الكريم حجةٌ كما الإمام، وإن كانت تمام علومه عند الإمام، وكان القائم بأمره هو الإمام، إلا أنَّهُ يظلُّ حجَّةً فيما هو جليٌّ بيِّن، ومن ذلك سورة القدر.
وَإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ دِينِكُمْ: فصارت هذه السورة سيِّدةَ الدين لأنّها تُثبتُ ما يكتملُ به الدين، وهو الإمامة، فيكون الدينُ منقوصاً عقيماً لولاها، أو لأنها سيدة الأدلة على الإمامة أيضاً.
وَإِنَّهَا لَغَايَةُ عِلْمِنَا: وهذه إشارةٌ إلى ما يتنزل على الإمام في ليلة القدر إلى آخر الدَّهر.
يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ خَاصِمُوا بِـ ﴿حم وَالكِتابِ المُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾، فَإِنَّهَا لِوُلَاةِ الأَمْرِ خَاصَّةً بَعْدَ رَسُولِ الله(ص)، يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾: فأثبتت هذه الآيات لزوم وجود الحجة في كلِّ زمان، وهو الذي تتنزَّلُ عليه الملائكة في ليلة القدر، وبهذا يُعرَفُ ضرورة وجود الإمام الحجة عجل الله فرجه، فإنَّ القرآن الكريم في هذه الآيات يُرشدُ إلى ما حكمت به العقول من لزوم الحجة في عَصر.
أفهل يترك الله تعالى عباده هملاً دون حجَّةٍ يحتجُّ به عليهم؟ ودون نذيرٍ يُنذرهم أمرَ الله؟ سواءٌ قبلوه، أم جحدوه وألجؤوه إلى الغياب.
ثم قال عليه السلام: لَمْ يَمُتْ مُحَمَّدٌ إِلَّا وَلَهُ بَعِيثٌ نَذِيرٌ.. فَإِنْ قُلْت لَا، فَقَدْ ضَيَّعَ رَسُولُ الله (ص) مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ مِنْ أُمَّتِهِ.
قَالَ: وَمَا يَكْفِيهِمُ القُرْآنُ؟
قَالَ (ع): بَلَى إِنْ وَجَدُوا لَهُ مُفَسِّراً.
قَالَ: وَمَا فَسَّرَهُ رَسُولُ الله (ص)؟
قَالَ (ع): بَلَى قَدْ فَسَّرَهُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَفَسَّرَ لِلْأُمَّةِ شَأْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)(15).
فمَن زعمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله لم يوصِ لأحدٍ يكون إماماً من بعده فقد نسب له (ص) التفريط في هداية الأمَّة، وتضييع الأجيال القادمة، لأنَّ أحداً لا يزعمُ أنَّ عنده تفسيرُ تمام القرآن، ولا يكون ذلك إلا لإمامٍ منصوبٍ من الله تعالى يُبيِّنُ للناس، من بعد أن يكون النبيُّ (ص) قد أرشد إليه وسمّاه وبيَّن أمره.
دلالة متبادلة بين القرآن والإمام
إنَّ بين الإمام والقرآن علاقةٌ بالغةُ الدلالة، بحيث يهدي كلٌّ منهما للآخر، ويُرشدُ إليه، ويدلُّ عليه.
أولاً: القرآن يهدي للإمام
لقد كشفَت آيات الكتاب عن هذه العلاقة، بحيث أنَّ الكتابَ نفسَه يهدي للخليفة البصير الناطق، قال تعالى: ﴿إِنَّ هذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(16)، وقال فيها الصادق عليه السلام: يَهْدِي إِلَى الإِمَامِ(17).
ولمّا سُئلَ عليه السلام عن وجه معرفة الإمام وبما يُعرَف قال: بِكِتَابِ الله المُنْزَلِ(18)، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله﴾(19)، وقوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(20).
بل إنَّ رُبع القرآن أو ثلثه نزل في آل محمد عليهم السلام، فما أكثر الآيات الدالة عليهم، والمرشدة إليهم، والآمرة بالأخذ منهم.
بل إنَّ معرفة أمر الأئمة عليهم السلام من القرآن من أوجب الواجبات، حِفظاً للنفس من السقوط في الفتن التي توالت على المسلمين، إذ لا شكَّ عند أحدٍ من المسلمين بصحة الكتاب المنزل وحجيَّته، فمَن عرفَ أمرَهم من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل كان آمناً من الهزاهز، ومَن جَهِلَ ذلك كان عرضةً لأن تُسقطه مضلّات الفتن، حتى ورد عنهم عليهم السلام: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَنَا مِنَ القُرْآنِ لَمْ يَتَنَكَّبِ الفِتَنَ(21).
أي لم يجتنبها ويتباعد عنها، فيلزم أن يكون المؤمن على بينة من أمره في الإمامة، وأن يتمكَّنَ من معرفتها من القرآن الكريم، كمعرفتها من ليلة القدر وسواها من الأدلة الجليَّة.
ثانيا: الإمام يهدي للقرآن
لمَّا كان الإمام هو الناطق عن القرآن، والمُبَيِّنُ لأحكامه، كان دالاً ومرشداً إليه، حتى ورد عنهم عليهم السلام:
وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَانٍ هَادٍ وَدَلِيلٌ وَإِمَامٌ، يَهْدِيهِمْ وَيَدُلُّهمْ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ(22).
والإمام من آل محمدٍ: يُنْذِرُ بِالقُرْآنِ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ رَسُولُ الله (ص)(23).
وقد قال الصادق عليه السلام في عليٍّ والقرآن: صَاحِبَانِ مُؤْتَلِفَانِ يَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ بِتَصْدِيقٍ(24).
بهذا ثبت التلازم بين هذين الخليفتين، أحدُهما لا يفارقُ الآخر، وكلٌّ منهما يُرشِدُ إلى صاحبه، ولكنَّ أحدَهما لا ينطق إلا بالآخر، فصار الناطقُ قَيِّماً، وهو عليٌّ عليه السلام، وبنوه من بعده، الذين طهَّرَهم الله تعالى وعَصَمَهم وجعلهم مع القرآن، لا يفارقهم ولا يفارقوه.
فمَن آمَن بالقرآن آمن بهم، ومَن كفر بهم كفر بالقرآن، ولهذا التلازم صحَّ أن يصفَ عليٌّ عليه السلام حال الأشقى فيقول: فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْهُ ضَلَّ.. وَالقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاهُ هَجَرَ(25).
فمَن ضلَّ عن عليٍّ وهجره كان الأشقى..
وهكذا صار عَليٌّ قَيِّمَ القرآن.. بل صار عَليٌّ هو القرآن حقاً.
فمَن آمن بالقرآن اتَّبَع القيِّمَ والمبيِّنَ والموضح له، فهما خليفتان بصيران لا يُقبَلُ الاعتقاد بأحدهما وإنكار الآخر وجحوده، فإما أن يؤخذا معاً، أو يُتركا معاً..
وهكذا صارَ القرآن قُرآناً بقيِّمِه.. ذاك عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، به تتمُّ حجَّتُه، وبه يصيرُ القرآن ناطقاً، وبه تظهر علومه.
المحور الثاني: عليٌّ والقرآن: سبيل الهداية وحياة القلوب
تعيشُ الأمَّةُ اليومَ في ظَلامٍ حالِكٍ، جَهلٌ وظُلاماتٌ وأحزانٌ وهمومٌ، لا تُفارِقُ الناس بحال.
كيف ما نَظَرتَ على وجه الأرض ترى ظُلماً وقَهراً واضطهاداً واستعباداً للعباد، حتى يكاد يصير بعضُهم عبيداً للظالم المقتَدِر، وقد جعلهم الله أحراراً.
ولا تشذُّ أمَّةُ الإسلام عن هذه الحالة المقيتة، وهي الأمة التي تؤمن بكتاب الله تعالى، كتاب الهدى والرشاد.
فأين الهدى الذي تدَّعيه هذه الأمة؟ وبين أيديها كتاب الله، معجزة الرسول، وفيه أخبار السماء والأرض وأحكام الله تعالى.
إنَّ كتاب الله نورٌ وهُدى، يأخذ بيد العباد، رغم ذلك لا نرى مصابيح نَيِّرَة في سماء المسلمين اليوم كما ينبغي! فأين مَكمَن الخلل؟!
الثقلان من أنوار الله!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام وفي وصيته لأصحابه:
اعْلَمُوا أَنَّ القُرْآنَ هُدَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: أي أنَّه هدىً في كل حال، فلا يخلو الوقت من أن يكون إما ليلاً أو نهاراً، وعلى كلا التقديرين يكون القرآن كتاب هداية فيهما، ثم يقول عليه السلام:
وَنُورُ اللَّيْلِ المُظْلِمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَفَاقَةٍ(26).
بالقرآن يسترشدُ المؤمنون، حيث ينتشلهم مما هم فيه من فاقةٍ وتَعَب.
والمؤمن يتوجَّه إلى الله تعالى داعياً طالباً: أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ:
1. نُورَ بَصَرِي
2. وَرَبِيعَ قَلْبِي
3. وَجَلَاءَ حُزْنِي
4. وَذَهَابَ هَمِّي(27).
لكنَّ عمى البصيرة حَطَّ رحاله بين المسلمين، وخريف القلوب السوداء يسيطر عليهم، والأحزان والهموم لا تفارقهم.
أمير المؤمنين يقول عن القرآن بأنَّه: جَعَلَهُ اللهُ.. نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ..
لكنَّ كثيراً من حَمَلَةِ القرآن اليوم في ظَلامٍ دامس!
ويقول أنَّ الله أنزل الكتاب: نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ.
وأنَّه: لاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ.
ويأمر بالاستشفاء بنوره: وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ.
ولا يرى جُلُّ الناس لهذا الأثر نوراً، فما السرُّ في ذلك يا تُرى؟!
في القرآن ﴿شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُور﴾، لكنَّ صدور المسلمين لم تُشفَ، وحاشى أن يخطئ الله تعالى في كلماته.
يبحث المؤمن عن السرِّ في ذلك، فالقرآنُ كتابٌ في غاية العظمة، به تُكشَفُ الظلمات لا بسواه، فلماذا لا تزال الأمّة في ظلمات الجهل وهي تتلوه ليلَها ونهارَها؟! لماذا لم تهتدِ بأنواره؟
إنَّ السرَّ في مكانٍ غَفِلَت عنه الأمة أو تغافلت، وعَمِيَت أو تَعَامَت.
إنَّ القرآن اليوم ليس حِكراً على فئةٍ من الناس، فكلُّ مَن على وجه البسيطة يقدرُ على الانتفاع به.
لكنَّ من استَنَارَ به واهتدى واسترشد هم أقلُّ القليل، ومَن أذهبَ القرآنُ همَّه هم قِلَّةٌ كالكبريت الأحمر.
فما السبيل إلى بلوغ تلك المنزلة؟ والحظوة بهذه المنقبة؟
لا ريب أن القرآن نورٌ للبصر، ان استرشدنا به واهتدينا.
ولكنَّ القرآن نفسه يرشد إلى نورٍ آخر.. هو الإمام، فمَن اهتدى به اتَّبَعَ النورين: نور القرآن ونور الإمام، ومَن جَحَدَ الإمام كان كمن أغمض عينيه عن نور القرآن.
إنّ القرآن يهدينا للإمام.. فكيف نتنوَّرُ به إذا ما رفضنا دلالته؟
إنَّ الأئمة في كتاب الله أنوارٌ أنزلها الله تعالى لتضيء للأمَّة ظُلُمَات الجهل، فقال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه﴾(28). وعن الصادق عليه السلام: النُّورُ فِي هَذَا المَوْضِعِ عَلِيٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَالأَئِمَّةُ (ع)(29).
هم اثنا عشر إماماً، يمثِّلون الكمال المطلق في عالم الوجود، هم أنوارٌ إلهيةٌ تأخذ بيد الناس إلى الله تعالى، لكنَّ الناس أعرضَت عنهم!
قال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾(30).
وعن الباقر عليه السلام: النُّورُ والله الأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(31).
إنَّ على وجه الأرض اليوم نوران: نورُ القرآن، ونورُ الإمام.
والقرآن يأمر باتباع الإمام، فمَن لم يتَّبعه كان قد أغمضَ عيناً عن نور الإمام، ثم أغمض الأخرى بعدم اتباع أمر القرآن.. فصار في ظلامٍ دامس وجهلٍ مطبق.
شروط الهداية بالقرآن
كيفَ تسترشدُ الأمَّة بالقرآن؟
سؤالٌ يطرحه العاقل فيقول: إذا كانت أمَّة الإسلام اليوم غير مسترشدة بالقرآن وهو بين ظهرانيها، فما السبيل إلى كشفِ الظلمات به؟ وجلاءِ الأحزان وذهابِ الهموم.. ما الطريق إلى حياة القلوب بالقرآن؟
لقد كشفَ النبي (ص) وهو حاملُ القرآن خريطةً لذلك، وأبان المنهج جليّاً، وذلك في أمورٌ منها:
1. اتخاذ القرآن دليلاً واتِّباعُه
قال (ص): فَإِذَا التَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ.. مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيل(32).
إنَّ شرط الاستفادة من القرآن هو أن نجعله أمامنا، أي أن نتَّبعه فيما يقول، لكنَّ الأمة جعلته خلفها، وأعرضت عنه وهو دليلُها إلى خير سبيل.
ولقد وروي نفس المضمون عن النبي (ص) في عليٍّ والأئمة من بعده عليهم السلام، فقال (ص):
تَعَلَّمُوا مِنْهُ وَمِنْ أَوْصِيَائِهِ، وَلَا تُعَلِّمُوهُمْ، وَلا تَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا تَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَ الحَقِّ، وَالحَقُّ مَعَهُمْ لَا يُزَايِلُهُمْ وَلَا يُزَايِلُونَه(33).
وقد حادَت الأُمَّةُ عنهما معاً، فأخَّرَت من قدَّمَ الله، وقدَّمَت من أخَّر الله، واستبدلَت أولياء الله بأعدائهم، فبايَنَت الحقَّ وحادَت عنه، وما اهتدَت بالقرآن الكريم.
ثمَّ وقعَ بعضُ المؤمنين بالأئمة عليهم السلام في هذا الشِّرك المُخيف، فتقدَّمَ بعضُهم على آل محمد وتخلَّفَ آخرون.
أما المتقدِّمُ، فهو المستعجل الذي يُريد بَعثَ دولة الحق قبل أوانها، وقد هلك المستعجلون وأهلكوا، حيثُ ينقلبُ فعلُهم زيادةً في مكروه الشيعة والمؤمنين، وكان حريَّاً بهم أن يمتثلوا أمر الإمام بِتَرَقُّبِ أمره عليه السلام، والجدَّ والورع والاجتهاد.
وأما المتخَلِّف، فذاك الذي يقول في الدين بهواه، وما أكثر هؤلاء اليوم، من القائلين في دين الله بغير عِلم، وكأنَّهم شركاء النبيِّ صلى الله عليه وآله في نبوته.
ولعلَّ منهم العصاة، حيثُ تخلَّفوا بأعمالهم عن آل محمدٍ عليهم السلام، وما أكثر المعاصي في أيامنا، بعدما انتشر الفسادُ في كلِّ مفصلٍ من مفاصل الحياة، وتَخَلَّفَ الناسُ عن أمر آل محمدٍ صلى الله عليه وآله باجتناب المعاصي.
فأنَّى يسترشد هؤلاء بأنوار القرآن والعترة؟ وأنّى لهم النجاة من الفتن المقبلة كقطع الليل المظلم، وهم لم يعملوا بالقرآن ولا امتثلوا أمر أولياء الأمر؟!
2. التعرف على القرآن وعلى أسراره
قال النبي (ص) في وصف القرآن:
فِيهِ مَصَابِيحُ الهُدَى، وَمَنَارُ الحِكْمَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى المَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ.
وفي بعض المصادر (النَّصَفَة).
فعلى الأول، يكون المراد أنَّ من يستفيد من القرآن كمصباحٍ ودليلٍ على الحق هو الذي يعرف صفة القرآن أو وصف القرآن للحقائق، أي من يتعرَّف عليه حقاً ليُدرك معانيه.
وعلى الثاني، تنحصر الإستفادة بالمنصِفِ لا المكابر.
ولعل المراد بالصفة صفة القرآن من حيث احتوائه على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والتنزيل والتأويل، والظهور والبطون، وغير ذلك.
وعلى كل تقدير فلا تخلو العبارةُ من إشارةٍ إلى آل بيت العصمة، فربع القرآن أو ثلثه فيهم، وربعه في عدوهم.. فمن عرف الصِّفة منه عرفهم بها بلا ريب.
وكما غُيِّبَ آلُ محمدٍ عن الأمة، وجهلت الأمة قدرَهم، كذلك جَهِلَت حقيقة القرآن وما فيه من علومٍ ومعارف، حتى في مثل أوصاف الله تعالى، فكيف بسائر الصفات والعلوم؟
فَمِن مُشَبِّهَةٍ إلى مُجبِّرَةٍ ثمَّ متصوفةٍ وعُرَفاء يصفون الله تعالى بصفات المخلوقين، وغيرهم ممن جهلوا القرآن وزعموا القرب من الله تعالى.
3. التفكر بالقرآن والتعقُّل والتدبر
قال النبيُّ (ص): فَلْيَجْلُ جَالٍ بَصَرَهُ، وَلْيُبْلِغِ الصِّفَةَ نَظَرَهُ يَنْجُ مِنْ عَطَبٍ.. فَإِنَّ التَّفَكُّرَ حَيَاةُ قَلْبِ البَصِيرِ.
لا تحصل الهداية بلقلقة اللسان، ولا بحفظ ألفاظ الكتاب وتضييع معانيه، بل بتدبُّر آياته والتفكُّر فيها، فإنَّ النظر والفكر هو طريق الله تعالى، وبه الخلاص من العَطَب والهلاك.
ولا يُصغى إلى من زعم أن لا دور للعقل في الدين.
إن العقل عقلان:
1. عقلٌ قطعي يُستدلُّ به على الله تعالى ورسله.
2. وظنونٌ وأوهامٌ تُنسَبُ للعقل، يبرأُ منها الفِكرُ السليم، وتنهى عن اتِّباعها شرائع السماء.
ومَن خَلَطَ بين الأمرين وزَعَمَ أنَّ العقل حجَّةٌ في ظنونه وقع في المحذور، وأسوأ منه من أخرَجَ أحكام العقل القطعيَّة عن دائرة الحُجَّة فأفقَدَ الإنسانَ رأسَ ماله، وسَلَبَهُ ثمرةَ العقل الذي به يمتاز عمّا سواه.
إنَّ من مصائبنا أنَّ غالبَ مَن في الأمَّةَ قد أوكَلَ أمر التفكير إلى سواه! فاتَّبَعَ مَن خالفَ القرآن، وأعرض عن التفكُّر فيه.. فمات قلبه بموت عقله!
حتى أنَّ رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام يوماً: إِنِّي قَدْ شَكَكْتُ فِي كِتَابِ الله المُنْزَلِ.. لِأَنِّي وَجَدْتُ الكِتَابَ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ..
فقال له عليه السلام:
إنَّ كِتَابَ الله لَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَكِنَّكَ لَمْ تُرْزَقْ عَقْلًا تَنْتَفِعُ بِهِ، فَهَاتِ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَل(34)..
ولقد أجابه الإمام على كل شبهاته، في أبوابٍ شتى، وأثبَتَ أنَّ الفكر السليم هو طريقُ فَهم القرآن، وأنَّ التعقُّل هو سبيل الاستفادة منه.
إنَّ من صفات الكتاب:
أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾(35).
وهكذا يتفكر المؤمن في الكتاب، وفي كلام العترة الطاهرة، فيُرجِعُ المتشابه من كلام الله وكلامهم للمحكم، ويتيقن أن كلامهم يصدق بعضه بعضاً، فيصيرُ من المهتدين.
4. عدم المغالاة في القرآن
لقد ابتُليَ القرآن الكريم كما العترة الطاهرة بقومٍ غالوا في حقيقته، فذهب بعضُهُم إلى أنَّ كلام الله أزليٌّ، كما ذهب النصارى إلى أن عيسى كلمة الله أزليٌّ.
فاشترك القرآن مع آل محمدٍ في أنَّهُ أحد أبواب الامتحان الإلهي، وقد زعم المغالون من العامَّة أنَّه غير مُحدَثٍ بل قديمٌ أزليٌّ كالله تعالى!
حتى قال الصادق عليه السلام:
إِنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله مُحْدَثٌ.. غَيْرُ أَزَلِيٍّ مَعَ الله، تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً، كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا شَيْءَ غَيْرَ الله(36).
فمَن غالى بالقرآن الكريم ونفى عنه الحدوثَ خَرَج عن حقيقة التوحيد، لأنَّه زَعَم أنَّ القرآن قديمٌ كالله تعالى.
ثمَّ غالى قومٌ بالأئمة عليهم السلام كما غالى قومٌ في القرآن، ونسبوهم إلى الألوهيَّة وانتقصوا من الله تعالى.
فتبرَّأَ المؤمنُ من هؤلاء وهؤلاء، إذ لا ريب في أنَّ آل محمدٍ عبيدٌ لله تعالى، مخلوقون مربوبون.
5. الإقرار بعظمة القرآن
ثم إنَّ الفئة التي غالت من هذه الجهة بالقرآن الكريم انتقصت منه من جهاتٍ أخرى، فلم تقرَّ بعظمته، حيث جعلته ككلام البشر في التفسير والفَهم، ففسرته برأيها، لذا قال الإمام عليه السلام:
إِيَّاكَ أَنْ تُفَسِّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِكَ حَتَّى تَفْقَهَهُ عَنِ العُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ رُبَّ تَنْزِيلٍ يُشْبِهُ كَلَامَ البَشَرِ وَهُوَ كَلَامُ الله، وَتَأْوِيلُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَام البَشَرِ، كَمَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يُشْبِهُهُ كَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ فِعْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئاً مِنْ أَفْعَالِ البَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ كَلَامَ البِشْرِ.. فَلَا تُشَبِّهْ كَلَامَ الله بِكَلَامِ البَشَرِ فَتَهْلِكَ وَتَضِل(37).
فإنَّ كلامَ الله تعالى وإن ترَكَّبَ مِن حروف كسائر الكلام، إلا أنَّه لا يُقاسُ به شيءٌ من كلام الناس، ولا يشبهه شيء منه.
والقرآن مع كونه حجَّةً في ظواهره، إلا أنَّ تفسيره بالآراء يخرجه عمَّا أراده الله تعالى منه. ولقد انحرفت فئةٌ أوَّلَت كلام الله على هواها بعدما فسَّرته برؤاها، وغفلت عن أن بواطن القرآن لا تؤخذ إلا من معادن العلم والحكمة.
وكيف لها أن تأخذه من معدنه وقد ضَلَّت عنهم واستهانت بهم واستضعفتهم.
بعليٍّ والكتاب.. تحيا القلوب!
تَعَلَّمُوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الحَدِيثِ.
وَتَفَقَّهُوا فِيهِ، فَإِنَّهُ رَبِيعُ القُلُوبِ(38).
هذا حديثٌ للقرآن الناطق عليٍّ عليه السلام، يأمر فيه بتعلُّم القرآن الصامت.
فالقرآن الكريم ليس كتاباً يُتلى فقط، إنَّهُ كتاب يُتَعَلَّم، ويُتَفَقَّه فيه، فيصير بذلك ربيعاً للقلوب، أي بمنزلة الربيع.
والربيع هو الغيث والمطرُ، أو ما يحيا وينبتُ عند نزول الغيث.
وكون القرآن كالغيث، يعني أنَّه به تحيا وتنتعش القلوب، ودونه تقسو وتموت.
يقول عليه السلام في خطبة أخرى:
فِيهِ رَبِيعُ القَلْبِ، وَيَنَابِيعُ العِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ(39).
وفي ثالثةً عنه عليه السلام:
جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ العُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ(40).
يتأمَّلُ العاقلُ في هذه الأحاديث الشريفة، فيُدرك شيئاً من عظمة القرآن الكريم، لكنَّه لا يرى هذه الآثار عند كلِّ أحد، لأنَّها مخصوصةٌ بأهلِها، ومشروطةٌ بأخذ علم القرآن عن أهله، فليس كلُّ أحدٍ يفقه القرآن ويرتوي منه، إلا أن يأخذه من أهله.
1. من هم أهل القرآن؟
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ عِلْمَ القُرْآنِ لَيْسَ يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلَّا مَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ: قُرَّاءُ القرآن اليوم كُثُرٌ، وليس جميعُهم ممَّن علم بواطنه، ولا ممّن حيا قلبه به، فلقد اسوَّدت قلوب كثيرٍ منهم وماتت، لأنَّهم ما أخذوا القرآن عمَّن ينبغي الأخذ عنه، ما عرفوا طعم القرآن وإن رَتَّلوه بألسنتهم.
إِنَّ عِلْمَ القُرْآنِ لَيْسَ يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلَّا مَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ، فَعَلِمَ بِالعِلْمِ جَهْلَهُ، وَبَصُرَ بِهِ عَمَاهُ، وَسَمِعَ بِهِ صَمَمَه، وَأَدْرَكَ بِهِ عِلْمَ مَا فَاتَ، وَحَيِيَ بِهِ بَعْدَ إِذْ مَاتَ: بالقرآن تنفتح أبواب العلوم، ويحيا العبدُ بعد موته، وههنا معنيان:
المعنى الأول: في دار الدُّنيا، عبدٌ ماتَ قلبُه لجهله بالله وأنبيائه وأوصيائهم، فأرشده القرآن إلى كلِّ ذلك، وأحياه الله بالقرآن (وَحَيِيَ بِهِ بَعْدَ إِذْ مَاتَ).
المعنى الثاني: في النشأة الأخرى، أي بعد موت العبد وانتقاله إلى عالم الآخرة، يحيا بالقرآن بعد موته، لأنه عمل به في حياته.
ففي القرآن إذاً حياةُ القلوب في هذه الدنيا، وفيما بعدها.
.. فَاطْلُبُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ خَاصَّةً: إنَّ من ذاقَ طعم القرآن يعرف كيف يُبَيِّنُه للناس، ومَن تعلَّمَهُ من المعصومين كان حقّاً أن يُطلب القرآن منه.
فَإِنَّهُمْ خَاصَّةً نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ: لا يُطلب القرآن من عند كلِّ أحد، وليس صحيحاً أنَّ أصحاب النبيّ كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا، فليس الجميعُ أنواراً في سماء الهداية، بل هو خاصٌّ بأهل القرآن.
وَأَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَمَوْتُ الجَهْلِ: هي عبارةٌ في قمَّة الرَّوعة، فبأهل القرآن يحيا العلم ويموت الجهل، ولا تحيا القلوب إلا بالأخذ عنهم.
يشير بعد ذلك عليه السلام إلى معنى في غاية الأهمية فيقول:
فَاعْقِلُوا الحَقَّ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ، وَلَا تَعْقِلُوهُ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الكِتَابِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ(41).
ما أكثر من يقرأ القرآن اليوم، لكنَّ قلةً منهم ترعى حقّه، وتأخذه عن معدنه، وتستنير بنوره.
يتبيَّن بهذا أن القرآن لا يكون ربيعاً للقلوب بمعزلٍ عن الثقل الآخر.
أيعقَلُ أن تحيا وتستنيرَ قلوبُ المؤمنين دون الأئمة الأطهار عليهم السلام؟ فإنَّ الأخذ منهم شرطٌ ليصير القرآن باباً للهدى.
وكما أنَّ القرآن نورٌ، فإنَّ الإمامَ نورٌ لقلوب المؤمنين.
يقول الصادق عليه السلام:
وَالله يَا أَبَا خَالِدٍ، لَنُورُ الإِمَامِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ، وَهُمْ وَالله يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ.
كم هو عظيمٌ أثَرُ نور الشَّمس في النهار، وكَم هو نَيِّرٌ لا يخبو، فإنَّ نور الإمام أنوَر منه في قلوب المؤمنين.
القلوب المظلمة كثيرةٌ، أما المؤمن فإنَّ قلبه يستنير بالإمام، حيثُ يصير الإمام مصدَرَ النور والحياة لقلوب أحبابه.
وَيَحْجُبُ الله عَزَّ وَجَلَّ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلِمُ قُلُوبُهُمْ: هؤلاء ما أرادوا الحقّ، ولا أرادوا الاستجابة لأمر الله تعالى، فجحدوا آل محمدٍ، فحجب الله تعالى النور عنهم، وانفرَدَ المؤمن بأنَّه صاحب القلب النيِّر.
يحبُّ المؤمن آل محمدٍ عليهم السلام، لكنَّ حبَّه ليس مُجرَّداً، بل حُبٌّ يستبطنُ موالاةً وطاعةً وتسليماً مطلقاً وانقياداً لهم عليهم السلام.
وَالله يَا أَبَا خَالِدٍ، لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ وَيَتَوَلَّانَا حَتَّى يُطَهِّرَ الله قَلْبَهُ، وَلَا يُطَهِّرُ الله قَلْبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلِّمَ لَنَا، وَيَكُونَ سِلْماً لَنَا.
إنَّ المؤمن يُسلِّمُ للمعصوم عليه السلام كما سَلَّمَ لله تعالى، فلا يحتجُّ على أمره، والمؤمن يُنزِلُ المعصوم في محلِّه، ولا يرفع سواهُ إلى منزلته، ولا يعامل غير المعصوم كما يعامل المعصوم مهما عظم شأن غيره، فإنَّ جميع المؤمنين مَوَالٍ لهم في الطاعة، شركاء في لزوم امتثال أمرهم.
ليس يعقل أن يكون لغير المعصوم طاعةٌ كطاعة المعصوم، فإنَّ هذا يكشف عن جهلٍ بمقام الإمام والإمامة، والمؤمن لا يجهل مقام إمامه.
ثم تستكمل الموالاةُ بالبراءة من أعدائهم، فلا يكون المؤمن أعوَراً يرى الحق فيهم وفي أعدائهم.
وثمرَةُ كلِّ ذلك: طهارة القلب في الدنيا، بأنوار آل محمد، فهم الذين ينورون قلوب المؤمنين.
ومَن طهَّرَ الله قلبه في الدنيا نجا وسَلِمَ من أمراض النَّفس، وكلَّما ازدادت معرفة المؤمن بآل محمد خلا من الحقد والحسد والاعتراض على الله تعالى، فصار من المُسَلِّمين لأمر الله، الراضين بقضائه.
حينها تنقلبُ كلُّ شدَّةٍ عند المؤمن إلى راحة، ويثمرُ كلُّ أذىً طمأنينةً، فإنّه بعين الله الذي يرعى المؤمنين.
إنَّ صعوبات الأيام ومشاكلها لا تنقضي، ولا يخلو منها عبدٌ لله، مؤمناً كان أم كافراً، لكنَّ المؤمن يصبر على بلاء الله، ويعلم أنَّ له عاقبةً طيِّبة فيرضى بقضاء الله وقدره، ويورثه ذلك سكينةً وراحةَ بالٍ مع كلِّ ما يصيبه من بلاء.
وغيرُ المؤمن يجزع لحوادث الليالي والأيام، ويخشى من يومه كخشيته من غده، ويسعى للخلاص بما يراه من أسباب مادية محضة، وتبزغ فيه نزعة الأنانية جليةً، وتزداد يوماً بعد يوم حتى يصير من أهل القلوب القاسية.
وليس الخلاص من ذلك إلا بالقرآن والعترة، لا على نحو اللقلقة والإدعاء، إنما بالمعرفة حقاً وبالعمل، حينها ينال الثمرة الأخرى في الآخرة:
فَإِذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ الله مِنْ شَدِيدِ الحِسَابِ، وَآمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ الأَكْبَرِ(42).
فينال المؤمن النجاة يوم القيامة لمّا عرف القرآن، وأرشده القرآن إلى آل محمد، فتَنَوَّرَ قلبه بهما معاً، ونجا يوم القيامة.
2. الشيعة والإيمان
لقد استقرَّ الإيمان في قلوب الشيعة، بعد أخذهم القرآن من أهله، وتسليمهم لأولياء الله.
إن قلب المؤمن: قَلْبٌ مَفْتُوحٌ، فِيهِ مَصَابِيحُ تَزْهَرُ، وَلَا يُطْفَأُ نُورُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(43).
أيُّ مصابيح هذه؟ الأمرُ صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، بالثقلين معاً، بالإمام والقرآن أزهرت قلوب المؤمنين.
إنَّ الأئمة ينورون قلوب الشيعة، فلا يُكتفى لنور القلب بالقرآن وحده ما لم يقترن مع عِدله، مع آل محمد، لذا قست قلوب المخالفين، وانفرد المؤمن بأن صار من أهل القلوب النَيِّرة وحده، لا يشاركه فيه سواه.
ظَلَّ الشيعة ينتظرون إمامهم، ويترقَّبون فرج الإمام الغائب، ولولا ترقُّبهم للإمام (لَقَسَتِ القُلُوبُ).
فبالأماني التي بذرها النبي والإمام فيهم، بعد الإيمان بالثقلين، حَيَّت قلوب الشيعة.
لقد ترك الثقلان أثراً في الشيعة دون سواهم، فهم أهل هذه الآية: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله﴾(44).
إنَّهم يخافون الله تعالى، حتى تقشعرَّ جلودهم من خشيته، وإنهم يرجونه تعالى حتى تلين قلوبهم لذكره.
المؤمنون هم أصحاب القلوب المطمئنة اللَّينة، وغيرهم أصحاب القلوب القاسية، وقد قست قلوبهم لكثرة الذنوب، وأيُّ ذنبٍ أعظمُ من الإعراض عن إمام الزمان، الذي بيُمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.
تَلينُ قلوب الشيعة لذكر الله تعالى، ثمَّ تلين لما وقع على آل محمد، بل تحترق جزعاً عليهم، فيترحم عليهم الإمام الصادق عليه السلام ويخاطب ربه قائلاً: وَارْحَمْ تِلْكَ القُلُوبَ الَّتِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا(45).
جَزِعَ الشيعة على آل محمد كجزعهم على أنفسهم بل أشدّ، واحترقت قلوبهم ألماً لما جرى على العترة الطاهرة، فأحياها الله تعالى برحمته، وأنارها بنور محمَّدٍ وآله، فصار المؤمنون من أهل القلوب الحيَّة، لمّا جمعوا بين الثقلين: كتاب الله وآل الرسول.
فالكتاب ربيع القلب، وبه جلاؤه، والإمام نور القلب، وبه حياته.
وهكذا صار الإيمان يتبدّى من أهله جلياً، حتى أن الدوانيقي سأل الصادق عليه السلام يوماً:
مَا بَالُ الرَّجُلِ مِنْ شِيعَتِكُمْ يَسْتَخْرِجُ مَا فِي جَوْفِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُعْرَفَ مَذْهَبُهُ؟
لا يأنس المخالفُ بهذا المعنى، يتعمَّدُ إخفاء ما عنده، يُخادعُ ويُنافق، وليس الشيعة أهل نفاق وخداع، فالتقية التي آمنوا بها لا تعني ذلك، بل تختص بمورد الخوف على النفس او العرض أو المال أو المؤمن الآخر، وسوى ذلك ترى المؤمن صريحاً، يُظهرُ ما يبطن، شفافاً نقيَّاً، ففي مجلسٍ واحدٍ يُخرِجُ ما في قلبه.
يجيب الإمام عليه السلام:
ذَلِكَ بِحَلَاوَةِ الإِيمَانِ فِي صُدُورِهِمْ، مِنْ حَلَاوَتِهِ يُبْدُونَهُ تَبَدِّياً(46).
هكذا تكون قلوبهم وصدورهم، ارتقت بحلاوة الإيمان، وأهلها أهل القلوب اللينة الطيبة الطاهرة النيِّرة.
المحور الثالث: عليٌّ.. قرآنٌ الله المهجور!
عن الإمام الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله جَعَلَ وَلَايَتَنَا أَهْلَ البَيْتِ قُطْبَ القُرْآنِ، وَقُطْبَ جَمِيعِ الكُتُبِ، عَلَيْهَا يَسْتَدِيرُ مُحْكَمُ القُرْآنِ، وَبِهَا نَوَّهَت الكُتُبُ، وَيَسْتَبِينُ الإِيمَانُ(47).
كلماتٌ تأسرُ الألباب، وتكشفُ عن سِرٍّ من أسرار القرآن الكريم، بحيث صارت ولاية آل محمد عليهم السلام (قُطبَه)، ويدورُ مُحكَمُ القرآن حولها!
إنَّ القُطبَ هو الأمر الذي يدلُّ على الجمع أو الاجتماع، لذا قيلَ (قُطب الرَّحَى) لما يَجمَعُ أمرَها وتدورُ حولَه، ويقال قطبُ القوم لسيِّدِهم الذي يلوذون به.
والولاية لآل محمدٍ هي قُطبُ القرآن والتوراة والإنجيل وسائر كتب السماء معاً.. فكيف ذلك؟
قَد يُفسَّرُ ذلك، أو يُلازمه ما دلَّ على أنَّ إكمال الدين إنما تمَّ بالولاية، فهي التي تَجمَعُ وتختزلُ أحكام الشريعة، وهي التي أخذ الله تعالى بها المواثيق على الأنبياء ليقرُّوا بها، ثم يبشِّروا بها أقوامهم ويأمروهم بتصديقها.
وما دلَّ على أن القرآن بِهِم تُعرَفُ متشابهاته، وتُستجلى غوامضه، ويُكشفُ عن بطونه..
وقد تتضمن إشارة إلى أنَّ ما دلَّ على ولايتهم من القرآن هو آياتٌ محكماتٌ لا تحتمل اللبس والتأويل.. بلغت الغاية من الوضوح وإن لم تُذكر أسماؤهم عليهم السلام فيه.
أو أن التارك لإمامتهم تاركٌ للقرآن فعلاً، لأنَّ القرآن بمحكماته يأمر باتِّباعهم، فغير المتَّبِع لهم غير متَّبعٍ للقرآن، فيدور الإيمانُ بالقرآن مدارَ ولايتهم وتصديقهم واتِّباعهم..
وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ الله (ص) أَنْ يُقْتَدَى بِالقُرْآنِ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، الثَّقَلَ الأَكْبَرَ، وَالثَّقَلَ الأَصْغَرَ.
فَأَمَّا الأَكْبَرُ فَكِتَابُ رَبِّي.
وَأَمَّا الأَصْغَرُ فَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمَا، فَلَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا(48).
فكان القرآن والعترةُ باباً للهدى فتحه الله تعالى لخلقه، وأرشدهم إلى لزوم اتِّباعه، لينالوا بذلك المعالي في الدُّنيا والآخرة.
لكنَّ المؤمنَ يتعجَّبُ من كثرة الناس الذين لم يستنيروا بنور القرآن الكريم، ولم يتَّبعوا آل محمدٍ (ص)، أنوار الله تعالى في أرضه وسمائه.
فيخالُ بعضُ الأحبَّة أن العيبَ في العلماء، حمَلَةِ رسالة الأئمة عليهم السلام إلى الناس، ويبالغ ويغالي بعضهم حتى يقول: لو كان هؤلاء العلماء قد أحكموا علومَهم، وأصلحوا أنفسهم، ونشروا تراثَ آل محمدٍ عليهم السلام كما ينبغي لاتَّبَعَهم الناس.. ولكنهم أهل القصور والتقصير!
حتى أنَّ من المؤمنين من يتحامل على أهل العلم ويُحَمِّلُهم مسؤولية كلِّ انحرافٍ وخطأ ورِدَّةٍ في المجتمع.
وأهلُ العِلم وإن كانوا لا يُخرجون أنفسهم من حدِّ التقصير كما هو حال كلِّ مؤمن، إلا أنهم لا يتحمَّلون المسؤولية في كفر الكافرين.
