صفحة الكاتب : عيسى عبد الملك

الكماّشة ...
عيسى عبد الملك

 

 في كل مرة يهرب من البيت أجده . أترك عملي وأطوف في شوارع المدينة أبحث عنه وأعثر عليه .في البدء لم أكن أسأل أحدا .كنت أخجل .صعبة وجدت المهمة ، لكني خضعت للواقع ، كذاك الذي نبت له قرنان لم تخفهما طاقية ولا قبعة .صرت استعين بدوريات الشرطة ثم بمن التقي بهم . كان يتصرف بذكاء خارق . لا يستقر في شارع ولاحي . يوسع دائرة تجواله بشكل غريب . يوهمني أحيانا أنه موجود في مكانين متباعدين في وقت واحد. .كان يلعب معي لعبة خبيثة بعناد وإصرار وتلذذ..
ــ أنا متعاطف معك لكن العمل عمل لا يحل لك راتب بلا عمل .ما تطارده شبح بزي بشر .قوى خارجية تقوده . تفرغ له. قال لي صاحب المعمل وهو يطردني . .سلمني مبلغا من المال وتمنى لي التوفيق .شكرته وخرجت حزينا .دخلت مطأطئا .وجدت أمي تبكي .عرفت أن نكبة قد حلت فقد لطمت خديها كثيرا . قالت لي الخطوط الحمراء التي حفرتها أظافرها على صفحة وجهها الحزين . 
ــ رأوه في بغداد ، قالت ثمّ.راحت تولول وتعول . كان قد اختفى منذ يومين .تعودنا ذلك . اعتاد أن يغيب أما أن يظهر في بغداد، أمر لم نفكر به .فهو لم يسافر أبعد من محيط مدينتنا .في الليل وكي تتأكد من سفري رافقتني إلى محطة القطار . .كانت بغداد تتمطى تزيح عنها ظلام ليل شتائي قارص .
ــ إلى أين ؟ قال السائق .
ــ الشماعية .
ـــ أي مكان فيها ؟.
ـــ المستشفى . نظر السائق إلى شعري الذي لم أسرحه وإلى لحيتي التي لم أحلقها حزنا على صديق مات قريبا وقال أي مستشفى ؟
ــ الأمراض العقلية..
ـــ يا فتّاح يا رزاق نستفتح بمجنون .قال ورفع زجاج النافذة .تعلقت بالباب .أقسمت أني عاقل .أخرجت تذكرة السفر .رجوته نظر السائق .بلحظات أقفر الشارع .خلا من الركاب والسيارات .مرت سيارة شرطة نجدة . دارت عيناه بيني وبين سيارة النجدة خمنت ما يريد .فرميت نفسي داخل السيارة وقلت بحزم ، حرّك .
خارج المدينة كان يقبع المستشفى .بوابته تشبه بوابة سجن قديم .يفصله عن سد ترابي تنتشر عليه أبدان سيارات قديمة وأكوام زبالة ، شارع كثير الحفر .
ـــ لا أستطيع السير أكثر .ذاك هو المستشفى ، قال السائق . في الاستعلامات سألت عن المريض . نعم موجود ، سلمني هويتك . قال لي الموظف بعد أن فتح سجلا ضخما وقلبه .سلمته الهوية . .دققها ثم قال الهوية تبقى عندنا، سر حتى نهاية ذاك الشارع .أمامك على اليسار تمتد الردهات . بباب كل ردهة ، اسأل عن مريضك أو تصفح الوجوه . .مشيت خمسين مترا .استقبلني مجنون يطلب سيجارة فاعتذرت .تبعني ثان وثالث ورابع .كانوا كثيرين لدرجة لم تخطر ببالي . كانت الحديقة واسعة مليئة بالحشائش اليابسة والأشجار الكبيرة يلوذ بها المرضى أو يتسلقونها . تنبه بعضهم لوجودي فجاء يركض نحوي. ترى كيف سأتخلص منهم ؟.من بعيد ، أقبل علي شخص أنيق بلحية فنان وابتسامة ممثل . مدّ يده مصافحا وراح يهز يدي بقوة ثم سألني عمن أبحث . 
ـــ أعرفه هذا صديقي تعال معي .قال وفرّق المتجمعين حولي. قادني عبر الردهات الكثيرة . كان بعض المجانين يحيونني والبعض يحاول التعلق بي. بعضهم يضحك وبعضهم يجهش بالبكاء وكثيرون يطلبون سيجارة بإلحاح وتوسل والرجل يطرد الجميع . ينهر بعضهم بشدة ويلين للبعض . يرد على تحيات بعضهم ويسميه باسمه . لاحظ خوفي فقال مهدئا .دعك عنهم ، إنهم مجانين لا يؤذون ومن يؤذي يتعرض للفلقة أو صعقة كهرباء مضاعفة .هنا يعطل قانون حقوق الإنسان . قانون الرحمة مجاز بقانون، علّق ضاحكا. مررنا بردهات كثيرة ومجانين ينتشرون في الحديقة وعلى دكك أبواب الردهات . لاحظت كثيرا من المجنونات .بعضهن بعمر الزهور .رحن يرسلن أشارات وعبارات ترحيب وابتسامات وبعضهن يلوذ بالأشجار خائفا . نظر إلي وقال هل أنت متزوج ؟ قلت لا فقال ما رأيك أزوجك واحدة فقط أشر على من تريد وعليّ نفقات الحفل سأجعله عرسا يدخل التأريخ. .نظرت إليه باستغراب وقلت أتزوج مجنونة ؟ فقال بهدوء الجاد ولم لا فقد تكون سبب شفائها فكثيرات منهنّ ضحايا صدمة عاطفية .نداوي المرض بالمرض .والصدمة بصدمة والحب بالحب . باستور فعل ذلك قبلنا ها ها ها.في باب ردهة وقف وقدمني لشاب عند الباب أقدم لك أخي جاء من الحلة كي يزورني .صفق الشاب وصاح عندنا ضيف . يا مرحبا يا مرحبا .تجمع نزلاء القاعة حولي .
ـــ لم لا نحتفي به أستاذ ؟ قال أحدهم مقترحا فصفق الباقون وحملوني على الأكتاف .لم استطع المقاومة فاستسلمت لأرى ما سيحدث. بعد قليل جاءني أكثرهم هدوءا بثوب فضفاض وقال أنزلوه لأخلع عليه لباس الحكمة ..في الحال جردت من ملابسي . خلع المجنون ثوبه ولبس قميصي وبنطلوني وربطة العنق والحذاء بعد أن لوى أحدهم ذراعي .كان ضخم الجثة ساعده آخر فرضخت ، ولم أعد أصرخ طالبا النجدة . من يدخل قاعتنا لا يخرج منها هذا هو شعار قاعة ابن سينا . قال الأستاذ وأمر بغلق القاعة .أمر بالهدوء وقال هل تحب الفنون الجميلة فوجهك وجه فنان .؟ يا للعجب نسخة من فان كوخ. قال وهو يمسح على أذني بإعجاب وتأمل . سأمنحك شهادة بسنتين لا أكثر فقد تخرج على يدي طلاب هم الآن مشهورين جدا .غزت لوحاتهم العالم . ولكن يا أستاذ ما جئت لأدرس بل لأبحث عن أخي وقلت أنك تعرفه ، قلت فانتفض وقال أنا أخوك فكيف تنكرني ؟. لا بأس فقد عفوت عنك يا هابيل ..
في المساء، ما أن سمعوا طرقا على الباب حتى سارعوا إلى المجنون الذي لبس ثيابي ودثروه .كانت فترة التعداد .. دخل أحدهم . من بعيد عدّ الرؤوس وخرج على عجل ومن جديد أغلق باب الردهة . أمضيت أول ليلة معهم. كانت ليلة جمعة صاخبة . في الصباح ما أن فتحت الردهة حتى تسللت إلى الحديقة الكبيرة في باحة تحتاج إلى سيارة إن أردت أن تطوف مستشفى مترامي الأطراف كمستشفى الشماعية. ما أن دخلت غرفة الاستعلامات حتى فزّ الموظف متحفزا وصاح بي عد إلى ردهتك .ولما اقتربت أكثر صرخ عد وإلّا استدعي الحراس .دفعني إلى الداخل وأغلق الباب.بلحظة جاءني حارس واقتادني وهو يقول اسم ردهتك ؟ .أخبرته ولم أكن اعلم أنها ردهة الميئوس من شفائهم والخطرين جدا..في باب الردهة استقبلني الأستاذ بهدوئه معاتبا ثم قال للحارس أعذره فقد امتهن الهروب وليست هي محاولته الأولى .لقد هرب مرة من الجبهة لم يصمد فخسرنا الحرب وخسر أذنه .أنظر لقد أتعبنا هذا المجنون بالذات .
ـــ إن حاولت مرة أخرى نقيدك وقد نضاعف صعقات الكهرباء .قال الحارس ، أما قصة هويتك فلا يوجد شخص عندنا بهذه الأوصاف كن عاقلا .رضخت من جديد وعدت للردهة ..
ـــ اسمع يا صديقي لست وحدك من هرب . لقد هربت مرارا للخارج ثم عدت يجذبني مغناطيس الوطن كقطعة حديد، فهربت للداخل . كثيرون سيفعلون مثلي ، صرخت مرة في الجامعة بوجه وزير أميّ احتجاجا فجيء بي هنا، ابق معنا كي تحتفظ بأذنك وقد تقتل بكاتم صوت في الخارج ،. قال لي الأستاذ ناصحا يا سيدي ..
وعدته أن أنشر قصته في أول طبعة للصحيفة التي أعمل فيها..عن الهوية ،ربما سلمها لمجنون كان صدفة هنا. يحدث أن نستعين ببعضهم في بعض الأعمال ، وأنت تنشر المقابلة ، لا تنس أن مريضك مصاب بانفصام الشخصية .قال لي مسئول استعلامات المستشفى مودعا ورافضا ذكر اسمه ...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عيسى عبد الملك
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/14



كتابة تعليق لموضوع : الكماّشة ...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net