صفحة الكاتب : د . عبد الهادي الطهمازي

إغاظة الكافرين بزيارة الأربعين
د . عبد الهادي الطهمازي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

((مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة:120)
هاتان الآيتان الشريفتان نزلتا في ظروف الإعداد لغزوة تبوك، وهي أول غزوة يغزوها المسلمون للمناطق الواقعة تحت سيطرة بلاد الروم، لذلك هي تختلف بطبيعتها الاستراتيجية عن باقي الغزوات، فهي حرب موجهة ضد دولة كبيرة وقوية، ولها جيش ضخم يقهر الأمم الكبيرة، فتعتبر قوة المسلمين إزاء قوتهم وتجهيزاتهم وعددهم قوة ضعيفة نسبيا، يضاف الى ذلك أن الحر كان شديدا، والظروف الاقتصادية للمسلمين سيئة للغاية، لذلك سمي ذلك الجيش الذي أعده النبي ص بجيش العسرة.
يقول ابن سعد في الطبقات: ((كانت غزوة تبوك في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، وغزو عدو كثيرا... فخرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير وخرجوا في حر شديد، فأصابهم يوما عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة)).
فهذه الظروف القاسية كانت سبب نزول الآيتين الشريفتين، حيث وعد الباري تبارك وتعالى المؤمنين بأن كل ما يصيبهم من جهد وجوع وعطش ومشقة فهو مكتوب لهم، وسيجزيهم الله تعالى بأفضل جزاء وأوفر جزاء.
لكن ما أريد التوقف عنده هو ما ورد في قوله عز وجل: ((وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)). لذلك سأتحدث في هذه الخطبة عند مبدأ الإغاضة، والنيل من العدو.
الإغاظة: طريقة أو أسلوب من أساليب الحرب النفسية مارسه الإنسان مع أعداءه وخصومه فطريا منذ أقدم العصور، وهو من الأساليب الناجحة في إشعار العدو بالخيبة والهزيمة والفشل.
والغيظ في اللغة: يعني الغضب الشديد، وهو كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه، وهي تعني عند ابن منظور: الغضب الكامن للعاجز.
فالإنسان عندما يغضب تكون له حالتان، فمرة يستطيع أن يشفي غيضه حيث يكون قادرا على إيقاع العقوبة بمن أغضبه، وأخرى يغضب ولكنه يعجز عن فعل أي شيء تجاه من أغضبه، وهذه الحالة الثانية هي التي تسمى غيظا.
وقد استعملت في القرآن الكريم في مواضع عديدة أكثرها في الكافرين، ومرتين وصفت بها جهنم، ومرتين وصف بها المؤمنون.
قال تعالى: ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ))
وقال: ((هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))، وقال تعالى عن جهنم: ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ))
وأما عن المؤمنين فقال: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)).
فالإغاظة مبدأ قرآني مارسه الله تعالى مع أعدائه، وأمر المؤمنين أن يمارسوها معهم، من باب الحرب النفسية لتحطيم معنويات العدو وإضعافه وهزيمته من الداخل.
والموطئ: هو الأرض التي توطئ بالأقدام، والآية الشريفة مطلقة لا تختص بنوع معين من الوطء، فكل خطوة يخطوها مؤمن سواء أكانت في طريق الجهاد في سبيل الله، أو في سبيل إحياء شعائر الله، أو لإقامة فريضة معينة، تعدُّ قرآنيا عملا صالحا يثاب عليه العبد طالما كان ذلك العمل مما يغيظ الكفار والمنافقين.
ومن المؤكد أن الجموع المليونية الزاحفة الى كربلاء مشيا على الأقدام ومن شتى مدن البلاد، تشعل النار في قلوب أعداء آل البيت ع من كفار ومنافقين وتغيظهم وتشعرهم بالعجز، وأن أساليبهم الخبيثة التي مارسوها في سبيل إيقاف هذا المد الزاحف من القتل والتفجير والدعايات المغرضة قد ذهبت أدراج الرياح ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)).
وهذه الممارسة (الإغاظة) بذاتها تعد عملا صالحا كما نص القرآن في الآية المباركة، فضلا عما يناله الزائرون من الأجر والثواب على نفس الزيارة، خصوصا إذا كان فيها تعب ومشقة كما هو الشأن في الزيارة مشيا على الأقدام، ومن أماكن بعيدة فإن أفضل الأعمال أحمزها _أي أشدها مشقة_، ومن هنا على الزائر أن يستحضر ما يمكن استحضاره من معان ونيات في هذه الممارسة العبادية، وسيثاب إن شاء الله بعدد تلك النيات وإن كان العمل واحدا من باب تداخل المستحبات، فيمكن أن يقصد في مشيه الزيارة قربة الى الله، وأن يقصد فيه إغاظة الكافرين والمنافقين، وأن يقصد به حبس نفسه على الله بالعبادة طيلة الأيام التي يمشي فيها، بترك المعصية، والمداومة على الذكر من التحميد والتهليل والصلاة على النبي ص وآله.
أما المبدأ الثاني الذي تناولته الآية فهو: النيل من العدو
نال من الشيء أو الشخص يعني أوقع به إصابة أو ضربة، وهي لا تختص بالأشياء المادية بل تتجاوزها الى الأمور المعنوية، فعندما يشتم شخص شخصا مثلا يقال نال منه، والآية الشريفة أعم من أن يكون النيل من العدو ماديا كأخذ أمواله، أو إيقاع ضربة عسكرية به، أو إيقاع ضربة نفسية به، بل لعل الضربة النفسية _أي تلك التي تؤلم النفس_ أشد تأثيرا في العدو من سابقتيها.
ولا ضربة أشد ولا أقوى من حركة الجماهير الى كربلاء، حيث تشعر أعداء الله ورسوله بالذل والهوان والهزيمة، لذلك جاء التأكيد من قادة الدين على أهمية زيارة الحسين ع وخصوصا في الأربعين، لأنها أصبحت عنوانا لعز الشيعة وتلاحمهم، وتفانيهم في خدمة آل البيت ع.
والخلاصة: لا تخلو شعيرة المشي الى كربلاء في زيارة الأربعين، خصوصا بهذه الأعداد المليونية، من إغاظة للكافرين تشحن صدورهم هما وألما، وهي ضربة شديدة توجهها الجماهير المؤمنة الى صدور الكفار والمنافقين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الهادي الطهمازي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/10/20



كتابة تعليق لموضوع : إغاظة الكافرين بزيارة الأربعين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net