صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب(1)
ادريس هاني

 ولما كان الشعر هو ديوان العرب، تعبّأت القصيدة لتحمل رثاء الإمام الحسين ولتخلّده كأبي الأحرار..تقاطرت حروف الشعر كما الدم لتصور روعة التضحية لذبيح قدّم نفسه قربانا لله وعنوانا بارزا لتاريخ العدالة.. في الشعر العربي تتجلّى فلسفة الحسين كلها..وجمالية الشخص وجلال ثورته..وتأتي في رأيي وذوقي تائية دعبل الخزاعي كقائم مقام الشعر الحسيني ورئيسة القصيدة الكربلائية برسم الجغرافيا السياسية للقصيدة وليس للشاعر..فهي أدمعت من لا يدمع..وأبكت من لا يبكي..في حضرة الإمام الرّضا ومجلسه العامر حيث كان الأئمة من بعد الحسين قد ربطوا مصير إمامتهم بالحدث الحسيني..وذلك لما كانوا قد قرروا بأنهم سفن النجاة، ولكن سفينة الحسين أسرع.. يستجلب دعبل الخزاعي وهو من أبرز شعراء أهل البيت دموع الزهراء..صاحبة بيت الأحزان..تلك التي بكت أباها وهي تستحضر كبائر ما جرى من بعده:
ماذا على من شمّ تربة أحمد...على ألا يشم مدى الدهر غواليا
صبت علينا مصائب....لو صبت على الأيام صرن لياليا
حزن الزهراء بمثقال الكون..ودموعها فيض من الملكوت..دموع العالمة غير المعلمة..كذب لامانس حين تبنّى موقف الأموي التي حملها كلام زنديق الإسلام الحراني لما أنزل من قدرها حتى رضي إبليسه اللعين في منهاج سنة النّاصبي..أما ما جرى به لسان دعبل وهو يستند إلى قوة الخيال/الواقعي:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا...وقد مات عطشانا بشط فرات
إذن للطمت الخذ فاطم عنده...ولأجريت دمع العين بالوجنات
الباكي على الحسين هنا هي الزهراء..ماذا كان لو أنّها حضرت المقتل..أي حزن..وأي أنين..هل تعلمون إذن أن دعبل الخزاعي في هذا التخييل الواقعي قد اعطانا تفسيرا حقيقيا وراء الحكمة من عدم تعمير السيدة الزهراء..إذا كانت الزهراء قد أذرفت أنهرا من الدموع في لحظة وجيزة من فقد أبيها التي كانت بمثابة أمّ له، فماذا كان سيكون لو عاصرت كل ما حلّ بآلها من خطوب؟ وماذا لو عمّرت لترى جسد ابنها المدلّل تدكّه سنابك الخيل؟؟ إنها لم تحضر..الأمومة الغائبة..لكن بديلا عنها سيحضر ويعطينا فكرة عن الزهراء..بنتها النجيبة..السيدة زينب غريبة الغوطة وقمر بني هاشم..العالمة غير المعلمة..التي نقلت كل ألم كربلاء إلى العالم..يستمر رثاء دعبل للحسين والركب الذين قضوا من بعده ملهمين بثورته حاملين ثأره في ضمائرهم:
توافوا عطاشا بالعـراء فليتني ...توفيت فيهم قبل حين وفاتي
إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم...سقتني بكأس الثكل والفضعات
خلود ذكرى كربلاء في ضمير الأحرار تحوّل إلى ملهم فكري وشعري..وهو بمثابة عقد اجتماعي للخروج من حالة الاستسلام إلى حالة اليقظة..فالمبدأ الأوّل في هذا العقد أن تتذكّر..وأن تتذكّر معناه أن تتحرك فيك آلام الحسين التي وجب أن تغطّي على ألامك وتنقل أحزانك من أحزان شخصية إلى أحزان حسينية، بها يصبح حزنك لله لا لذاتك..حزنا لقيم كبرى ذاب فيها الحسين حيث يجب أن تذوبوا فيه كما ذاب هو في المبادئ..تقترن الذكرى بالدموع..تعبيرا عن الرباط المقدس بين العقل والقلب..
سأبكيهم ما حـج لله راكـب ... وما ناح قمري على شجرات
فيا عين أبكيهم وجودي بعبرة ...فقد آن للتكساب وآلهملات
وفي مورد آخر يقول دعبل:
سأبكيهم ما ذر في الأرض شارق ... ونادى منادي الخير للصلوات
وما طلعت شمس وحان غروبها ...وبالليل ابكيهم وبالغدوات
والذكرى واجبة..والبكاء فرض..ولا خير فيمن لم يبكهم ولا أحزنه مصابهم..لشدّ ما هي قاسية قلوبهم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة..فمن لم يبك حسينا لن يبكي على أمر ذي جدوى..ومن لم تحرك مأساة الحسين شيئا في عقله وقلبه فهو ليس في عيشة راضية..والمحاجر التي بكت مآسي عارضة ولم تبك مأساة الحسين فهي غير وفية لسلم الحقائق..إنّ مأساة الحسين التي أرخ لها في بداية الستين من العام القمري، هي من حيث تموضعها الأنطلوجي هي أم المآسي والتضحيات التي وجب أن يدور حولها وجود البشر..فالحسين ضحّى تضحية سلسة في سبيل الآخرين..وكان يباشر جيشا نظاميا بكامله ولا اهتزت فرائصه ارتعابا..هنا منتهى الشجاعة والتضحية..وما الإمامة إلاّ أن ينسدر منك القول الحق زلالا وتندلق من منبعك العلوم والحقائق والعدالة بما لا يشكّ فيه الناس من حولك..أفلا يستحق من كان هذا فريه كلّ هذا الاستذكار لمصابه الخطير الجلل..
ألا فابكهم حـقا وبل عليهـم ... عيونا لريب الدهر منسكبات
ولاتنس في يوم الطفوف مص...ابهم وداهية من اعظم النكبات
يستحضر دعبل مفارقة الظلم..حين ينكسر الأشراف ويستكبر الطغاة..حالة ثأر جاهلية تتكرر كلّما أسند أمر هذا الدين لغير أهله..كلّما نزى على منبر الرسول قردة من الشجرة الملعونة في القرآن..كلّما ماعت الحقيقة وتلبّسها قوم جاهلون وجاهليون..ففي كل عصر تجد لهم نظائر تشيب من مفارقتها الولدان..حين يزايد اهل الباطل على أهل الحق بالحق الذي أهدوا فيه أرواحهم فداء..وكانوا فيه من أهل البيت..بيت الإسلام..والباقي هم ضيوف في أعناقهم التقدير لأهل الدار..فلا أحد هناك وجب أن يفقد احترامه لأهل الدار..ولا أحد يتقدّمهم من دون استئذان..هذا هو معنى أهل البيت..ولكن تصوّر أنّ أغرابا دخلوا دارا ولم يستأذنوا..وسابقوا أهل الدار في دارهم..وأهل البيت في بيتهم..وتعالموا عليهم في ما هم فيه أئمة وحكموا عليهم فيما هم فيه قضاة واستضعفوهم فيما هم فيه سادة..أي مفارقة تلك حين تنقلب تراتبية القيم..وتضمحلّ أنظمة الحقائق والأشياء..والصورة ـ صورة المفارقة ينقلها لنا جعبل الخزاعي حين يقول:
بنات زياد في القصور مصونة ... وآل رسول الله منتهكات
وآل زياد في الحصون منيعـة ....وآل رسول الله في الفلوات
ديار رسول الله أصبـحن بلقعا .... وآل زياد تسكن الحجرات
وآل رسول الله نحف جسومهم .... وآل زياد غلظ القصرات
وآل رسول الله تدمى نحورهم .... وآل زياد ربة الحجلات
وآل رسول الله تسبى حريمهم .... وآل زياد آمنوا السربات
إذا وتـروا مدوا إلى واتريهم .....اكفا من الوتار منقبضات
انقلب نظام البيت..فانقلب الإسلام نفسه حيث قال علي بن أبي طالب: ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا..انقلب كلّ شيء وبات همّ المصلحين أن يعيدوا تأثيث المنقلب..وترتيب ما فقد نظامه..فلا ترتيب من دون عودة النظام..ألم تقل فاطم أنّ إمامتنا نظام للملّة..لقد انقلب النظام إذن حينما بات ابن زياد مبسوط اليد..وحين اصبح يزيد هو من يقرر مصير هذا الدين ويعبث بأصوله كما كان يعبث مع قروده..كما يعبث به أحفاده عبر التاريخ من أولئك الذين اختزلوا الدين في ذبح الإنسان..هي لعبة تشبه لعبة القرود التي دشنها يزيد اللعين..ظلت كربلاء شاهدا على هذه اللعبة القذرة..كان الحسين يومها هو الإسم كله وهو المصير كله وهو التاريخ كله وهو الحقيقة كلها..لقد كان لا بد أن يموت ليستقيم دين جده كما كان على المحجة البيضاء:
إن كان دين محمد لن يستقيم ....إلاّ بموتي فيا سيوف خذيني
تدرك قيمة الإمامة في التضحية..وقد منح الإمام الحسين للإمامة قيمتها المعنوية وشرطها العظيم: التضحية والشجاعة بعد العلم..فمن لم يكن مضحيا وشجاعا وعادلا لن يكون إمام..(لا ينال عهدي الظالون)..مفهوم آخر للإمامة لا عهد للأقوام الشارذة به إلاّ إن هي أدركت أساساته في علم كلام الحسن والقبح الذاتيين والعقليين..في أصل العدل الإلهي..في قدسية العدل ورفض كل أنواع الظلم على الله..الإمامة عقد مسبق وعميق وعريق على شرط التمحض للحقيقة والحق ..والعدالة والإحسان..والتضحية والشجاعة...ومن هنا كانت سفينة الحسين أسرع..وبراهينه أبلغ..وتضحيته أبكى وأمرّ..رحم الله دعبل وهو يقول:
سقى الله أجداثا على أرض كر ... بلا مرابيع امطار من المزنات
وصلى على روح الحسين حب ....يبه قتيلا لدى النهرين بالفلوات

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/22



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب(1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net