العملية التعليمية والانضباط السلوكي.. مع أم ضد؟
نبيل نعمه الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نبيل نعمه الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لقد تمّ التنظير للعملية التربوية ومناهج التدريس والطرق المتبعة من أجل إحداث نقلة نوعية ترمي في المحصلة إلى إحداث تكامل منهجي في العملية برمتها، بحيث لم يُخيل للمرء أن المنظرين تركوا جانباً من جوانبها إلا وأفاضوا فيه؛ وعلى كل المستويات النظرية، والتطبيقية، والتحليلية... رغم ذلك، تبقى هنالك جوانب طرأت وما زالت تطرأ على العملية التربوية، بحاجة إلى الكثير مما لم يُقَل، خصوصاً وما يتعلق بالأهداف السلوكية؛ فالتغيرات السريعة التي طرأت على القيم المجتمعية، نتيجة التقدم العلمي والتكنلوجي والتقني، فرضت تغييراً موازياً للأهداف التربوية، وجعلت من التنظيرات السابقة غير مناسبة لمطالب المجتمع الحالي وحاجاته؛ وهذا أمر يتطلب منا وقفة جادة - لا ندّعي جدّتها، بل نزعم لها الاختلاف عما كُتب من قبل - في المناقشة، والتحليل، وإعاده الصياغة لبعض الأهداف بما يتناسب والتطور الحاصل.
ومن الأمور المهمة التي سنسلّط عليها الضوء، أمر على تماس مباشر في علاقة المنهج التربوي مع الفرد والمجتمع، وهو من المشاكل التي احتدمت حولها أقدم نظريتين للتربية عرفتهما الإنسانية (التربية الأثينية والإسبارطية اليونانيتين)، وفي مجتمعين كانا يمثلان قمة التطور البنائي للفرد، حسبما يؤمن به كل من المجتمع والبيئة في وقتها... حيث كانت الأولى (الأثينية) تمثل قمة التطور المعرفي، والانسجام العاطفي والنفسي، قبالة الثانية (الإسبارطية) التي كانت تمثل قمة الاهتمام بالبناء الجسماني والعضلي... نحن اليوم نعيش عين المعضلة، بالرغم من تقادم الزمن على هاتيك المدرستين، إلا أن الأمر؛ ظلّ عينُه نعيشه من خلال الآراء التي آمن بها المنظرون في المجال التربوي.
مشكلة (الانضباط) القديمة الحديثة، عادت مرة أخرى برؤى معاصرة، ترفعه على رأس المطالبات الواجب توفرها كحلّ لمجموعة كبيرة من المشاكل الموجودة في المجتمع التربوي والتعليمي، متخذين من الانحسار والتراجع الحاصل في المجال التعليمي حجة، رغم الدعاوى التي يرفعها المناهضون للتسلط، والذين لا يرون في المؤسسة التربوية (المدرسة) كتيبةً تأديبيةً؛ تتخذ من النمط العسكري أسلوباً لصنع الحياة، كما كانت تعمل به المدرسة الإسبارطية في إعداد النشء...
بين هذين الرأيين يتمحور (الانضباط) في دائرة ايديلوجية بين القبول والرفض. لذا سنحاول دون أن نكون مع؛ أو ضد هذا المصطلح، أن ندقق قليلاً وبأسلوب علمي مهني قدر ما نستطيع، في تتبع النتائج التي نبغي أن نحدثها في العملية التربوية، ومن خلال الأسس التي وضعها مؤسسو علم النفس في التعامل مع الانضباط على أنه غاية بحد ذاته، أم أنه وسيلة تستعمل في مواطن وتترك في كثير منها؟
إن استعمال القسر والزجر واللجوء للعقوبات الجسدية التأديبية أمر عرفته المدارس العربية، منذ أن كانت المدارس عبارة عن حلقات من التلاميذ المتجمعين حول بعضهم في الجوامع ودور العبادة، إلى أن وصلت المدرسة ما وصلته حالياً من رقي معرفي وعلمي، بعدها أصبح المفهوم قاراً في أذهان بعض المعلمين والمتعلمين، على انه رفض إنصياع للنظام، وبهذا يكون وسيلة لضبط الاشتغال الأمثل للمؤسسة التربوية (المدرسة)، وهذا ما أكد عليه المربي (ميشيل فوكو) في كتاب الرقابة والعقاب، من أن الانضباط له وظيفة زجرية وقسرية، وأنه يستعمل على المستوى الدلالي ممنوعات وواجبات، ليصل في النهاية إلى كلمة مفادها (إن الانضباط مبدأ لمراقبة إنتاج الخطاب). بينما يرى آخرون ضرورة أن يكون الانضباط مشروطاً بإخفاء طابعه الإلزامي المتسلط لفرد واحد على حساب المجموع، ليكون كل فرد من أفراد الجماعة، مسؤولاً وممثلاً للنظام الانضباطي الجماعي.
يتضح هنا أن الغاية المثلى لا تنفي الانضباط، وإنما تسهم في أن تجعل المؤسسة مكلفةً بمراقبة تنظيمية مع عدم الاكتفاء باحترامه، حتى لا يؤدي الانضباط إلى ترسيخ نظام يحيل العالم الى سجن؛ هنا لن يكون الانضباط غاية بحد ذاته، لأنه لا يعدو أن يكون محوراً لضبط الاشتغال الأمثل للمؤسسة التعليمية (المدرسة).
فيما يذهب أصحاب الرأي الثالث القائل بضرورة التعليم الايجابي، والقائم في أساسه على تهذيب العقل قبل تهذيب الجسد، وهو بالحقيقة تمثيل حقيقي للمنهج المتبع في المدرسة الأثينية، التي أولت نقل المعارف والفنون لأجل خلق تعليم إيجابي يهتم بالفرد ككيان وكتلة سلوكية يجب مراعاتها، فالمواد الدراسية المشكلة للتكوين الايجابي، تسهم في تكوين الأفراد تربوياً، إذ لا مجال لاستعمال العنف أو الزجر أو التهديد أو الوعيد... وهنا يكون الانضباط غاية لم يمكن الوصول إليها، إلا بعد أن يتم امداد الفرد بالعلوم والمعرفة التي ستؤهله مستقبلاً لاحترامه كخصيصة، ونظام خارج المجال التعليمي.
خلاصة القول في ما مرّ ذكره من تفصيل للآراء العلمية، سنقف قليلاً عند كلمة قالها المربي (ميشيل فوكو) حينما أعطى للانضباط تعريفاً يتناسب مع مقتضيات العملية التربوية، فيما يخص الثواب والعقاب: (إن الانضباط تقنية وليس جهازاً)، وإن استعمال العقل في صنع العقول، هو مطلب تربوي أكدت عليه الأديان السماوية ومنها ديننا الاسلامي، وما صدر من الشريعة الاسلامية ممكن أن يكون منهجاً متكاملاً في طريق التعامل فيها مع الطفل في هذه السن. على المربين وأهل الخبرة في هذا المجال أن يعيدوا النظر في تعديل الأهداف التربوية والسلوكية بما يتلاءم وروح العصر الحالي، مستثمرين روح الإسلام في صوغ هذه التعديلات.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat