صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

نقد محاضرات احمد القبانجي حول الهيرمنيوطيقا والالسنيات والتفسير الوجداني – ج2
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

هل القرآن مجرّد حبر على ورق !؟
صرّح احمد القبانجي في محاضرته حول الهيرمنيوطيقا (الهيرمنيوتيكا) بفكرة خاطئة مفادها "ان القرآن اليوم فقط حبر وورق وان (القرآن صامت وبدون الانسان لا يساوي شيئاً)" ! 
ان ابرز ما يلفت النظر في كلامه هذا انه يسخف فكرة الكتابة ويستغني عن كل قيمتها العلمية والحضارية بخلاف علم الالسنيات الذي يعترف بأهمية الكتابة كما سنبينه بعد قليل ان شاء الله سبحانه والذي يعطي جانباً من الاهتمام والقيمة للكتابة باعتبارها الوسيلة التي تحفظ الالفاظ والمعاني.
ومن الناحية الحضارية نعرف جميعنا اهمية الكتابة في التطور الحضاري منذ ان ظهرت بصورة صورية تكتب على الواح الطين والى ان تطورت الى صورتها الرمزية واستخدام البردي والورق. وكيف ساهمت الكتابة في تطور الحضارة وتقدم الانسانية. فالكتابة ليست مجرد حبر على ورق كما توهم احمد القبانجي.
 
لقد غاب عن ذهن احمد القبانجي ان القرآن الكريم متواتر عند المسلمين في كل جيل منذ الجيل الاسلامي الاول والى يومنا هذا ، وذلك معناه ان المسلمين تداولوا القرآن الكريم بصورة واسعة ، حفظاً وتلاوة ، فالقرآن لم يكن في يوم من الايام فقط حبراً على ورق بل كان كلاماً متداولاً بين المسلمين بصورة متواترة حفظاً وكتابةً وتلاوةً ، آناء الليل واطراف النهار ، وعندما كانت آيات القرآن الكريم تكتب في الجيل الاول بدون نقاط كانت الآيات القرآنية تقرأ بنفس الصيغة التي تقرأ فيها بعد تنقيط الكلمات ، واستمرت تقرأ بنفس الطريقة بعد ان تم تشكيل الكلمات ووضع الحركات لها واستمرت تقرأ بنفس الطريقة حينما كان القرآن يكتب باليد وبنفس الطريقة حينما كتب بواسطة المطابع واستمر بنفس الطريقة في عصر الكمبيوتر. اذن القرآن ليس فقط حبر على ورق ينتظر من يقراه ليحييه كما يتوهم احمد القبانجي بل هو كلام الله سبحانه المقروء على ظهر الغيب وفي الصحف عبر الاجيال بلا توقف وبلا انقطاع لجيل او حتى لعقد من السنين او اقل من ذلك ولا ليوم واحد ايضاً بل هو تواتر مستمر في القراءة والكتابة عبر العصور. 
ان فكرة ان يفقد الكلام قيمته بعد تدوينه تلك التي ذكرها احمد القبانجي لهي فكرة مثيرة للغثيان لأن تحول القرآن من آيات تقرأ شفاهاً الى آيات مكتوبة يجعلها فقط حبر على ورق عند احمد القبانجي وفي ذلك انتقاص لجميع الموروثات الادبية والتاريخية والعلمية لأن جميع ما يتم تدوينه من احداث وشعر ونثر وعلوم طبيعية وفلسفية وغيرها سيصبح فقط حبر على ورق ويفقد قيمته الحقيية بحسب تصور احمد القبانجي !!؟
وحول اهمية الكتابة في حفظ الالفاظ والمعاني يقول الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله): (أن الألفاظ وحدها لا تكفي للقيام بحاجات الإنسان كلها، لأنها تختص بالمشافهين. أما الغائبون والذين سيوجدون، فلابد لهم من وسيلة أخرى لتفهيمهم، فالتجأ الإنسان أن يصنع النقوش الخطية لإحضار ألفاظه الدالة على المعاني، بدلاً من النطق بها، فكان الخط وجوداً للفظ. وقد سبق أن قلنا: أن اللفظ وجود للمعنى، فلذا نقول: «إن وجود الخط وجود للفظ ووجود للمعنى تبعاً». ولكنه وجود كتبي للفظ والمعنى، أي أن الموجود حقيقة هو الكتابة لا غير، وينسب الوجود إلى اللفظ والمعنى مجازاً بسبب الوضع، كما ينسب وجود اللفظ إلى المعنى مجازاً بسبب الوضع. إذن الكتابة تحضر الألفاظ، والألفاظ تحضر المعاني في الذهن، والمعاني الذهنية تدل على الموجودات الخارجية) . اذن الكتابة ليست حبراً على ورق بل هي رموز تحفظ الالفاظ والتي بدورها تحفظ المعاني ، ولذلك فالقرآن الكريم ليس حبراً على ورق حتى وإن لم يقرأه احد بل هو خزين لكلمات الله سبحانه ومعانيها.
 
 
اهمية الكتابة في علم الالسنيات:
يقول الدكتور مصطفى غلفان: (مرحلة الكتابة الصوتية وهي الكتابة التي نتعامل بها اليوم في جُل اللغات العالمية والتي تم فيها التحرر من النوعين السالفين من الكتابة.وتتميز الكتابة الصوتية باقتصادها في عدد الوحدات الصوتية والصرفية والاىستقلالية في الوظيفة التركيبية والدلالية عكس ما كان متداولاً في الكتابة التركيبية والكتابة التحليلية. وتُعَدّ الكتابة الصوتية مرحلة حاسمة في تطور الفكر البشري نظراً الى ما كان لها من اثر ايجابي في نقل التراث الانساني من المحلية الى الانسانية كما يشهد على ذلك انتقال التراث الهندي واليوناني والعربي الاسلامي خارج حدود المناطق التي ظهر فيها هذا التراث. وقد كان للكتابة اثر ايجابي في الدرس اللغوي وهو ما اشار اليه اللساني الفرنسي انطوان مييه Antoine Meillet قائلاً ان اولئك الذين اوجدوا الكتابة واتقنوها كانوا من فحول اللغويين وهم الذين ابدعوا علم اللغة. ذلك ان تاريخ الكتابة ودراسة الطرق المتبعة في الكتابة ذو صلة وثيقة بالبحث في طبيعة اللغة وبنيتها. فاختراع الكتابة ادى بالبداهة الى التفكير في اللغة لأن هذه التقنية ابرزت عناصر اللغة الشفهية ثم فصّلت عباراتها على الاقل ان لم نقل مفرداتها) . 
 
اذن الكتابة ليست فقط حبراً على ورق كما توهم احمد القبانجي بل ان لها مديات علمية وحضارية واسعة.
 
 
هل النبي مفسر للوحي!
ردد احمد القبانجي في محاضرته حول الهيرمنيوطيقا فكرة مفادها ان النبي (صلى الله عليه وآله) هو اول مفسر للقرآن الكريم وانه يمثل رؤية النبي للحياة والكون والتي قالها بشكل قرآن !! أي انه نسب القرآن الكريم بانه من كلام النبي وليس وحياً الهياً انزله الله عزَّ وجل ، فهو الفاظ النبي بحسب فهمه للوحي الذي جرى بوجدانه بحسب مزاعم احمد القبانجي ! وبذلك يزعم ان النبي هو اول مفسر للوحي الوجداني ـ وليس متلقياً للوحي الالهي بدقة كما هي العقيدة الاسلامية ـ ثم سار خطوة اخرى في محاضرة اخرى فقال ان النبي قد يخطيء في فهم وجدانه اي في فهم الوحي الوجداني وبذلك تكون آيات القرآن هي الفاظ النبي وفيها اخطاء !! فالوجدان معصوم ولكن فهم النبي لوجدانه غير تام كما يزعم احمد القبانجي  !! والملفت للنظر ان احمد القبانجي يذكر هذه الفكرة المفتراة وليس له اي دليل او قرينة عليها !!!؟؟
ان فكرة ان النبي هو اول مفسر للوحي الوجداني وليس ناقلاً دقيقاً للفظ الوحي الالهي انما تلقاها احمد القبانجي واقتبسها بلا تمحيص من اسبينوزا اليهودي الذي قال وفقاً لثقافته اليهودية ونصوص العهد القديم: (النبوة او الوحي هي المعرفة اليقينية التي يوحي بها الله الى البشر عن شيء ما. والنبي هو مفسر ما يوحي الله به لأمثاله من الناس الذين لا يقدرون على الحصول على معرفة يقينية به ولا يملكون الا ادراكه بالايمان وحده. ويسمي العبرانيون النبي "نبياً" أي خطيباً أو مفسراً. ويستعمل في الكتاب بمعنى مفسر الله كما هو واضح في الاصحاح 7 الجملة 1 من سفر الخروج ، يقول الله لموسى: (انظر قد جعلتك الهاً لفرعون وهرون اخوك يكون نبيك) وكأنه يقول: لما كالن هارون بتفسيره كلام موسى لفرعون يقوم بدور النبي ، تكون انت (يا موسى) كإله لفرعون أي من يقوم بدور الله !) . وشتان بين كلام الله سبحانه في القرآن الكريم وبين نصوص اسفار العهد القديم التي كتبها اشخاص بعضهم معلوم وبعضهم مجهول كتبوها وفقاً لثقافات عصرهم لا كما هو حال القرآن الكريم الذي انزله الله سبحانه لجميع العصور والى يوم القيامة. فما يمكن ان يصح عن اسفار التوراة والعهد القديم لا يمكن ان يصح عن القرآن الكريم.
فمجمل افكار احمد القبانجي هي اقتباس التقاطي عن اليهود والمبشرين المسيحيين والمستشرقين. ولا تكاد توجد لديه فكرة لا تدور في فلكهم او كان لهم يد طولى في الترويج لها بطريق مباشر او غير مباشر.
بينما نجد الله سبحانه يذكر صراحة في القرآن الكريم ان آياته هي لفظ نقله جبريل (عليه السلام) كما انزل ، ففي سورة الحاقة نقرأ: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) )).
 
التأويل والمشبهة:
المشبهة هم من الفرق الاسلامية الضالة التي ظهرت في القرون الهجرية الاولى كانوا يرفضون التأويل ويقولون ان صفات الله سبحانه المذكورة هي صفات بشرية مثل السميع والبصير وان له يد ورجل وجسم وهكذا ، ولعل الوهابية متفقون معهم في هذه النظرة التجسيمية الضالة ! وربما رأى احمد القبانجي ان اسلم طريق لضرب المسلمين هو بالصاق عقيدة المشبهة بهم في الصفات ليسهل الانتقاص منهم ومن عقيدتهم بعدما لمس متانة عقيدتهم الحقيقية والا فان غالبية المسلمين لا يقولون بعقيدة المشبهة في الصفات. اذن هو تعلم من المشبهة رفض التاويل ليضرب المسلمين القائلين بالتاويل وليسهل عليه الطعن في آيات الكتاب المبين ، ثم نسب المسلمين الى عقيدة المشبهة في الصفات والتي تقول ان الله تعالى يسمع كسمعنا ويبصر كبصرنا وان هذه الصفات (السميع والبصير والعليم) هي صفات بشرية !! ليسهل له الطعن في الاسلام وتسيير الشبهات ضده. ورغم رفض احمد القبانجي للتاويل سنجده في محاضرته حول التفسير الوجداني يمارس التاويل ويستند اليه في وضع التفسيرات الباطنية لمنهجه وعقيدته !! وسنتناول منهجه المتناقض هذا بشيء من التفصيل بعد قليل إن شاء الله سبحانه.
 
كانط والحواس الخمسة:
يستشهد احمد القبانجي في محاضرته بقول لكانط (1724 - 1804)م حول الخواس الخمسة (اللمس والنظر والتذوق والشم والسمع) والذي يعتبرها كلها خائنة وغير امينة في نقل الواقع فمثلاً الاذن تسمع موجات فقط تفسرها بانها موسيقى ! او انها تميّز من خلال تلك الامواج بين صوت الحمار وصوت البلبل !! لقد فات احمد القبانجي ان الاذن لا تميز بين الاصوات بل هي تنقل الموجات والذبذبات الى العقل الذي يقوم بدوره بعملية التمييز. فالعقل هو المرجع للحواس. 
 
ورغم ان احمد القبانجي يردد مقولة كانط الفلسفية بعدم قدرتنا على فهم العالم الخارجي الا من خلال حواسنا وهي حواس خائنة الا ان علم الالسنيات يتعامل مع الحواس بشكل آخر اكثر علمية وعقلانية ، فعلم الالسنيات تناول الحواس الخمسة بطريقة علمية باعتبارها من العلامات في الاطار السيميولوجي حيث (ان اللغة هي نظام سيميولوجي اي انه مؤسس على علامات لسانية وغير لسانية تحمل المعاني أو المدلولات)  ، ومن العلامات غير اللسانية اي التي لا تتعلق بالكتابة أو بالكلام نذكر:
ـ العلامات الشميّة.
ـ العلامات اللمسية.
ـ العلامات الذوقية. 
ـ العلامات الايمائية .
ومن الملفت للنظر ان احمد القبانجي يتحدث في محاضرة كاملة عن الالسنيات ولا يعرف هذه العلامات !؟ ولا يعرف علاقة الحواس الخمسة بالسيميولوجيا ! 
 
وذكر احمد القبانجي مثلاً حول شجرة تسقط في غابة خالية من الناس وتحدث صوتاً فزعم انها لن تصدر اصوات لأنه لا احد يسمعها !! ان كلامه هذا مخالف لطبيعة الاشياء ، فالصوت لا يسمى صوتاً فقط لأننا نسمعه بل الاصوات موجودة دائما من خلال حركة الاشياء ، وما لا نسمعه لا يعني انه غير موجود ، فالاصوات التي نسمعها هي من الناحية العلمية امواج تصل الى آذاننا والتي تنقلها الاذن الى العقل فيميزها. ان كلام احمد القبانجي هذا فيه تغييب للمنهج العلمي وللحقائق العلمية.
 
ترديده افكار المشبهة:
وحينما اخذ احمد القبانجي يذكر مباني نظرية الهيرمنيوطيقا ابتدأ بمقارنتها مع ما يسميها بالنظرية السائدة فقال ان الله سبحانه في العرش في السماء ، وهو هنا يردد كلام المشبهة وهم من الفرق الاسلامية الضالة التي تقول ان الله سبحانه له عرش يجلس عليه وان صفاته هي صفات بشرية فهو سميع وبصير كسمعنا وبصرنا وله يد ورجل ووجه وهكذا وهي نفس الصورة التي يرسمها احمد القبانجي للمسلمين حينما يريد ان يطعن في عقيدتهم !! والمشبهة يشتركون مع احمد القبانجي في رفض التأويل فهم يقولون نأخذ الالفاظ كما وردت في القرآن ، فاذا ورد ان لله سبحانه عرش فهو العرش بمعناه المادي المعروف عند الملوك وكذلك احمد القبانجي يقول ذلك وينسبه للمسلمين وهو يعرف جيداً ان غالبية المسلمين من غير المشبهة لا يقولون بهذه العقيدة المنحرفة المخالفة للعقل وللنصوص الصريحة والمعتبرة الواردة عن ائمة آل البيت (عليهم السلام). 
 
الموجودات والواقع الخارجي:
وقال احمد القبانجي في محاضرة الهيرمنيوطيقا: "نحن لا نتعامل مع الواقع الخارجي الا بما هو مطبوع في اذهاننا". وفكرته هذه على نحو كبير من السطحية واذا اعملناها في حياتنا فلن تكون هناك علوم ولا بحوث ولا تقدم في مجالات الحياة ، ففي الحياة هناك حقائق علمية رصينة لأشياء لا نعرف طبيعتها ، فالجاذبية على سبيل المثال رغم وجود قوانين نيوتن ولكن لا احد منّا يمكنه وصفها ومعرفة طبيعتها وكيف تجذب الاشياء ، فالانسان لا يعرف ماهيتها ولا يحس بوجودها بل هو يعرف ثقل الاشياء فقط. اذن وفق نظرية احمد القبانجي فليس هناك وجود حقيقي للجاذبية الا في ذهن الانسان !! لأن كل انسان يتخيلها في ذهنه بطريقة مختلفة !! وهكذا بالنسبة للذرة والطاقة النووية وغيرها فيتم ابطال الوجود الحقيقي للقضايا العلمية ويتوقف الانسان عن التقدم والتطور ... !!!
وايضاً فليس هناك روح للانسان فيكون الانسان عبارة عن جسد فقط لأننا لا نرى الروح فهي بحسب فكرة احمد القبانجي امر ذهني فقط !!!!
وسنتطرق بعد قليل لنفس الموضوع على نحو اوسع حيث تطرق احمد القبانجي له مرة اخرى في محاضرة الالسنيات.
 
التفاسير والاختلافات العقائدية:
وربط احمد القبانجي في محاضرته بين تعدد تفاسير المسلمين وبين الاختلافات العقائدية ، وقال "ان المسلمين الذين اطلق عليهم اسم التقليديين ليس لديهم جواب لتعدد التفاسير وكل واحد منهم يرى ان تفسيره هو الصحيح والاخر على باطل وهو من اهل النار" ! وفي الحقيقة فالقضية ليست بهذه الكيفية التي عرضها فتعدد تفاسير المسلمين انما هي تبعاً لاجتهادات المفسر ، ومثلما هناك اجتهادات فقهية فهناك اجتهادات في تفسير القرآن غاية ما في الامر ان هناك من يفسر القرآن الكريم تبعاً لنظرية آل البيت (عليهم السلام) العقائدية وهناك من يفسرها تبعاً للمدارس الاخرى لأهل السنة او السلفية او الخوارج. والاختلافات الرئيسية في التفسير انما تكون في القضايا العقائدية والآيات التي تحتوي على مضمون عقائدي. فالقضية ليست معقدة ولا هي صعبة الفهم. انما اي تفسير هو الاصح ، فجواب هذا يتبع الجواب عن اي العقائد هي الاصح ، وهذا يتبع الدليل الذي يراه كل انسان هو الاصح في اثبات عقيدته بعد ان يبذل جهده في تتبعه وتمحيصه. فاذا بذل الانسان جهده في البحث عن العقيدة الصحيحة ولم يتمكن من الوصول الى الحق لقصور فيه وليس لتقصير فان موقفه يوم القيامة سيكون مختلفاً عن موقف من يقصر في البحث عن العقيدة الصحيحة او يميل الى الهوى والجاه والمجتمع. 
 
مباني الهيرمنيوطيقا:
ثم تحدث في محاضرة الهيرمنيوطيقا عما اسماه مباني الهيرمنيوطيقا ، فقال "ان النظرية السائدة تقول ان للنص القرآني ثلاثة اركان هي المتكلم (ويقصد به الله) والمخاطب (ويقصد به الناس) والخطاب (ويقصد به القرآن)  وتقول النظرية السائدة ان النص لا يحتمل الا معنى واحد وكل لفظ له معنى يدل عليه وهذا المعنى في ذهن المتكلم ، فالمفسر يجب ان يكشف عن ذاك المعنى ، فاذا توصل فهو الصحيح والحق واذا لم يتوصل فهو خطأ لكن معذور" ،هذه خلاصة النظرية الموجودة بحسب ما ذكره ! ثم انتقل لمقارنتها مع نظرية الهيرمنيوطيقا وقبل ان ننتقل لمناقشة الهيرمنيوطيقا بحسب المباني التي ذكرها من المهم ان نبين ان وصفه لما اسماه بالنظرية السائدة هو وصف غير تام ، فمن جهة نجد ان النظرية "السائدة" لا تتحدث عن معنى في ذهن المفسر بل تتحدث عن علاقة الالفاظ بالمعنى الخارجي ، وهذا مبحث خاص في علم اصول الفقه يتناوله الفقهاء بالشرح والبيان التفصيلي. اذن احمد القبانجي يحاول فرض نظرته الخاصة حول المعاني الذهنية على النظرية "السائدة" وحقيقتها غير ما ذكره. ومن جهة اخرى فان الاركان الثلاثة التي ذكرها (المتكلم والمخاطب والخطاب) لا تقتصر على القرآن الكريم بل هي اركان مشتركة مع كل انواع الكلام والنصوص البشرية. كما ان هذه الاركان قد اقرها علم الالسنيات وكبار علمائها الذين يبحثونها ويشرحون تطور اللسان عبرها فعلى سبيل المثال يذكر رومان جاكبسونRoman Osipovich Jakobson  (1896-1982)م في مخططه للنظام الالسني الذي وضعه ان عملية التواصل تتكون من المرسل destinateur وهو الشخص المتكلّم أو الذي يولّد الوظيفة التعبيرية ، ويتميز بطريقة كلامه ، ويقوم بإرسال (مرسلة) message الى شخص آخر يستمع اليه أي الى المرسل اليه destinataire . ورغم ان احمد القبانجي اقحم نفسه في موضوع الالسنيات وله محاضرة خاصة تحت عنوانها الا ان الظاهر انه لا يفقه من الالسنيات الا اسمها !
 
نعود الى مباني الهيرمنيوطيقا التي ذكرها احمد القبانجي حيث قال ان المبنى الاول هو "انه لا فصل بين المتكلم والمخاطب والخطاب" ! فزعم اننا موجودون في المتكلم والمتكلم موجود فينا فيتكلم الله فينا مباشرة !! وفي الحقيقة فان فكرته هذه لا علاقة لها بموضوع الهيرمنيوطيقا لأنها مرتبطة بموضوع الوجدان ومزاعمه ان الله يتكلم مع الانسان من خلاله وان الوجدان هو الله الشخصي الى آخر سخافاته ، فقوله باندماج (الله والانسان والخطاب) يكشف عن اضطراب فكري عنده فهي فكرة ليس عليها دليل كما انه موضوع بعيد عن الهيرمنيوطيقا !! ومما يزيد من قوة مظهر اضطرابه انه انتقل وهو يتحدث عن الاندماج المقترح الى ضرب مثال بمقوله منسوبة لعمر بن الخطاب وكيف ان الشيعي يرفضها لكونها من عمر ولكنه لو قيل له انها من الامام الصادق عليه السلام لقبلها وعلل ذلك بان الانسان يجب ان يفهم المخاطب ثم بعد ذلك يفهم ما يقوله ، وقال: "اي المتكلم في وعينا فاذا فهمنا المتكلم فهمنا النص" !! ولكن المتكلم في هذا المثال له وجود خارجي وهو شخص عمر بن الخطاب بينما القبانجي يقول باندماج المتكلم مع الخطاب كما اشرنا آنفاً ! ويقول ان الخِطاب هو قضية ذهنية ، فكيف اذن يفسر احمد القبانجي اندماج من له وجود خارجي (عمر بن الخطاب) بمن له وجود ذهني فقط (كلامه اي الخِطاب) !! ان هذا لا يستقيم الا اذا قلنا ان عمر بن الخطاب وجوده ذهني ايضاً باعتبار مقولة كانط التي يستند اليها في ان الحواس الخمسة خائنة وغير امينة !!!!! فلا وجود لعمر بن الخطاب الا في الذهن البشري !!!!! ارأيتم كم هي ضحلة وسخيفة النتيجة التي يقودنا التفكير باسلوب احمد القبانجي !
 
ومن الواضح ان مثاله عن عمر بن الخطاب وتقبل الشيعي او رفضه لمقولة ما صادرة عنه لا علاقة لها بالمبنى الاول الذي ذكره بخصوص الاندماج !! اما شبهة الربط بين فهم القائل وفهم ما يقول فهو كلام ساذج لا علاقة له بجوهر قضية الفهم لأن فهم الكلام مرتبط بذاتية الكلام وهو مجال علم الالسنيات الذي يعرفه الدكتور جرجس ميشال بقوله انه العلم الذي لا يهمه ماذا يقول النص ولا من قال النص انما يهمه كيف يعبر النص عما يقول . اذن شبهته هذه لم يكن يجدر به ان يتطرق اليها لأنها بالاضافة الى تهافتها فهي تتعارض مع علم الالسنيات ومبانيه !؟ ووفقاً للالسنيات فهذه الشبهة غير مهمة فليس مهما ان نفهم قائل النص لكي نفهم النص لأن علم الالسنيات يتكفل ببيان كيفية تعبير النص عما يريده. وفي نفس السياق روي عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) انه قال: (لا تنظر الى من قال وانظر الى ما قال) .
 
وفي المبنى الثاني للهيرمنيوطيقا قال احمد القبانجي انه لإعمالها في النص يجب ان يكون القائم بعملية الفهم (المفسر) ليس لديه مسبوقات فكرية او مسلمات فكرية !! وتحدث عن "وجود مسبوقات فكرية تلقي بظلالها على المفسر للقرآن الكريم" ، وافترض ــ تحكماً منه بلا سند مقبول ــ "ان المستشرقين ليس لديهم مسبوقات فكرية او مسلمات ولذلك يفهمون القرآن بشكل مختلف" ! وهذه من مغالطاته لأن المستشرقين لديهم مسبوقات فكرية ومسلمات تتمثل بعدم وحيانية القرآن الكريم وانه ليس كلام الله سبحانه وان الاسلام ليس هو الدين الحق ، كما ان لديهم مسبوقات فكرية تتعلق بدورهم المطلوب من اجل نقض الاسلام ولصق الشبهات والعيوب فيه وتشويهه امام انظار الناس. اذن المسبوقات الفكرية لأي شخص هو امر حتمي لأن لكل انسان فكر ديني او لا ديني ، وكل من ينظر لآيات القرآن الكريم سينظر لها من وجهة نظره الدينية او اللادينية. 
وحتى بخصوص القائم بالفهم من خلال الهيرمنيوطيقا فإنّه سيفعل ذلك استناداً الى فكره ورؤيته الثقافية والفلسفية وهدفه الذي يسعى اليه والذي بسببه يقوم بعملية الفهم الهيرمنيوطيقي ، ولذلك سوف يُفهَم النص الواحد بطرق متعددة ونتائج مختلفة تبعاً لتعدد القائمين بعملية الفهم ، لأن لكل انسان طريقته الخاصة بالفهم حتى من خلال الهيرمنيوطيقا !
 
ونفس الامر بالنسبة للمبنى الثالث الذي ذكره وهو ان المفسر يفسر ولديه رغبة معينة ، فمن يؤمن بقضية يبحث في التفسير عما يؤيدها ! فنقول قد ذكرنا آنفاً إنَّ نفس هذه القضية وان لم تكن تامة لجميع المفسرين فيمكن ايضاً ان تشمل المستشرقين الذين يمتلك غالبيتهم رغبة ابطال الاسلام ورغبة تشويهه ورغبة تقليل اهميته وهكذا. اذن لا ميزة لتفسير المستشرقين ونظرتهم للاسلام بخلاف ما يحاول احمد القبانجي الترويج له !
 
اما المبنى الرابع فيقول ان الكلام اذا تم تدوينه فانه سيموت والذي سيقرأه ويفهمه هو الذي سيحييه ! ولذلك كل من يفهم القرآن بطريقته فله الحق في ذلك لأن القاريء هو الذي اعطى الحياة للقرآن ! وبالتالي تكون جميع التفاسير صحيحة ! ورغم ان هذا الكلام مخالف لما ورد في علم الالسنيات الذي يعتبر ان النص المكتوب له اهمية في معرفة ماذا يريد النص وعلى ماذا يدل ، فان القول بأن النص ميت والعبرة بمن يقرأ ويفهم فيمكن ان يشمل هذا كل التفاسير الاسلامية وتكون كلها صحيحة اذا وافقت العقيدة الصحيحة ، وبالتالي فليس هناك دور واضح للهيرمنيوطيقا في عملية التفسير والفهم !؟ وسبق ان ناقشنا آنفاً موضوع اهمية الكتابة.
اذن بناءاً على هذا الكلام لا يحق لاحمد القبانجي ان يعترض على تعدد التفاسير الاسلامية والاختلافات الموجودة في بعض مواضعها لأن المفسر يفهم النص بطريقته فالنص ميت والمفسر هو الذي يحييه ! وهذا من تناقضات احمد القبانجي الكثيرة جداً !!
 
كما ان معنى كلام احمد القبانجي اننا لا يمكن ان ننسب لاحد ما مقولةً او فكرة سواء كان فيلسوفاً او مفكراً لأن كلام اولئك المفسرين والمفكرين والفلاسفة انما هو كلام مكتوب ميت ومن يقرأه هو الذي يفهمه ويحييه فيجب ان نقول فهمنا لكلام ارسطو مثلا وفهمنا لكلام اسبينوزا لا كلام ارسطو واسبينوزا نفسه !! وبذلك لم يعد يمكن لأحد ان يمتلك تراثاً وفكراً لأننا لن نعرف افكار الاخرين وفلسفاتهم بل نعرف فهمنا لتلك الافكار والفلسفات ونختلف بيننا في فهمها !! فاي منهج فوضوي هو ابرع من هذا في بث الاختلاف والبلبلة الفكرية بين الناس ؟!
وهذا المنهج نفسه يرد على احمد القبانجي نفسه جميع طعونه في الاسلام لأن جميع الشبهات التي يستند اليها من خلال ايراده لبعض الآيات القرآنية لا سيما في الصفات وفي موضوع الاستواء على العرش فإنما تمثل فهم احمد القبانجي للقرآن ، فالشبهة ناتجة من فهمه هو وليس من القرآن لأن القرآن بحسب تعبيره نص ميت هو الذي يحييه ويثيره بفهمه الذي تنتابه الشبهات وفقاً لفكره ومسلماته ونوازعه الفكرية ، وبذلك لن تكون هناك شبهة حقيقية ضد الاسلام بل الشبهة ناتجة من فهم احمد القبانجي للقرآن ! 
اما المبنى الخامس للهيرمنيوطيقا فقد تجاهل احمد القبانجي ذكره او نسيه ! فلم يورده في محاضرته !!
 
لاحظوا ان احمد القبانجي في بداية محاضرته هذه بيّن مفهومه للهيرمنيوطيقا بانها علم فهم النص وحرص على تخطئة نصر حامد ابو زيد في تعريفه لها بأنها علم تأويل النص ! ويبدو ان مشكلة احمد القبانجي مع استخدام مصطلح التاويل عميقة وربما اكتسبها من اقتناعه بأفكار المشبهة الذين كانوا يرفضون التأويل بشدّة كما اسلفنا !

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/17



كتابة تعليق لموضوع : نقد محاضرات احمد القبانجي حول الهيرمنيوطيقا والالسنيات والتفسير الوجداني – ج2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net