فإنَّ الناس على قسمين:
1. أهلُ الحق، أو الذين يطلبونه، وهم الذين يستنيرون بنور القرآن الكريم، حين فتحوا له عقولهم وقلوبهم فاستفادوا منه.
2. أهلُ الشِّقاق والنفاق، الذين لا يطلبون الحق، وما صار هؤلاء من أهل الهداية بالقرآن ولا بالعترة، بل ازدادوا نفوراً وطغياناً وكفراً ورجساً!
والقسم الثاني لا يُريد الهداية مهما رأى من آيات الله تعالى، ومنهم من قال عنه تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَك﴾(49).
وهؤلاء ليسوا ممَّن يُرتجى منهم خير.. ولقد ظهر من آيات الكتاب ما يُبرزُ موقفَ هؤلاء ونظرائهم من القرآن الكريم والعترة الطاهرة ويُبيِّنُ حقيقتهم، فَهُم: أهل النفور من القرآن الكريم، والجحود للعترة الطاهرة.
1. النفور من القرآن الكريم
أما القرآن الكريم، فقد قال تعالى عنهم:
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾(50).
إنَّ الغرض من إنزال الله تعالى للكتاب هو التذكير، والعود إلى الله عز وجل، لكنَّ هؤلاء يزدادون نفوراً!
وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَساراً﴾(51).
والغرضُ أيضاً هو الشفاء والرحمة، شفاءٌ للنفوس والأبدان، ورحمةٌ إلهيةٌ عميمةٌ للمؤمنين، لكنَّ الظالمين جحدوا فكانت خسارتهم أعظم.
وقال تعالى:
﴿وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إيماناً فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ﴾(52). أي شكاً إلى شكِّهم(53).
فالآيات الكريمةُ لا يتأتى منها إلا الهدى والإيمان، لكنَّ الجاحدَ يزداد كُفراً كلَّما نزلت آيةٌ جديدةٌ وكان بها من الكافرين.
ومن شَكَّ يزداد شكاً، ومَن نفرَ يزداد نفوراً..
وهكذا يزداد أصحاب القلوب المريضة مَرَضاً كلَّما أنزل الله تعالى سورةً، فأيُّ معادلةٍ غريبةٍ هذه؟
الله تعالى ينزل آياتٍ للهداية، فيزداد المرضى مَرَضاً!
لا يتوهَّمَنَّ متوهِّمٌ أن الآية نفسها أمرَضَتهُم، بل لا يتأتى من الآية إلا الهدى، لكنَّ جحودَهم لها أو شكَّهم وكفرَهم بها (وهو مِن أفعالهم) أدى بهم إلى أن يزدادوا عن الله بُعداً كلَّما أنزل عليهم آية!
قال تعالى عن القرآن الكريم:
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾(54).
وورد في الدعاء عن لسان الإمام الصادق عليه السلام في القرآن الكريم:
اللهمَّ وَكَمَا أَنْزَلْتَهُ شِفَاءً لِأَوْلِيَائِكَ، وَشَقَاءً عَلَى أَعْدَائِكَ، وَعَمًى عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِكَ، وَنُوراً لِأَهْلِ طَاعَتِكَ، اللهمَّ فَاجْعَلْهُ لَنَا حِصْناً مِنْ عَذَابِك(55).
إنَّ على العبد أن يفتحَ قلبَه للقرآن الكريم، ويستعدَّ لتلقي الإيمان والرحمة الإلهية، فيصير الكتاب له نوراً وحِرزاً ودليلاً.
أمّا إن كان من أهل الشكِّ أو الجحود أو المعصية، ووطَّنَ نفسه على المعاندة، فإنَّه يعمى عن آيات الكتاب الكريم، ولا يهتدي إلى اتباعها سبيلاً.. فيزداد عن الله بُعداً كُلَّمَا توالَت وتَتَالَت آيات السماء.
2. الكفر بالعترة الطاهرة
إنَّ مما يلفت العاقلَ هو أنَّ موقف أهل الشكِّ والكفر والنفاق والمعاصي كان واحداً تجاه القرآن الكريم، وتجاه العترة الطاهرة.
فإنَّ مَن ازداد من القرآن نفوراً ازداد بالعترة الطاهرة كفراً!
والسبب هو السبب، فهو لا يريد الإيمان، وكلَّما أنزل الله تعالى آية ازداد رجساً، فكيف بأعظم آيات الله: عليٍّ وآله الأطهار.
قال تعالى:
﴿قُلْ يا أَهْلَ الكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزيدَنَّ كَثيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكافِرينَ﴾(56).
وفسَّرَها الباقر عليه السلام بقوله: هِيَ وَلَايَةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع)(57).
فكلُّ من كفر بالولاية كان من أهل هذه الآية، يستوي في الانضمام لمصاديقها الملحدون والكافرون والمشركون والمخالفون، وأشدُّهم أعداءُ آل محمدٍ من الأوائل، وبنو أميَّة، ومن سار على نهجهم.
وقد كان لهؤلاء موقفٌ واضحٌ من ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، فما إن نزل أمرُ الله تعالى بها حتى ازدادوا طُغياناً وكُفراً.
وههنا يُلاحَظُ أنَّ ما فعلوه مع القرآن والعترة فعلوه مع سائر أنبياء الله تعالى، فهذا نوح عليه السلام:
﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً وَنَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلاَّ فِراراً * وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً﴾(58).
فازدادوا فراراً منه كلما دعاهم ليلاً بعد نهار، وقد بذل غاية مجهوده قَرناً بعد قرنٍ، وما كان عليه السلام مقصِّراً، لكنَّهم أصرّوا واستكبروا، ولا ينفعُ مع الإصرار دليلٌ ولا بُرهان.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾(59).
لقد أنذرَ الله تعالى عبادَه، فجاءهم الأنبياء والرسل بأمره عزّ وجل، فازدادوا نفوراً وكفراً، حتى وصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فما تغيَّرت سيرتهم، ثم من بعده ساروا على نفس النهج فكفروا بوصيَّيه: بعليٍّ عليه السلام، والقرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً * لَقَدْ أَضَلَّني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَني وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً * وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً﴾(60).
لقد أعرَضَ قومُ النبيِّ صلى الله عليه وآله عن الكتاب.. لقد ضلُّوا عن (الذِّكر)، وهجروا (القرآن). فصار كتاب الله المنزل خلفَ ظهورهم.. ثمَّ تلاه الكتاب الناطق!
ولقد فسَّر الباقر عليه السلام (الذِّكر) الذي عنه ضلوا ب (الولَايَةَ)(61)، وفي حديثٍ آخر عن الباقر والصادق عليهما السلام حول الذِّكر قالا عليهما السلام: يعني علياً (عليه السلام)(62).
وقد سبقهم أميرُ المؤمنين عليه السلام إلى ذلك حين قال: فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْهُ ضَلَّ.. وَالقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاهُ هَجَرَ(63).
وهكذا أعرضت الأمّة عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام من يومها الأول إلى هذا اليوم.. والولاية هي قطب القرآن، بها يستبين الإيمان، فلا بالقرآن عملوا، ولا بالإيمان تمسَّكوا، فحقَّ على أكثرهم العذاب حقاً.
لكنَّ هنا مفارقةً في غاية الأهميَّة:
وهي أنَّ القوم منذ اليوم الأول ضَيَّعوا الثقل الأصغر تماماً، فغيَّبوه ظاهراً وباطناً.
وحافظوا على الثقل الأكبر ظاهراً، وإن ضيَّعوا حدوده.. واكتفوا بحفظ حروفه، وأكثروا من استماعها وقراءتها دون فَهمٍ وتدبُّر.
فمنذ أيام الإسلام الأولى ظلَّ القرآن مَتلُوَّاً، غير معمول فيه، أما آل محمدٍ فغُيِّبَ اسمُهم ونهجهم معاً، إلا بمقدارٍ عجزت الأمَّة عن تغييبه، لتظلَّ حجَّة الله تامَّة.
لكن.. هناك مرحلةٌ قبل مجيء أمر آل محمد عليهم السلام، أي قبل ظهور الإمام صاحب العصر والزمان، حين يموت الحقُّ ويذهب أهلُه، ويشمل الجورُ البلاد، وتتغيَّر المعالم، حتى يحين وقتُ اختلاف الأمَّة مع القرآن حتى في الظاهر، يقول الصادق عليه السلام عن ذلك الزمان: وَرَأَيْتَ القُرْآنَ قَدْ ثَقُلَ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاعُهُ!
وَخَفَّ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاع البَاطِل! ..
القرآن رمزُ الحقِّ يصيرُ ثقيلاً حينها!
وكلُّ باطل يصيرُ استماعُهُ خفيفاً سهلاً يسيراً!
يعتادُ الناس على الباطل ويألفوه، فيصير كلام الله تعالى ثقيلاً حتى في الاستماع، فضلاً عن العمل!
فماذا يفعل المؤمن في ذلك الزمن؟
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ، وَاطْلُبْ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ النَّجَاةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي سَخَطِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُهُمْ لِأَمْرٍ يُرَادُ بِهِمْ!(64).
يحذر المؤمن ويخشى من أن يقع من حيث لا يشعر، فيُشرِك هؤلاء في الإعراض عن آيات الله، أو يرضى بفعالهم.
بهذا تبيَّن أن ولاية آل محمدٍ عليهم السلام هي قطب القرآن، وعليها يدورُ رحى مُحكماته، وأنَّ من لم يؤمن بولايتهم عليهم السلام واتَّخَذَ كتاب الله الناطق مهجوراً فهو لم يؤمن بالقرآن حقاً.
وأنَّ أهل النفاق يزدادون نفوراً وكفراً وطغياناً كلَّما نزلت عليهم آيات الله، وهذا كان حالهم مع ما أتى به الأنبياء والأوصياء، ومع القرآن الكريم.
لذا عَلِمَ المؤمنُ أنَّ هؤلاء ليسوا ممَّن يُرتجى منهم الخَير، فأعرض عنهم.
ثمَّ لم يتألّم المؤمن بعد ذلك على ما أصابهم، وقد قال تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾(65).
يعمل المؤمن بتكليفه، وقد قال الإمام: لَا عَلَيْكَ إِنْ آنَسْتَ مِنْ أَحَدٍ خَيْراً أَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ نَبْذاً(66). فإن قَبِلَهُ بقبول الحق اهتدى، وإلا كان ممَّن تَعَمَّدَ هُجران القرآن الناطق، عليّ عليه السلام.. أعظم مظلومٍ في هذه الأمة.
المحور الرابع: عليٌّ.. تَرجُمَان القرآن
يؤمنُ المسلمون جميعاً بأنَّ في القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فقد قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(67).
ويعتقدون أنَّه كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لكنَّهم يواجهون جملةً من الأسئلة التي تحتاجُ إلى جواب، وكلُّ جوابٍ عليها يستدعي سؤالاً آخر..
1. أين علوم القرآن؟ وما هي؟
نبدأ مع سؤال سائلٍ يقول:
كيف يحوي القرآن الكريم الذي بين أيدينا (كَلَّ شيء)؟
ونحن نرى كثيراً من العلوم غائبةً عنا.. ونجزم أنَّ ما لا يُحصى كثرةً منها ظلَّ مجهولَ الحال والمآل لدينا، وهذا ثابتٌ بالوجدان.. فَمِنَ الجَليِّ إذاً أنَّ الكتاب المجموع بين الدَّفتين لا يحوي كل العلوم، فكيف ذلك؟!
إنَّ أصحابَ الأئمة عليهم السلام كانوا يسألونهم عن تفسير القرآن الكريم، وكانوا عليهم السلام يجيبون في الآية الواحدة بتفاسير عدة، ولمّا سئل الباقر عليه السلام عن ذلك أجاب بقوله:
يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً، وَلِلْبَطْنِ بَطْناً، وَلَهُ ظَهْرٌ، وَلِلظَّهْرِ ظَهْرٌ.. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوه(68).
دَلَّ هذا النصُّ الشريف على أنَّ للقرآن الكريم وجوهاً متكثِّرَة، وكَشَفَ نَصٌّ آخر أنَّ وجوه القرآن لا تُحصى، فعن الصادق عليه السلام: وَإِنَّمَا الِاسْمُ الوَاحِدُ فِي وُجُوهٍ لَا تُحْصَى(69).
وعدمُ إحصاء هذه الوجوه يتناسب وشمولها لكلِّ العلوم، فقد أودَعَ اللهُ تعالى كلَّ علوم السماء والأرض في الكتاب العزيز، ولكن على نَحوٍ خاصٍّ لا يُدرِكُه كلُّ أحد.
وقد بيَّن الإمام الصادق عليه السلام ما يضمُّ القرآن فقال: فِيهِ بَدْءُ الخَلْقِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، وَخَبَرُ الجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ، وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ(70).
فإنَّ ما غابَ في السماء والأرض، وما كان وما يكون من أحداثٍ، مخزونٌ في الكتاب.
وقد تضمَّن القرآن الكريم كلَّ علمٍ يحتاجه الناس إلى آخر الدَّهر.. فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِي القُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى وَالله مَا تَرَكَ الله شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادُ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي القُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَهُ الله فِيهِ(71).
غايةُ الأمر، إنَّ إيداعَهُ في الكتاب لم يكن على نَحو النصِّ الجليِّ الظاهر كي يتمكَّنَ كلُّ أحد من الوصول إليه.
فعن الصادق عليه السلام: مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ(72).
وعن الباقر عليه السلام: يَا جَابِرُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ(73).
دلَّت هذه الروايات على أنَّ العلوم الواسعة التي لا تُحصى كثرةً موجودةٌ في القرآن الكريم حقاً، لكن لا يمكن لأيِّ أحدٍ اكتِنَاهُهَا، فهي ليست من النصوص الواضحة الجليَّة، ولا من الظواهر، بل هي معانٍ يستبطِنها النصُّ على هيئة خاصٍة أرادها الله تعالى، وما لم يكن الإنسان مُعَلَّماً من قبل الله تعالى على آلية الاستخراج منه، لم يكن له أن يبلغ ذلك بعقله.
بل إنَّ الإخبار عن هذه العلوم وكشفها يكون مدعاةً للتَّعَجُّب عند ظهورها، كما في الحديث عن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ الصَّادِقَ النَّازِلَ فِيهِ خَبَرُكُمْ وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَخَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، فَلَوْ أَتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ لَعَجِبْتُمْ(74).
أي أنَّ كشفَ هذه العلوم للناس يدعوهم للعَجَب، إما لعظمة هذه العلوم وكثرتها، أو لخفاء آلية استخراجها عندهم واختصاصها بمَن يُخبرُهم بها.
ثمَّ ينقلنا هذا الحديث إلى السؤال الثاني..
2. من هو الكاشف لعلوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن كلَّ شيءٍ مخزونٌ في القرآن فعلاً، ولكن لا سبيل للعقول إلى معرفة كلّ تلك العلوم، تنقدح في البال أسئلة أخرى.
ومن أهمِّها: كيف يمكن معرفة تلك العلوم؟ وما السبيل إلى بلوغها والاستفادة منها؟
يقول أميرُ المؤمنين عليه السلام في نهجه:
هذَا القُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ(75).
فمَن هو تَرجُمان القرآن؟
إنَّهُ عَليُّ بن أبي طالب بلا ريب، وما ادُّعِيَت هذه المنقبة عند عموم المسلمين لأحدٍ بعد النبي (ص) بحقٍّ سواه عليه السلام والأئمة من ذريته عليهم السلام. فإنَّ أحداً غيره لا يقدر أن يثبت إحاطته بما في الكتاب من علومٍ وأنه ترجمانه.
والمخالف الذي يعجز كما نعجز عن (استخراج كلِّ شيء) من القرآن الكريم، يَحارُ في تفسير هذه الآية، ويتخبَّط يميناً وشمالاً، حتى يزعم بعضهم أنَّ القرآن يتضمَّن بيانَ كلِّ شيء لدلالته على حجيَّة القياس! الذي به تُعلَمُ الأحكامُ عندهم! فتُنسَب حينها للقرآن!(76).
أما الشيعة، فإنَّهم علموا أن هذا الاستخراج مقصورٌ على من علَّمه الله تعالى ذلك، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ومن بعده الإمام المعصوم.
وهذا الباقر عليه السلام يقول:
مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إِلَّا كَذَّابٌ، وَمَا جَمَعَهُ وَحَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ الله تَعَالَى إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)، وَالأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ (ع)(77).
فهم الذين عندهم علم الكتاب كلُّه دون سواهم: وَالله عِنْدَنَا عِلْمُ الكِتَابِ كُلُّهُ(78).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع): مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ غَيْرُ الأَوْصِيَاءِ(79).
وليس يطَّلع على كل حقائقه أحدٌ إلا أهل البيت كما في الحديث: لَا يَنَالُهُ كُلَّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ، إِيَّانَا عَنَى، نَحْنُ الَّذِينَ أَذْهَبَ الله عَنَّا الرِّجْسَ وَطَهَّرَنَا تَطْهِيرا(80).
وقد قال النبي (ص): لَا يُوَضِّحُ لَكُمْ تَفْسِيرَهُ إِلَّا الَّذِي أَنَا آخِذٌ بِيَدِهِ.. وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(81).
ومن الجليِّ أنه لا تنافي بين احتوائه على كل شيء، وبين احتياج الناس للمُبَيِّن، وعدم قدرتهم على استخراج كل ما فيه رغم وجوده.
3. لماذا أخفى الله بعض علوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن القرآن حاوٍ لكلِّ العلوم، وأنَّه بعيدٌ عن عقول الرجال.. وأنَّ معرفة هذه العلوم مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام.
وإذا تبيَّنَ أنَّ القرآن ليس على نمطٍ واحد، بل يتضمن المحكمات والمتشابهات: ﴿هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهات﴾(82).
تنقدح تساؤلات عدة:
لماذا خصَّصَ الله سبحانه وتعالى علم القرآن بأكمله بالمعصومين عليهم السلام؟ ولَم يُشرِك معهم الخلق في ذلك؟ ثمَّ لماذا جعل الله سبحانه وتعالى في القرآن متشابهات؟
أليس في هذين الأمرين إخفاءٌ لما ينبغي إظهاره بحسب الظاهر؟ فما السرُّ في ذلك؟
إنَّ لوجود المتشابه في القرآن، وإخفاء الأسرار فيه على نحوٍ لا يدركه كلُّ أحد وجوهاً شتى منها:
الوجه الأول: امتحان العباد
لقد أشار القرآن الكريم إلى سبب احتوائه على محكمٍ ومتشابه، حين قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾(83).
إنَّ الله تعالى عالمٌ بأنَّ المتشابه يفتحُ باباً لمن في قلوبهم زيغٌ، رغم ذلك ضَمَّنَ كتابه المتشابهات، استكمالاً لامتحان العباد..
إنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يُنزِلَ قرآناً مقصوراً على محكماتٍ لا تحتملُ وجوهاً، ولا يمكن حملُها على أكثر من معنى، ولكنَّ هذا يغلق أبواب اختبار الخلق من هذه الجهة.. ويصير الإمتحان مقصوراً على قبول النص وَرَدِّه.
ولكنَّ الله تعالى أراد زيادةً في امتحان العباد، ففتح عزَّ وجل هذا الباب، وامتحنهم بالمحكم والمتشابه، حين أمرهم بالإيمان بهما معاً، والعمل بأولهما دون الآخر.
روي عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ القُرْآنَ فِيهِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ:
فَأَمَّا المُحْكَمُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، فَنَعْمَلُ بِهِ وَنَدِينُ بِهِ.
وَأَمَّا المُتَشَابِهُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِهِ(84).
كيف لا نعملُ بالمتشابه؟
لا نعمل بما دلَّ عليه دلالةً بدويَّة، بل نَرُدُّه إلى المحكم، فنكون قد عملنا بالمحكم لا بالمتشابه.. أو نفسِّرُهُ بناءً على المحكم إن كان مُجملاً.
وقاعدة الامتحان هذه ليست عزيزة، بل هي قاعدةٌ سيّالةٌ تجري في سائر ما ابتلى الله به عباده.
إنَّ الأنبياءُ لم يكونوا أهل غلبةٍ دائمة، ولا أصحاب مالٍ لا ينفد، رغم سَعَةِ قدرة الله تعالى، ورغم أن لا حدَّ لسلطانه تعالى، وأن ليس في ساحته عزَّ وجل بُخلٌ على أنبيائه.. حاشاه ربنا عزَّ وجل.
ولكن.. لو كان الله تعالى قد فتح للأنبياء خزائنه، لتعجَّبَ الناس من قدرتهم ومما أعطاهم، ولسهُل عليهم الانقياد لهم لعظيم ما عندهم.
لكنَّه تعالى يريد أن يمتحن العباد، ويريد أن تكون طاعتهم خالصةً له، لا لأجل ما أعطى الأنبياء، لذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
وَلَكِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالخُشُوعُ لِوَجْهِهِ.. أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ.
تكشف هذه العبارة من الحديث (يَكُونَ.. التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ) أنَّ الله تعالى أراد من العباد أن يصدِّقُوا كتابه لأنَّه كتابُه، لا لشيء آخر!
أي أنَّ عليهم الإيمان به سواءٌ تضمَّنَ متشابهاً أم لم يتضمَّن، لا أن يؤمنوا به لأنَّه محكمٌ فقط.
وقد فتح الله لهم باباً للتصديق من طريق إعجاز الكتاب، ثم اختبرهم بتضمينه المتشابه إتماماً للاختبار لهم.
وَكُلَّمَا كَانَتِ البَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَالجَزَاءُ أَجْزَلَ(85).
هي رحمةٌ من الله تعالى إذاً بالعباد، فإنَّ الثواب يتناسبُ مع الامتحان صعوبةً وسهولةً، وكلَّما اشتدَّ الامتحان والاختبار عَظُم الثواب والجزاء، فيكون في اختبار الله تعالى للعبادِ نوعُ رحمةٍ وتفضُّلٍ منه عزَّ وجل، بحيث يفتح لهم أبواباً أوسع لنيل الثواب والجزاء الطَّيِب.
ومن نماذج ذلك أيضاً امتحانُ الله تعالى للخلق بالحج الى بيتٍ صُنِعَ من أحجارٍ، كما الأصنام التي أُمِروا بهَدمها.. ثم جعله الله في أوعر البقاع، وأمَرَهُم بالتذلُّل له عند البيت في عبادةٍ من نوعٍ خاص، وكان تعالى قادراً على أن يمتحنهم بالحجِّ إلى بَيتٍ عظيمٍ من زمرد وياقوت ونور، ولو فعل، يقول الإمام:
لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ القُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ:
نعم لو شاء الله تعالى أن لا يُبقي شكّاً في النفوس لفعل، ولأعدَمَ كلِّ ما يدعو للريبة، ويَصعُب على القلوب تقبُّلُ أمره.. لكنَّ ذلك يتنافى مع إرادة الله اختبار عباده.. وهو ما فيه خيرُهم وصلاحُهم.
وَلَكِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَبِرُ عَبِيدَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ.. ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾(86).
إنَّ الله تعالى عالمٌ بما كان وما يكون، لكنَّ حكمته اقتضت أن يختبر الناس فعلاً، فتظهر حقائق العِباد بأعمالهم، ويتبين المطيع والعاصي، فيستحق بذلك كلٌّ منهما جزاءه.
الوجه الثاني: الرجوع إلى أبواب الله
على أنَّ هناك وجهاً آخر لِتَضَمُّن الكتاب المتشابهات، وعدم تمكُّن عموم الناس من استخراج كلِّ العلوم منه، واحتياجهم إلى من يكشف لهم بطونه.
والوجه هو التدليل على هؤلاء الذين عَلَّمَهم البطون.
فإنَّ الله تعالى جعل أشخاصاً بأعينهم أبواباً له، وطُرُقاً تدلُّ عليه، وترشد إليه، وأمرَ باتِّباعهم، ثم أنزلَ كتاباً فيه المحكم والمتشابه، فصار المتشابَه خَفياً على الناس، فاحتاجوا إلى أبواب الله، وأُمِرُوا بالرجوع إليهم.
قال الإمام عليه السلام:
إِنَّمَا القُرْآنُ أَمْثَالٌ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلِقَوْمٍ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَهُ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ، فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ مَذَاهِبِ قُلُوبِهِمْ:
إن لم يتمكن عبدٌ من تمييز المتشابه عن المحكم، وَرَدِّهِ إليه، وقع في عظيم البلاء: (فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ)، وسقطَ في الامتحان، لأنَّ فهم هذا القرآن يحتاج إلى مفاتيح وأدلة، وهي عندَهم دون سواهم، فلا بدَّ من العَود إليهم.
وهكذا أنزل الله تعالى آياتٍ متشابهات كي يعرف الناس أبواب الله وأدلائه فيرجعوا إليهم، يقول عليه السلام:
وَإِنَّمَا أَرَادَ الله بِتَعْمِيَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى بَابِهِ وَصِرَاطِهِ:
هنا بيتُ القصيد، الله تعالى أنزلَ كتاباً بيد النبي (ص)، ثم أمر الأمة باتباعه، ثم اتباع الأوصياء من بعده، وجعلهم تراجمة وحيه، وكان السرُّ في (تَعمِيَتِهِ) أي عدم جعل كلِّ علومه واضحةً جليَّةً لكلِّ أحد، أن يستدل الناس بذلك على الأئمة المعصومين المطهَّرين.
إنَّ مَن آمن بأنَّ الكتاب معجزةُ الله لعباده، ثمَّ نظر فيه، فوجده يُصَرِّحُ باحتوائه على تبيان كلّ شيء، ثم نظر فيه بعقله وقلبه فعجز عن استخراج كلِّ ما يحتاج إليه، لا بد أن يبحث عمَّن أودعهم الله علومه، وهم الأئمة عليهم السلام حصراً.. إذ لم يُدَّع لأحدٍ من الخلق سواهم مثل هذه المرتبة، إلا حفنة من الكذابين الذين يظهر بطلان دعواهم جلياً بأدنى تأمل.
أراد الله إذاً بتعميته على عباده أن:
يَنْتَهُوا فِي قَوْلِهِ إِلَى طَاعَةِ القُوَّامِ بِكِتَابِهِ، وَالنَّاطِقِينَ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَسْتَنْطِقُوا مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ:
فليس العبدُ هو المفسِّرُ لكتاب الله الصامت، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ذلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ..
فمَن جعلَ نفسَه من أهل استنطاق أسرار القرآن، وزعم أنَّه عالمٌ بكلِّ ما فيه، أو أنَّه مُستغنٍ عن (القُوَّامِ بِكِتَابِهِ).. فقد أنزل نفسه منزلتهم، وسلب الحقَّ أهله، وَضَلَّ وأضلّ.
هؤلاء قُوَّامُ الكتاب، بهم تُستجلى أحكام الله وتُعرَف، ومنهم يؤخذ الحق، وهم سادة الخلق والعباد، فمَن جعل نفسه لهم قريناً، وادَّعى منزلتهم كان منازعاً لله في سلطانه.
هم العالمون بعلوم القرآن حصراً:
فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَيْسَ يعْلَمُ ذَلِكَ أَبَداً، وَلَا يُوجَدُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الخَلْقُ كُلُّهُمْ وُلَاةَ الأَمْرِ، إِذْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَأْتَمِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْ يُبَلِّغُونَهُ أَمْرَ الله وَنَهْيَهُ(87).
إنَّ الله تعالى قادرٌ أن يُنزِلَ الوحي على كلِّ العباد، ثمَّ لا يرسل لأحدٍ رسولاً، لكنَّ البلوى بذلك تسقط، والله تعالى يريد اختبار عباده.
وليس يُعقل أن يجعلهم جميعاً ولاةً! فعلى أي أحد يكون الجميعُ ولاةً؟ وإذا كان الجميع ولاةً وكانت طاعة الوالي والوليّ واجبةً فمَن هم الذين أمروا بطاعته وكلُّ الناس ولاة؟
لذا كان مقتضى الحكمة الإلهية أن يخصَّ عز وجل الكمَّل بذلك المنصب، فجعلهم أهل علم القرآن، تفسيراً وتأويلاً، ظاهراً وباطناً، وجعلهم بابه الذين منهم يؤتى.
وصار السبب في إخفاء علوم القرآن عن كلِّ أحدٍ هو الإضطرار إلى الرجوع لآل محمد عليهم السلام، قوّام القرآن الكريم.
فما أعظمَ آل محمدٍ عليهم السلام، حيثُ كان الإرشادُ إلى ولايتهم، والتدليل عليهم، سبباً في أن يجعل الله تعالى كتابَه على ما هو عليه!
4. هل يفهم القرآن.. غير الإمام؟
إذا تبيَّنَ أنَّ تمام علوم القرآن مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام، وأنَّ الله تعالى قد أودعها لديهم ليرجع الناس إليهم.
وإذا انكشف أنه تعالى أودعَ الكتاب محكماً ومتشابهاً لامتحان الخلق بذلك، فهل يعني هذا أنَّ القرآن الكريم لا يكون حجةً مطلقاً؟ أو أنه لا يصح العمل بشيء من آياته إلا بعد العودة إلى المعصومين عليهم السلام؟
وهل يدلُّ على هذا المعنى قول الإمام الباقر عليه السلام: وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا يَعْرِفُ القُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ(88).
إنَّ الأمَّةَ كلُّها قد خوطبت بالقرآن، لكنَّها لو اجتمعت بأَسرِها سوى المعصوم ما أمكنها أن تعرف القرآن كلَّه بتمامه وكماله.
فلا جرم أن يكون المخاطب المباشِر به هو الذي يعرفه، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ثمَّ مَن نُزِّل منزلته وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام.
فهل يصير القرآن كتاباً لا يمكن العمل به إلا بعدَ العودة إلى النبيِّ والإمام عليه السلام؟ فيسقط عن الحجية بنفسه؟!
إنَّ ههنا معنىً في غاية الأهمة، وهو أن الآيات التي يجبُ الإيمان بها ولا يصحُّ العملُ بها هي المتشابهات فقط.
وليس من المتشابه ما يكونُ ظاهراً في معنى، ثمَّ لا تقوم قرينةٌ على صرفه عنه، فإنَّ هذا الظاهر مما يجبُ العملُ به بلا شكٍّ وشبهة.
أي أنَّ ظواهرَ القرآن لا بدَّ أن تكون حجَّةً بنفسها، إلا في مواردَ يقوم الدليل على لزوم صرفِها عن ظهورها.
بعبارة أخرى:
إنَّ آيات القرآن على أصناف، فمنها: النَّصُّ، والظاهرُ، والمُجمَل.
1. النَّصُّ: هو العبارةُ التي يُفهَمُ منها معنى ولا تَحتَمِلُ خلافه. ولا شك بلزوم العمل به، والنصوصُ مِنَ المحكمات التي أُمِرنَا بالعمل بها.
2. الظاهرُ: هو العبارةُ التي ظَهَرَت في معنى، لكنَّها تحتَمِلُ معنى آخر. وهنا لا يُصار إلى العدول عن الظاهر إلا بقرينة، ومَعَ فقدها لا شكّ بلزوم العمل بالظاهر.
نعم قد يكون كلامُ الإمام قرينةً على لزوم حَمل الظاهر على خلاف ظهوره، فلا يصحُّ العمل بظاهر هذه الآيات إن وُجِدَت تلك القرينة أو سواها من القرائن، أما مع بقائها على ظهورها، وعدم وجود قرينةٍ صارفةٍ لها، يكون حكمها حكم النصّ وهو لزوم العمل بها جزماً.
وقد يقال بأنَّ الظاهر الذي قامت قرينة على صرفه عن ظهوره، كان من المتشابه، وببركة القرائن عرفنا كيفية التعامل معه بردِّه إلى المحكم.
3. المجملُ: وهو من المتشابه، حتى قيل أنَّه هو المتشابه.
وفي المجمل يكون لِلَّفظ معنَيان أو أكثر، مع تساوي النسبة إلى هذه المعاني.
ويلزم النظر في القرائن التي تُعَيِّنُ المعنى المراد حقاً، ويكون ذلك عبر الآيات المحكمات، أو عبر أدلة العقل القطعي، أو عبر نصوص الأئمة المعصومين عليهم السلام.
أما ما يقال: أنَّ القرآن ليس حجَّةً أبداً! فهذا مما لا يمكن الالتزام به.
فهو وإن تَضَمَّنَ المتشابهات، إلا أنه ليس كتاباً مبهماً.
وإن كان تمام علمه عند المعصوم عليه السلام، إلا أن ما يظهر منه يكون حُجَّةً بلا شك، إلا أن تقوم القرينة على خلاف ذلك.
بل إن من زعم أن القرآن لا يمكن أن يُفهَمَ شيء منه، وأنه مُبهَمٌ غامضٌ بتمامه فقد أحال، إذ كيف يكونُ كتابٌ أنزله الله للهداية غامضاً مُبهَماً؟! وأيُّ ثمرةٍ تترتب عليه حينها؟ ولو كان كذلك لصارَ لغواً لا حاجة له بحالٍ من الأحوال!
وقد نبَّه الإمام الباقر عليه السلام لخطورة هذا الأمر حين قال:
مَنْ زَعَمَ أَنَّ كِتَابَ الله مُبْهَمٌ فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ(89).
هلك لأنَّه أسقط القرآن عن الحجية، فلم يعد يصح الاستدلال به بحال.. وبهذا لا يبقى حجرٌ على حجر.
وكيف يسقط وقد جعله الأئمة دليلاً لهم على مَن خاصمهم، وقد استدلَّت به الزهراء عليها السلام على من سلبها حقها.
لقد استدلوا بمحكماته لا بمتشابهاته، بل أمروا بعرض رواياتهم المشكوك بأمرها على القرآن، أي على محكمات القرآن الكريم، وَرَدِّ ما عارضه معارضةً مستقرَّة، فإنَّهم لا يخالفونه ولا يخالفهم.
وكما أن القرآن يوافق بعضه بعضاً، ولا يخالف شيءٌ منه شيئاً آخر، كذلك كلامُهم كُلُّه مُتَّسِقٌ لا يختلف، ولا يُخالفُ القرآنَ بحال.
ثمَّ إنَّ النصوص صريحةٌ في حرمة مخالفة ما في ظهر القرآن وبطنه، فيكون الظاهر والباطن حجَّة معاً.. والظاهر يعرفه كلُّ أحد، والبطنُ يكشفه الإمام عليه السلام، فعنهم عليهم السلام:
وَإِيَّاكُمْ وَالإِصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ الله فِي ظَهْرِ القُرْآنِ وَبَطْنِه(90).
وصفوة القول..
أنَّ القرآن الكريم حجةٌ في ظواهره وبطونه، وفي تنزيله وتأويله.
ولا مجال لِرَدِّ الظواهر والكُفر بها لأنه يعني سقوط القرآن عن الحجية.
وقد قال أَبُو عَبْدِ الله (ع):
1. إِنَّ قَوْماً آمَنُوا بِالظَّاهِرِ وَكَفَرُوا بِالبَاطِنِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْءٌ.
2. وَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ فَآمَنُوا بِالبَاطِنِ وَكَفَرُوا بِالظَّاهِرِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ شَيْئاً.
3. وَلَا إِيمَانَ بِظَاهِرٍ إِلَّا بِبَاطِنٍ وَلَا بِبَاطِنٍ إِلَّا بِظَاهِرٍ(91).
المؤمنون إذاً يؤمنون بظاهر القرآن وباطنه.
وظاهرُهُ ومحكماتُهُ تُرشدُ إلى المعصومين عليهم السلام، فما كشفوا لنا عن بطونه أخذنا به، وما ستروه عنا عرفنا أنَّ في إخفائه حكمةٌ بالغة.
هكذا تثبت الثنائية بين القرآن الكريم وبينهم عليهم السلام: فَعِلمُ تمام القرآن محصورٌ بهم، والقرآن يدلُّ عليهم، ويرشد إليهم، ويأمر باتِّباعهم.
ولا اتباعَ لأمر القرآن دون اتباع أمرهم، فوِلايتهم قطب القرآن، وعليها تدورُ مُحكماته.. بل إنَّ ولايتهم وإمامتهم أسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي.
جعلنا الله من أوليائهم حقاً وصدقاً، وعَجَّلَ فَرَجَ وليهم، كي ننعم ببركة الثَّقلين ظاهرَين غيرَ مُستَتِرَين، ونحتجب بهما عن الضلالة، ونسترشد بهما إلى طريق الله.
والحمد لله رب العالمين
(1) صحيح مسلم ج7 ص122 ح2408.
(2) الأمالي للطوسي ص479.
(3) بصائر الدرجات ج1 ص486.
(4) الكافي ج1 ص61.
(5) العمدة لابن بطريق ص330.
(6) نهج البلاغة الخطبة 133.
(7) نهج البلاغة الخطبة 133.
(8) الكافي ج2 ص597.
(9) نهج البلاغة الخطبة 183.
(10) معجم مقاييس اللغة ج3 ص308
(11) العين ج5 ص104.
(12) المحيط في اللغة ج5 ص328.
(13) الكافي ج1 ص169.
(14) نهج البلاغة الخطبة77.
(15) الكافي ج1 ص250.
(16) الإسراء9.
(17) الكافي ج1 ص216.
(18) الكافي ج1 ص379.
(19) الأحزاب6.
(20) الأنبياء7.
(21) الكافي ج1 ص7.
(22) كتاب سليم ج2 ص885.
(23) الكافي ج1 ص416.
(24) بصائر الدرجات ج1 ص413.
(25) الكافي ج8 ص28.
(26) الكافي ج2 ص216.
(27) الكافي ج2 ص561.
(28) الأعراف157.
(29) الكافي ج1 ص194.
(30) التغابن8.
(31) الكافي ج1 ص194.
(32) الكافي ج2 ص599.
(33) الغيبة للنعماني ص72.
(34) التوحيد للصدوق ص255.
(35) النساء82.
(36) التوحيد للصدوق ص227.
(37) التوحيد للصدوق ص265-266.
(38) نهج البلاغة ص164.
(39) نهج البلاغة الخطبة176.
(40) نهج البلاغة الخطبة 198.
(41) الكافي ج8 ص390-391.
(42) الكافي ج1 ص194.
(43) الكافي ج2 ص423.
(44) الزمر23.
(45) الكافي ج4 ص583.
(46) صفات الشيعة ص15.
(47) تفسير العياشي ج1 ص5.
(48) تفسير العياشي ج1 ص5.
(49) البقرة145.
(50) الإسراء41.
(51) الإسراء82.
(52) التوبة124-125.
(53) الباقر عليه السلام في تفسير العياشي ج2 ص118.
(54) فصلت44.
(55) الكافي ج2 ص574.
(56) المائدة68.
(57) بصائر الدرجات ج1 ص74.
(58) نوح5-7.
(59) فاطر42.
(60) الفرقان27-30.
(61) تفسير القمي ج2 ص113.
(62) البرهان ج4 ص131.
(63) الكافي ج8 ص28.
(64) الكافي ج8 ص39و42.
(65) فاطر8.
(66) المحاسن ج2 ص232.
(67) النحل89.
(68) المحاسن ج2 ص300.
(69) بصائر الدرجات ج1 ص196.
(70) الكافي ج1 ص61.
(71) الكافي ج1 ص59.
(72) الكافي ج1 ص60.
(73) المحاسن ج2 ص300.
(74) المحاسن ج1 ص267.
(75) نهج البلاغة الخطبة 125.
(76) تفسير الرازي ج20 ص99.
(77) الكافي ج1 ص228.
(78) بصائر الدرجات ج1 ص213.
(79) بصائر الدرجات ج1 ص193.
(80) كتاب سليم ج2 ص847.
(81) روضة الواعظين ج1 ص94.
(82) آل عمران7.
(83) آل عمران7.
(84) بصائر الدرجات ج1 ص203.
(85) الكافي ج4 ص199.
(86) الكافي ج4 ص200.
(87) المحاسن ج1 ص268.
(88) الكافي ج8 ص312.
(89) المحاسن ج1 ص270.
(90) الكافي ج8 ص10.
(91) بصائر الدرجات ج1 ص537.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat