صفحة الكاتب : د . منتصر الحسناوي

لهجة جدتَّي؟
د . منتصر الحسناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كانت جدتَّي لأبي من عوائل العلماء في مدينة النجف "المشاهدة داخل السور"  كانت اللهجة النجفية الأصيلة جزءاً لا يتجزأ من هويتها على الرغم من إنها عاشت معظم حياتها معنا في ناحية الحرية على بعد حوالي 30 كيلومتراً  فقط من مدينة النجف، لكنها لم تتخلَّ يوماً عن لهجتها التي اعتدنا سماعها  "وَكَع"، "الله سَتَر"، "ما انّْكَسَر"، " گَّفا القَنطور"، وغيرها من الكلمات العربية الفصحى أو الأعجمية المعدّلة التي تُمدُ بالفتح غالباً لتأثرها ببعض السمات الصوتية والتراكيب اللغوية التي نشأتْ بفعل البيئات الثقافية المختلفة التي مرّت بها المدينة، بينما اعتدنا نحن على لهجتنا الريفية، جماعة "الچا" إذ كانت تنظرُ إلينا وكأننا غرباء، وتنادينا بـ"المعدان"، ولا تكف عن التذمر بمحبة ولطف، فتقولُ ممازحةً: "شجابني عليكم؟".
 
أكثر من ستين عاماً لم تؤثر على لهجتها وبقيتْ محافظة عليها.
 
اليوم، حين أتذكرها، أدرك أن المسافة التي تفصل بين النجف والريف لم تكن مجرد كيلومترات قليلة، بل كانت حدّاً لغوياً يفصل بين لهجتين مختلفتين، كل منهما تحمل طابعها وتاريخها. لكنني أتساءل: هل كانت جدتّي قادرةً على الحفاظ على لهجتها لو عاشت في زمننا هذا، حيث باتت تختفي الفروق اللهجية ولا سيما داخل المدن، وأصبح من الصعب التمييز بين البغدادي والبصري، أو بين النجفي والأنباري؟
 
هل بدأت اللهجات بالتآكل أم طغت اللهجة "الهجين" بينها ؟
 
في الماضي، كانت اللهجة جزءاً أصيلاً من هوية المكان، تعكس الانتماء الجغرافي والاجتماعي وكان من السهل أن تُحدد من أين ينحدر الشخص بمجرد أن يتحدث، أما اليوم فقد أصبحت الحدود اللهجية بين المدن والمناطق أكثر ضبابية، بل إن هناك لهجة عراقية هجينة بدأت تحل محل اللهجات الأصيلة نتيجة عدة عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية. أحد أهم هذه العوامل هو التنقل السكّاني الواسع، إذ أدت الهجرات الداخلية، سواء بسبب الحروب أو الظروف الاقتصادية أو البيئية، إلى تداخل اللهجات وتأثرها ببعضها، سكان الريف الذين انتقلوا إلى المدن والعائلات التي اضطرت للانتقال بين المحافظات، كُلها وجدت نفسَها أمام ضرورة التكيّف مع بيئاتٍ لغوية جديدة كنوع من الاندماج مما أدى إلى تداخل اللهجات وتغيّرها.ثم جاء الإعلام والتكنولوجيا الحديثة ليزيد من هذا التغيير بأثر تراجع دور الجغرافية ودخول العولمة فالتلفزيون والراديو، ثم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، جعلت الجميع يسمعون لهجات مختلفة بشكلٍ يومي. لم يعدْ الشاب النجفي يسمعُ لهجة مدينته فقط ، بل يسمع البغدادية، والبصرية، والكردية، والسورية، بل وحتى العربية الفصحى والإنجليزية، ما جعله يتبنى كلماتٍ وتعابير جديدة دون أن يشعر، مثل "أبديت" بدلاً من "تحديث"، و"فولو" بدلاً من "متابعة"، و"سيستم" بدلاً من "نظام" الخ. ولم يقتصر ذلك على لغة الشارع بل امتّد إلى كثيرٍ من المؤسسات التعليمية التي تتبنى الحداثة ولا سيّما الأهلية (الأجنبية) التي قد تُسهم  أيضاً في إضعاف اللهجات المحلية ولا سيّما لدى الأجيال الناشئة .كذلك أصبح الشباب أكثر ميلاً للتحدث بطريقة "محايدة" بعيدة عن الخصوصيات اللهجية في الأماكن الرسمية والمهنية، ويفضّلُ الكثيرون استعمال لهجةٍ قريبة من الفصحى أو هي خليط من اللهجات مما قلّل من استعمال اللهجات التقليدية ولا سيّما في المدن الكبرى حيث التنوع السكاني أكبر.
 
كيف نحافظ على اللهجات؟
 
على الرغم من كل هذه التغيّرات إلا أنَّ  هذا الأمر قد يكون تطوراً طبيعياً وعالمياً  وهو لا يعني فقدَ الهوية اللغوية المحلية تماماً ففي النتيجة أن اللغات ليست جامدة وهي تتطور بشكلٍ مستمر باستمرار الحياة، بل نحنُ نعيد تشكيلها بقصدٍ أو دونه، ومع ذلك فإن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين التطور الطبيعي والحفاظ على التراث اللغوي.أحدى أهم الوسائل في هذا السياق هي العائلة ابتداءً، فهي الأهم في الحفاظ على هذه اللهجات ثم تأتي بعد ذلك المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإعلام المحلي وهو من الأهمية بمكان، إذ يُمكن للإذاعات والقنوات التلفزيونية المناطقية أن تسهم في إبقاء اللهجات حيّة،  عندما يسمع الطفلُ أو الشاب لهجته الأصلية تُستخدم في الإعلام بشكلٍ طبيعي وغيرِ متكلف فإنه يصبح أكثرَ ألفةً معها ما يعزّز من استمراريتها. كذلك إنتاج الأعمال الفنية باللهجات المحلية يمثلُ أيضاً وسيلةً فعّالةً في هذا السياق ولعلّ التفاعل الجماهيري مع  مسلسل "جنة ونار"، الذي تمَّ إنتاجه في الناصرية ونجحَ في تقديم اللهجة الجنوبية بطريقة طبيعية وجذّابة، ما جعل الأجيال الجديدة أكثر ألفة معها. مثلُ هذه الأعمال ليست مجرد ترفيه، بل تلعب دوراً ثقافياً في حفظ اللهجات ونقلها للأجيال القادمة دون تصّنع أو مبالغة.ولا يمكن أن نغفل دور الشعر الشعبي، الذي كان وما زال من أهم الوسائل التي تحافظ على اللهجات الموروثة .

فالشعرُ يشكل ذاكرةً لغويةً تحفظ مفرداتٍ وتراكيبَ قد تندثر في الحياة اليومية، فتكون هي عامل توثيق عبر الأجيال لكثيرٍ من اللهجات ونقلها بأسلوبٍ فني يجعلها قريبةً من الناس، بغض النظر عن التحولات اللغوية التي تطرأ على حياتهم.ولا أعرف إن كُنا سنصبحُ مثل جدتّي؟جدتّي التي تمسكت بلهجتها رغم أنها عاشت في بيئة لغوية مختلفة، لأن الزمن الذي عاشت فيه كان لا يزال يحافظ على حدوده اللهجوية. أما نحن، فنعيش في زمن لم تعدْ فيه هذه الحدود واضحة، مما يجعلُ الحفاظ على اللهجات تحدياً كبيراً، لكنه بالتأكيد ليس بمستحيل، بل يمكننا، عبر الإعلام، والفن، والشعر، والممارسات اليومية، أن نضمن استمرار هذا الإرث اللغوي الغني الذي يمثل جزءاً من هويتنا ، حتى لا يأتي يوم يُقال فيه عن لهجاتنا ما كانت تقوله "جَّدتي، حَّبوبتي، بيبيتي " عن نفسها: "شجابني عليكم؟".


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . منتصر الحسناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/02/14


  أحدث مشاركات الكاتب :



كتابة تعليق لموضوع : لهجة جدتَّي؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net