كيف تنجح مؤتمرات التقريب وكيف تفشل؟ قراءة في مؤتمر الحوار الإسلامي في البحرين
ثائر الساعدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ثائر الساعدي

إن نجاح مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يمكن أن يُقاس بمعايير سطحية مثل جودة التنظيم، أو اختيار الموقع المناسب، أو التوقيت المثالي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى مسائل أعمق وأكثر جوهرية. فالنجاح الحقيقي يكمن في مدى قدرة هذه المؤتمرات على تقديم طرح فكري عميق، واستقطاب مشاركين على مستوى عالٍ من الكفاءة والتأثير، وإنتاج مخرجات واقعية قابلة للتطبيق، تسهم فعليًا في تضييق الفجوات الفكرية والمذهبية بين الأطراف المختلفة، وتقريب وجهات النظر بما يخدم وحدة الأمة الإسلامية. إن المؤتمرات الناجحة لا تكتفي برفع الشعارات البراقة أو التوقف عند الخطابات النظرية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك بطرح رؤى عملية قادرة على تحويل المبادئ العامة إلى خطوات تنفيذية ملموسة، مع مراعاة التحديات الواقعية التي تواجه المجتمعات الإسلامية، بعيدًا عن المثالية المفرطة أو الانفصال عن السياقات الحقيقية.
على الجانب الآخر، قد تتعثر هذه المؤتمرات وتفشل في تحقيق أهدافها عندما تتحول إلى مجرد مناسبات شكلية أو لقاءات بروتوكولية تهتم بالمظاهر أكثر من الجوهر. ففي بعض الأحيان، تغرق هذه اللقاءات في بحر من المجاملات الدبلوماسية والكلمات المنمقة، دون أن تجرؤ على ملامسة جذور الخلافات الحقيقية أو مناقشة القضايا الشائكة بصراحة وشجاعة. وفي أحيان أخرى، قد تُطرح أفكار ومقترحات تبدو مثالية على الورق، لكنها تفتقر إلى قابلية التطبيق في أرض الواقع، فتبقى حبيسة البيانات الختامية والتقارير الرسمية، دون أن تتجاوز جدران القاعات المغلقة التي عُقدت فيها. وهنا يبرز السؤال الأهم: كيف يمكن قياس نجاح هذه المؤتمرات؟ الإجابة تكمن في متابعة ما بعد المؤتمر، أي مدى التزام الأطراف المعنية بتنفيذ التوصيات، ومدى تأثير هذه المخرجات على الواقع المعاش، سواء في الخطاب الديني أو السلوك الاجتماعي أو العلاقات بين الطوائف.
ومن هذا المنطلق، يمكننا النظر إلى مؤتمر الحوار الإسلامي الذي عُقد في البحرين كنموذج يستحق التأمل. فقد تميز هذا المؤتمر برؤية متميزة طرحها الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والتي أعطت المؤتمر بُعدًا عمليًا يتجاوز الإطار النظري التقليدي. فقد أكد الشيخ الطيب أن الهدف ليس مجرد التنظير الفكري أو تبادل النقد بين العلماء، ولا الاكتفاء بالخطابات الرنانة التي لا تترك أثرًا، بل الانتقال من مرحلة “التقريب” إلى مرحلة “التفاهم”، ثم إلى وضع الأطر والأسس العملية التي يمكن أن تُترجم إلى فعل حقيقي على الأرض. وفي هذا السياق، دعا إلى تجاوز الاتهامات المتبادلة التي طالما شكلت حاجزًا بين السنة والشيعة، بل وحتى داخل المذهب الواحد، حيث ينتقد البعض بعضهم البعض دون أن يقدموا حلولًا بناءة. فكفانا، كما قال، إساءات متبادلة وصراعات عقيمة، وآن الأوان لنضع أسسًا للتفاهم المشترك، والقبول المتبادل، والعمل الجماعي الذي يعزز وحدة الأمة بدلًا من تمزيقها.
وقد جاء البيان الختامي لهذا المؤتمر منسجمًا مع هذه الرؤية الطموحة، حيث عكس تطلعات المؤسسات الدينية الكبرى والشخصيات الدينية الوازنة التي شاركت فيه. فقد تضمن البيان جملة من النقاط المحورية التي تشكل خارطة طريق لتحقيق التقارب المنشود، ويمكن تلخيص أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:
1. التأكيد على وحدة الأمة الإسلامية: رغم التنوع المذهبي والفكري، مع الاعتراف بشرعية الاختلافات الفقهية والعقدية كجزء من التراث الإسلامي الغني، شريطة ألا تتحول هذه الاختلافات إلى أسباب للفرقة أو العداء بين المسلمين.
2. رفض الطائفية والتحريض: حيث اعتبر البيان أي إساءة أو هجوم على أي طائفة أو مذهب بمثابة خروج عن المبادئ الإسلامية الأصيلة التي تقوم على التسامح والتعايش السلمي.
3. تعزيز الحوار المذهبي: من خلال تشجيع اللقاءات العلمية والفكرية بين العلماء، ودعم المبادرات التي تعمل على بناء جسور التواصل بين مختلف المدارس الإسلامية.
4. إدانة الاستغلال المذهبي: سواء كان ذلك عبر الضغوط المادية أو الاجتماعية لتغيير الانتماء المذهبي للأفراد، لما يترتب على ذلك من تفاقم التوترات وزيادة الانقسامات داخل المجتمعات.
5. دور الإعلام: حيث أكد البيان على المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق وسائل الإعلام في تهدئة الأجواء، ووقف نشر المحتوى الذي يؤجج الصراعات ويغذي الكراهية بين المسلمين.
6. التمسك بالمشتركات الإسلامية: مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كأساس متين يمكن أن يجمع المسلمين تحت مظلة واحدة، بعيدًا عن الخلافات الفرعية.
7. دور العلماء والمراجع: حيث دعا البيان إلى أن يتولى العلماء والمراجع الدينية قيادة مسار التقارب، من خلال ترسيخ ثقافة الاحترام المتبادل، ونبذ الإقصاء أو التهميش بكل أشكاله.
إن هذا المؤتمر، بما حمله من رؤى وتوصيات، يمثل خطوة متقدمة في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق التقارب بين المذاهب الإسلامية. فقد أظهر إدراكًا عميقًا لضرورة تجاوز الخلافات التاريخية والمذهبية التي أنهكت الأمة على مدى قرون ، مع التركيز على النقاط المشتركة التي تجمع المسلمين، بدلًا من الوقوف عند الفوارق التي تفرقهم. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر معلقًا في مرحلة التنفيذ، فكيف يمكن ترجمة هذه المبادئ والتوصيات إلى سياسات عملية تُطبق على أرض الواقع؟ وكيف يمكن أن تؤثر هذه المخرجات على الخطاب الديني السائد، والممارسات الإعلامية، والسلوكيات الاجتماعية داخل المجتمعات الإسلامية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب متابعة دقيقة لما بعد المؤتمر، وجهودًا مشتركة بين العلماء والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني والإعلام، لضمان أن لا تظل هذه التوصيات مجرد كلمات على ورق، بل تتحول إلى واقع يُعاش ويُلمس، يعزز من وحدة الأمة ويحقق التقارب المنشود بين أبنائها
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat