الدولة المدنية .. مؤسسية لا شخصنية
د . عبد الحسين العنبكي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . عبد الحسين العنبكي

كان طاغية العراق يجثم على ملايين الصدور الشريفة من ابناء العراق المختطف من قبل جلاوزته ، وكانت شرذمة تستأثر بكل شيء ويسوغ لها كل شيء ، فالخيانة عندهم نضال والسحت عندهم هدية والتخريب في قاموسهم اعمار كما الهزائم عند قائدهم الضرورة الانتصار الاكبر ، وكان كل شي مشخصن بشخص الطاغية والدنيا في بلد المحرومين تدور في فلكه وفلك ازلامه .
تنفسنا الصعداء عندما اسقطنا الصنم وشعرنا للوهلة الاولى اننا احرار في دنيانا ، ونسينا ان الصنم الاكبر هو في دواخلنا ولازال حيا وفاعلا ، وادركت حينها ان الصنمية وباء البقاء مدة طويلة تحت حكم الطغاة ، وباء عدم التجرد ، وباء عدم الموضوعية وباء التحيز في كل شيء دون ان يعترينا حساب الضمير ، نظلم ونبتسم ، ضحايانا تتألم ونحن نحتسي شراب الزهو ونشوة التشفي وحب الاستحواذ والتسلط .
حلمنا بدولة مدنية ، والمدنية تعني ان لا أحد يتحكم بأحد وفقا لمعطيات شخصية او انتمائية حزبية كانت ام عرقية دينية كانت ام مذهبية ، وانما الفصيل الحاكم في الحقوق والامتيازات هو القانون والتعليمات والمعايير المؤسساتية الموضوعية ، معايير لا تقبل التبعيض ولا تنظر الى الخلفيات والانتماءات وليست لها زوايا مختلفة فكل زواياها متشابهة فيأتي كل شخص يخضع لهذه المؤسسة او تلك لحمل ما علق في قانونها من مسؤليات ويتمتع بما ورد فيها من صلاحيات وتصله حقوقه كاملة ومتساوية كما اقرانه جميعا حتى لانجد غمزا ولا تلميحا ولا اماءة من قريب او بعيد تدعم هذا او تثبط ذاك ، وهي دولة نتغنى بها في مجالس المديح كما في مجالس النواح ونركنها – للاسف – جانبا في ميادين التطبيق .
ترى، أين منا أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام ) الذي جسد الانتماء المؤسسي والعدل المؤسسي بأرقى درجاته ، فعندما كان القائد الاول في المؤسسة العسكرية للرسول الاعظم (صلوات الله عليه واله ) كان كرارا اختارته السماء ليقلع باب خيبر ويصرع بطلها (مرحبا ) وكان مثال الجندية والاخلاص في عمله لايحيد عن معايير المؤسسة التي ينتمي اليها ، مؤسسة تبليغ الرسالة المحمدية الشريفة والعدل الألاهي ، وعندما دفع عن حقه والمرتبة التي رتبه الله بها ، عمل في بساتين اليهود يسقي نخيلهم ردحا من الزمن وكان مخلصا غاية الاخلاص في أداء عمله حريصا على أتمامه على أفضل وجه لا يفرق بين نخيل فلان ولابستان فلتان ، لانه ببساطة انتمى الى مؤسسة مدنية اخرى اسمها (العمل الاجير ) ، وأراد ان يقول لنا ألتزموا بعقود العمل المبرمة مع رب العمل مهما كان وضعه حكومة او قطاع خاص مسلم او يهودي ارفع منك شأناً او أدى، لا فرق في ذلك ، هذه الرسالة العظيمة التي اراد امامنا ان يوصلها الينا وجسدها في سلوكه ، فاذا كان هذا مثالنا الذي نتعبد به ونبكي لمظلوميته ومظلومية اولاده (عليهم السلام ) ، ترى من اين جاءت الشخصنة التي تغص بها صدورنا المريضة ، لماذا ننتسب الى مؤسسة علي (عليه السلام ) ونمارس معايير مؤسسة معاوية ، لماذا المعايير تتكيف والتعليمات تتكيف وفقا للاهواء ودرجات التزلف والقرابة والمصالح ، ألم يقل امامنا (اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا الحق بالرجال ) لان الحق هو الاصل ، ومن اين يأتي يفترض ان نصطف معه لا ان نصطف مع رجال ثم نضع حكما مسبقا بأن كل مايصدر منهم هو الحق ، وتلك لعمري قمة الصنمية ، ترى لماذا ازلام التخريجات الفقهية والقانونية والحيل والفذلكة هم المقربون ، والحريصين على الحق والعدل يستعبدون ويهمشون ، دولة كهذه بالتاكيد ليست دولة مدنية وليست دولة العدل التي أرادها محمد وآل بيته (عليهم الصلاة والسلام ) ، فالدولة المدنية هي عندما تعجز فيها التدخلات الشخصية عن ممارسة التأثير ، او بتعبير اخر ،عندما لاتوجد فيها ثغرات لتدخلات شخصية ولا توجد حاجة اصلا لتدخلات شخصية ، فالقانون المؤسسي ينطبق على الجميع ، ولا أحد فوق القانون فيتمادى ولا احد يهضم حقه بالقانون فيتمرد ويسخط ، اما في دولة لاتصلك حقوقك المثبتة في لوائح المؤسسة الا بهدر ماء وجهك او دفع الرشا او الاستعانة بشخصنة (الواسطة ) وواضع التعليمات المؤسسية ورئيس المؤسسة ومدرائها هم أول من يكفرون بها لصالح الشخصنة ، فان دولة كهذه لاتربطها المعايير الموضوعية تبقى تائهة في بحور الازمات والاختناقات والمشاكل والتخلف والفقر والسخط المجتمعي وعدم الرضا المتبادل بين الحاكم والمحكومين وبين الرعية والمسؤولين .
ترى مسؤولية من بناء الدولة المدنية ، اذا كان المسؤولين عن المجتمع المدني هم اسراء للشخصنة والمصالح ، واذا كانت قراراتهم انتقائية تجدهم في قمة الانسجام والتودد والاريحية والتعاون والتسهيلات مع فلان وفي قمة التسويف والمماطلة والتأخير واللف والدوران والبحث عن الاسقاطات التافهة مع فلتان ، من اجل أعاقة العمل وعدم انجاز المهام بل قد يصل الامر بالبعض حتى مع استكمال كل المتطلبات الى حبس بعض المعاملات التي فيها انشطة تخدم المجتمع لعدة شهور وربما سنين في أدراج المدراء تحت ذرائع واهية مصبوغة بصبغة (التقوى) لانه معتكف في المسجد ربما أو ذهب للحج للمرة الثالثة او الرابعة لان الايمان والتقوى صارت انتقائية هي الاخرى يمارسها في مجال ويضرب بها عرض الحائط في مجال اخر دون ان يلتفت الى رسولنا الاعظم (صلوات الله عليه وعلى آله ) وهو ينادي ( الدين المعاملة ) و (العمل عبادة ) فاحرصوا على دينكم من خلال العمل والعدل والانصاف واحترام حقوق الناس وليس فقط من خلال العبادة ، لان العبادة هنا بلا ادنى ريب ستكون نفاق ورياء لانها لم تنه صاحبها عن المعاملات السيئة والاداء السيء وكل من يظهر دينا مصطنعا للناس أكبر من دينه المكتنز في صدره فهو بلا ريب يعد مرائيا ، ترى هل عدنا من جديد الى معاقبة من ينتقد اداء مؤسسات متهرئة لايسعى العاملين فيها الى العمل الجاد والمخلص لجعل الرواتب العالية التي يتقاضوها (حلالا)، هل يريد هؤلاء ان يتوسل بهم الناس المدنيون ابناء المجتمع المدني ويقدمون لهم فروض الطاعة وعروض اخرى لكي ينجزوا لهم ما هو حق لهم أصلا ، ألم يتحول بعض موظفوا الدولة الى (قطاعي طرق ) يجلسون خلف المكاتب الفارهة ولاتمر المعاملات من تحت ايديهم الا بعد اخذ حصتهم من الاتاوات والسحت ، ترى متى سيكون معيار مصلحة الوطن وتقدمه هو الفيصل بدلا من (ماذا تحصل )، متى تحل المؤسسية محل الشخصنية في بلد يطرد فيه الرجل الخبيث الرجل الطيب ، ألم تشعروا بعد بالمعاول التي تحملوها وتهدمون بلد كريم وشعب مدني متحضر آن له ان يستريح ، اللهم اني قد بلغت والعاقبة للمتقين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat