صفحة الكاتب : عبد الحسين خلف الدعمي

 بيتٌ من الشعرِ يــؤرخُ شـــاعراً ...!! 
عبد الحسين خلف الدعمي

  ياقاصد الطَّفِّ طُفْ في روضة الحرم   

                                              واحرمْ كإحرام من قد حـلّ في الحرمِ 
 فتلك روضةُ قُدسٍ قُدّســـت شـــــــرفًا 
                                              ثــــوى بها سبــــط طه ســـــيّد الأممِ  
    
    تشهد المنتديات الأدبية والأروقة الجامعية حركة دؤوبة في الإستظافة وتقديم البحوث والدراسات عن المشهد الثقافي الأدبي والمعرفي لأدباء وشعراء العراق عبر حقبه المتعاقبة ولكن اللافت إن تلك الدراسات والبحوث تُعنى بالشائع من الأسماء ولم تكلف تلك الجهات الباحثين والطلبة للإستقصاء والتحري عن ذواتٍ أفنوا حياتهم من أجل مَنْ حولهم وأمتهنوا الوعظ الهادف بتسخير أدبهم وقصائدهم لإستنهاض الهمم وبناء الإنسان وفق مكارم الأخلاق وغابــوا أو غيبـــوا فأندرست آثــارهم ولم يذكروا في محافـــل ( السهو والنسيان ) فالأنا الحاضرة قد أتت أكلها وأجهزت على من حولها إلا مارحم ربي فمن لم يتيسر له مَن ينفض عنه غبار الإهمال والنسيان بقيَّ مجهولاً وما أكثرهم والمجهولون هم أكثر بلاغة وفصاحة وعلماً وهذا ماأثبتته البحوث والدراسات التي أولت هذا الجانب بعضاً من الإهتمام ، والكثير من الشعراء والأدباء لم يتخذوا من الأدب سبيلاً للتكسب أو طلباً للوجاهة فهم كانوا مؤثرين في مجتمعهم لذلك كانوا بعيدين عن الأضواء زاهدين فيها لاينطقون إلا حين يكون للكلام وقع الفيصل (السيف) فلو قلبنا سفر الأيام الأدبية لوجدنا من هؤلاء الكثيرين وقد دَلتنا أبياتٌ من الشعر عليهم ولولاها ماكان لتلك الأسماء أن توثق أوتدرس والأمثلة كثيرة نذكر منها :    
               إن كان دين محمد لم يستــقم ......... إلا بقتلي ياسيوف خذيني 
هذا البيت دلنا على قائله ، والكثير يحسب إن الإمام الحسين أنشده يوم عاشوراء بينما قائله عن لسان الحال هوالعلامة الأديب محسن أبو الحب الكبيروالبيت دلنا على بقية القصيدة التي يقول فيها :  
هذا دمي فلترو صادية الظبى ...... منــــهُ وهذا للرماحِ وتيني
خذهــا اليكَ هدية ترضى بهـا ...... يارب أنت وليـها من دوني 
وهناك بيت آخر دلنا على شاعرية فذة أخرى إذ قال علي محمد الحائري : 
  ( كذب الموت فالحسين مخلد . يَمضي الزمانُ وذكره يتجدد )
          وقد غربت عن بالنا أغلب قصائد الشاعر البليغ همام بن غالب التميمي 
(الفرزدق) ولم تبق عالقة في الذهن إلا قصيدته :
(هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ 
                               وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ)
والأمثلة كثيرة وكثيراً مايخطيء المرء ( باحثاً أو ناقداً أو من عامة الناس ) إن أراد قياس شاعرية أحدهم على كثرة نتاجه الشعري في حين وثقت لنا الأسفار إن من الشعراء مَن خلدتهم قصيدة أوبيت شعر كما أسلفنا الإشارة إليه أرغمت الدارسين على الغور لمعرفة ذات الشاعر والبحث عن قصائد أخرى له وهذا ماينطبق على شاعرنا الخطيب الشيخ الأديب عبد الرضا الصافي فالبيت الذي ذكرناه في متن مقالتنا لميمية كتبها الشاعر تجاوزت المئتي بيت دلنا عليه لما فيه من قوة إسلوب وبلاغة وفصاحة وعلم فقد إختزل الشاعر موضوعاً كاملاً في بيتين الأول رافداً والآخر سانداً إذ يقول :
    ياقاصد الطَّفِّ طُفْ في روضة الحرم    واحرمْ كإحرام من قد حـلّ في الحرمِ 
    فتلك روضة قدس قدّســـت شـــــــرفًا 
                          ثــــوى بها سبــــط طه ســـــيّد الأممِ
نرى إن هذين البيتين يكتنزان بالدلالات والإحالات ( القرآن والسنة النبوية ) فهو يخاطب القاصد للزيارة بـ (ياء النداء) منبهاً الى إن المكان الذي أنت بالقرب منه هومكان مقدس لأنه يظم الجسد الطاهر لسبط رسول الله الذي قال عنه (ص) ( حسينٌ مني وأنا من حسين ) وفي هذا إحالة وتساؤل لماذا قال ذلك رسول الله والله قد أنزل آية التطهير في تنزيه أهل البيت فلماذا هذا الإفراد والتأكيد ..؟ ، وروعة البيت تتجلى بإقتران إسم المكان (الطف) بفعل الأمر (طف) إذ أعطى للمكان قدسية فجعله إمتداداً لمكة وأمر الزائر أن يؤدي شعيرة الطواف على قبر الإمام الحسين فبدونها لايكون إداء الفريضة قائماً .. لم يذكر المدينة (كربلاء) ولها أسماء عديدة وإنما ذكر (الطف) للتخصيص على مكان الواقعة فيكون موضعاً للقداسة ففيه الدعاء مستجاب وفي تربته الشفاء وهنا دعانا الشاعر الى الإحرام وقد يعني به أن يتطهر المرء قبل دخوله الحرم الحسيني ( جسداً وثوباً) وأنا أستبعد الإشارة في هذا الى شعيرة التطبير التي يرتدي مؤدوها (الإحرام) عند إدائها .. فإشارة الشاعر واضحة للقاصد في أي يوم من أيام السنة وفي أي ساعة بينما الشعيرة المذكورة تقام في فجر يوم العاشر من محرم الحرام ، والبيت الثاني هو تفسير وتأكيد لما ورد في البيت الأول لاغير حيث إن الحرم الحسيني هو إمتداد للحرم المكي لإن الإمام الحسين ضحى بنفسه وجاد بعياله دفاعاً عن الإسلام فلولا تضحيته لما بقي للإسلام أثرٌ أو لكان إسلام آخر غير إسلام محمد(ص) وقدس الله المكان الذي صرع فيه الحسين لإحتوائه على الجسد الطاهر لبضعة رسول الله فلولاه لم يكن هذا المكان إلا خربة من خرائب النصاري التي لازالت آثارها قائمة في النواويس وغيرها .. ولو أردنا الإسهاب في الحديث عن هذا البيت ودققنا في المفردات التي إستخدمها الشاعر الصافي كان لزاماً علينا أن نفرد بحثاً آخر وقد لانبلغ فيه المرام فهو حاملٌ لسر معناه لقوة إسلوبه وجودته وجزالة لفظه والمتتبع لقصائد (الصافي) يلمس إنها إمتداد لمدرسة الشعر التقليدي في أغراضه / المديح والرثاء والوجد والشكوى والإخوانيات بيد إن شاعرنا الصافي لم يكتفِ بتلك الأغراض التي خبرها وكتب فيها بتميزٍ ملحوظ فأمتد يراعه الى فنون شعرية أخرى لتضاف الى بلاط شاعريتة كـ (التخميس / الإمضاء / تدوين التأريخ شعراً ) وهذه المهمة لاينفذ إليها أوينشد فيها إلا مَن كان على دراية ومعرفة وإطلاع تام بهندسة بناء البيت الشعري وعلم الأرقام فما قام به الصافي لايتيسر لكل شاعر حتى وإن كان على موهبة فالموهبة تقف عند حدودها والعلم وعاءٌ آخر والتداخل فيما بينهما ينتج عنه الإبداع المنشود لذلك نقول إن العلم والدراسة الأكاديمية هما وسيلتا ترصين وتهذيب للموهبة وليس العكس صحيحاً كما يدعيِّ البعض .. ومن اللا فت أن نجد إن أغلب قصائد شاعرنا تحمل إمضاءه (الختم الشخصي) كما وجدناه في (شمس منازلها القلوب ، حب الولاء ، روضة القدس ، حب الحسين ، روض الجنان ، أين الأُلى ، الحزب الغشوم ، أفيقوا ، ....) وغيرها حيث إن أية قصيدة لاتحمل إمضاء (الصافي) يشك في نسبتها إليه ومن حرصه الشديد على ذلك أن يهاجم السلطة بقصيدته (الحزب الغشوم ) وهي في أوج جبروتها ويضع إمضاءه (الصافي) عليها في زمن كانت تكتب وتنشرفيه القصائد السياسية المعارضة بأسماء مستعارة أو تترك بدون ذكر نسب لها طلباً للسلامة . 
 فالشعبُ لايرضى العراق يســوده       
                                   حزبٌ غشــــومٌ خائب الآمالِ 
مَن ســلَ سيفَ البغي يقتلُ مسلماً        
                                       ظُـــلماً يُصـابُ بسيفهِ القَتـالِ 
حتـى يُرى (صافي) المياهِ مخالطاً    
                                       بدمائهم في بحـــرها ورُؤآلِ
أو كما قال في قصيدته (حب الولا) التي أنشدها بحب الإئمة الإثني عشر ذاكراً فيها أسماءهم :
و كلــــهم شــــفعــــــاءٌ للـــذي لـــهُــمُ  
                             أبدى الولاء بـ (صافي) القلب مَحضهُ
أو قوله في روضة القدس :
عبـــــــدكَ العاصي فقيرٌ    وافـدٌ بالخُلــدِ يطمــــــعْ 
وبـ (صافي) الودِّ يـرجو   منــك في الحشرِ لتشفعْ

أو قوله : ( هو نفثةُ المصدورصاغ قريضها   
                              (صافي) الضميرِ بخالصِ القرباتِ )
وفي تخميس القصائد له القدح المعلى فقد خمس البيت الذي يُنسب الى الإمام الحسين (ع) وهوغير ذلك:
تركتُ الخلق طراً في رضـــاكا  
                              وأيتــــمتُ العيـــال لكي أراكا 
فلو قطعتنـي في الحب إربـــــاً  
                               لما حَـنَ الفؤآدُ إلى ســـواكـا
فقد هــامَ الفـــؤآد إليكَ حُبـــــاً    وهاج الشوق في لقياكَ قربــاً
وهان الخطبُ مني فيـكَ عذبـاً     فلو قطعتني في الحُـبِ إربــــاً 
                   ( لما حَنَ الفؤآدُ الى سـواكا)
وتخميسه لبيت الشعر :
نـــذرٌ عليَّ لإن عـادوا وإن رجعــوا  
                            لأزرعَـــن طريـــــقَ الَعَـودِ ريحــانـا  

هُمُ البــدور لمحـقِ الشـر قد طلعــوا 
                             من طِيبةٍ ومضوا عني وما أنقطعوا  
قلبي لهـم بالأسى والحـزن ينصـدعُ 
                           (نـذرٌ عليَّ لئــن عادوا وإن رجعـوا
              لأزرعَــــنَ طريــق الطف ريحـانـــا)  
      ونرى اليوم إن البعض يستسهل فن التخميس الشعري فلا بد من الإشارة هنا إن الأصل ليس في إتقان صياغة البيت وتشطيره بالتخميس وإنما قوة التخميس كامنة في أنك تأتي بما يساوي الأصل في المعنى والمبنى والبلاغة أو أن يفوق عليه وإلا فيكون التخميس نوعاً من العبث اللامجدي . 
    ومحطة أخرى في شاعرية الصافي لابد من التوقف عندها ألا وهي إجادته لتدوين التأريخ شعراً فقد أشتهر بهذا الضرب من الشعر وأصبح مرجعاً فيه وخاصة بعد وفاة الشاعرمرتضى الوهاب الذي كان لايجارى في هذا الضرب من الشعر وأرخ الصافي الكثير من المناسبات في الأفراح والأتراح ومنها على سبيل المثال لاالحصر إنه أرخ يوم وفاة أستاذه (الجلالي) بقوله: 
       وإليكَ ضجت كربــــلا فكأنهــا   
                                 يومُ الطفوفِ تنــوحُ بالحسراتِ
       فُجعَت بيــوم الأربعينَ مؤرخاً  
                                (أنعِمْ بمثــوى مُحسنِ الحسناتِ)
                                                                   1396هج  
ومؤرخاً لتأريخ قران السيد علي نجل العلامة السيد مهدي الموسوي الكاظمي إذ قال : 
ياروضة الأنس فخراً أرخيه ( بدا    
                               قـرانُ عقـد عليٍ تَــــمَ بالفــــرحِ)  
                                                                   1408هج 
          من خلال ماتقدم من الإستقراء لقصائد الشاعر الشيخ عبدالرضا الصافي يجد المتفحص لتلك النصوص دلالات النبوغ واضحة جلية تزينها ذاكرة زاخرة بالعلوم المعرفية والعرفانية لذلك جاءت القصائد رصينة المبنى راكزة المعنى متسامقة في بلاغتها رائعة في فصاحتها .. الشعركان ينساب شهداً على لسانه ليفصح عن عذوبة بيانه ، يمتلك الصافي مخيالاً شعرياً قلما نجده عند غيره من الشعراء ، فهناك فرقٌ شاسع مابين الناظم والشاعر.. فالناظم هو من إتقن أبجدية الشعر وأمتلك ناصية الوزن والقافية ونحو اللغة بينما الشاعر هو من حباه الله بموهبة الشعر إذ تأتيك قصائده قلائِدَ من فرقد وماس وجواهر إذ لم يشغل باله بالوزن وعللهِ وعلى أية تفعيلة كتب فالقصيدة ستنبأه فيما بعد من أي بحر هي فيتبنى حينئذ دراستها وتهذيبها وفق النظرية الفراهيدية والظرورات النحوية ، والشاعر الصافي وفقاً لما أطلعنا عليه من نصوصٍ أدبية كانت تجتمع عنده الصنعتان ( النظم والشعر) فكان في قصائده الوطنية صوتاً للبسالة والتحدي لايخشى في قولة الحق لومة لائم وفي قصائده العقائدية كان شاعراً مُجيداً يشار إليه لما أنشده من غررالكلام المقفى في حق سدنة العرش الإلهي أهل البيت عليهم السلام فتألق في هذا المنحى بفعل المدد الرباني حيث تيسر للشاعر الصافي من العلوم المعرفية مالم يتيسر لغيره بفعل إطلاعه على كنوز الأدب العربي وتدريسه لعلوم اللغة وأصول الدين وفقهه فكان أثر ذلك واضحاً فيما دونه من قصائد هي فرائد إن قيست بغيرها أضاءت لنا طريق البحث والسبيل الى دراسة شاعرية الشيخ الشهيد الشاعرعبدالرضا الصافي لنقف على بعض من ثروتنا الأدبية المستودعة فيه .
                                                                                          عبدالحسين خلف الدعمي كربلاء


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبد الحسين خلف الدعمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/03/04



كتابة تعليق لموضوع :  بيتٌ من الشعرِ يــؤرخُ شـــاعراً ...!! 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net