احتفظ التاريخ للمرأة العربية بموقع مميز في لغة الضاد، حيث إن المرأة العربية تميزت بالفصاحة والبلاغة وسداد الرأي.
كما اتجهت قواها لمزاولة الأدب والشعر مع المحافظة على العفة والأنفة، كما اشتهر بعضهن بذلك، ومنهن أروى بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
صحابية جليلة وشاعرة فصيحة، سبقت إلى الإسلام فأسلمت بمكة في أوائل البعثة، وهاجرت إلى المدينة.
اختُلف في أم أروى بنت عبد المطلب، فقيل: أمها فاطمة بنت عمرو بن عائد بن مخزوم.
وقيل، بل أمها صفية بنت جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة.
تزوجها في الجاهلية عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي، فولدت له طُليبًا، ثم خلف عليها أرطاة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فولدت له فاطمة.
روي أن طليبًا بن عمير أسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، ثم خرج فدخل على أمه أروى فقال: تبعتُ محمدًا وأسلمت لله فقالت له، إنّ أحقّ مَن آزرت وعضدت ابنُ خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لتبعناه وذببنا عنه. قال: فما يمنعك يا أمي من أن تُسلمي وتتّبعيه؟ فقد أسلم أخوك حمزة.
فقالت: أنظرُ ما يصنع أخواتي، ثم أكون إحداهن. قال: فإني أسألك بالله إلا أتيته فسلّمتِ عليه وصدقتِه وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
كانت تعضد النبي (ص) بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره.
وهي من ربات الفصاحة والبلاغة، من شعرها ما رثت به أباها عبد المطلب في حياته، وذلك حين جمع بناته في مرضه، وأمرهن أن يقلن في حياته ما يردن أن يرثينه به بعد وفاته، ليسمع ما تريد أن تقول كل واحدة منهن، فأنشأت كل واحدة منهن أبياتًا في رثائه، فجاءت أروى تبكي أباها بقصيدة همزية ارتجالية من بحر الوافر
بقافية مطلقة متواترة.
تميز النص ببراعة الاستهلال، مع وضوح المعاني وسلاسة المفردات وانسيابها
وبمطلع يجذب سمع المتلقي، مصرع، غير متكلف مع اجتناب الحشو وبعيد عن التعلق بما بعده، كما ضمنته جناسًا اشتقاقيًّا في صدر المطلع (بكت وبكاء) فالحروف بينهما مشتركة، ويجمعهما معنى واحد وهو البكاء
إذ تقول وهي تصف لوعتها وحسرتها على فقد أبيها
وتذكر مناقبه ومآثره:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا الْبُكَاءُ
عَلَى سَمْحٍ سَجِيَّتُهُ الْحَيَاءُ
تتجلى مشاعر الشاعرة الجياشة بمرثيتها التي مدحت بها أباها بعاطفة صادقة توضح فيها شأنه ونسبه الشريف
وتصفه بصورة دقيقة لتوصل حجم مصيبتها للمتلقي، فتقول:
عَلَى سَهْلِ الْخَلِيقَةِ أبْطَحيٍّ
كَرِيمِ الْخِيمِ نِيَّتُهُ الْعَلَاءُ
"سهل الخليقة" الطيِّع، سلِس، سَمْح، ليِّن العريكة
"الأبطحي" نسبة إلى أبطح مكة، "والخيمُ": السَّجِيَّةُ والطبيعةُ والأصل.
عَلَى الْفَيَّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي
أَبِيكِ الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
"الْفَيَّاضِ" كثير العطاء
"شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي": إشارة لأحد ألقابه (شيبة الحمد)
ونجد النص تميز بجمالية التكرار وهو تناوب الألفاظ، وإعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغمًا موسيقيًّا يتقصده الناظم في شعره أو نثره، فقد كررت الشاعرة (على) لتأكيد الوصف المدح
طَوِيلِ الْبَاعِ أَمْلَسَ شَيْظميٌّ
أَغَرَّ كَأَنَّ غُرَّتَهُ ضِيَاءُ
"الشَيْظميُّ" الأسد الطويل، كما تأتي بمعنى طلق الوجه.
"الأغَرُّ": الكَرِيمُ، أي كَرِيمُ الأفْعَالِ وَجَمِيلُهَا، الوَاضِحُ فِي أعْمَالِهِ وَأفْعَالِهِ، السَّيِّدُ الشَّرِيفُ
كما نجد جناسًا اشتقاقيًّا في عجز هذا البيت (أغر وغرته) فالحروف الأصلية بينهما مشتركة
أَقَبِّ الْكَشْحِ أَرُوعَ ذِي فُضُولٍ
لَهُ الْمَجْدُ الْمُقَدَّمُ وَالسَّنَاءُ
"أقب الكشح": أي ضَامر الخَصْرُ أَوِ البَطْنُ
نلاحظ أن جرس اللام تكرر خمس مرات بذات البيت
أَبِيِّ الضَّيْمِ أَبْلَجَ هِبْرَزِيٌّ
قَدِيمِ الْمَجْدِ لَيْسَ لَهُ خَفَاءُ
أرادت أن تثبت ذكرى وخصال محبوبها للزمن وللأجيال بمفردات جزلة تناسب مقام المرثي.
"أبي الضيم": الحُرّ الذي يأبى الذل
"هبرزي": من معاني الهِبْرِزِيّ: الأَسدُ، والجَلْدُ النافذ، والمِقدامُ في كلّ شيء أو الذَّهَبُ الخالص، وكلُّ شيء جميل وسيم.
وَمَعْقِلِ مَالِكٍ وَرَبِيعِ فِهْرٍ
وَفَاصِلِهَا إذَا اُلْتُمِسَ الْقَضَاءُ
"لمَعقِلُ": الملجأ والحِصن للقومة وعشيرته
مالك وفهر إشارة إلى نسبه الأثيل
"فاصلها" الفصل: إبانة أحد الشيئين من الآخر: حتى يكون بينهما فرجة
وكأن الشاعرة قصدت أنه يفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه
وَكَانَ هُوَ الْفَتَى كَرَمًا وَجُودًا
وَبَأْسًا حَيْنَ تَنْسَكِبُ الدِّمَاءُ
تشير إلى كرمه ألا متناهي وشجاعته الفذة.
إذَا هَابَ الْكُمَاةُ الْمَوْتَ حَتَّى
كَأَنَّ قُلُوبَ أَكْثَرِهِمْ هَوَاءُ
مَضَى قُدُمًا بِذِي رُبَدٍ خَشِيبٍ
عَلَيْهِ حَيْنَ تُبْصِرهُ الْبَهَاءُ
"بذي ربد خَشِيب" بالسيف الصقيل فهو خشيب
ورغم بأسه وشدته ألقى البهاءُ عليه حلته
نص مؤثر وبناء شعري رصين، ونظم رفيع تصف به الشاعرة المرئيات، وصفًا يجعل قارئ شعرها لا يدري أ يقرأ قصيدة مسطورة أم يعيش حالة من حالات الوجود الفعلي
عبرت السيدة أروى بهذا النص عن عاطفة صادقة لا يشوبها التكلف بسهولة، وعذوبة، وانسجام..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat