صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

تفسير سورة التوحيد
د . محمد تقي جون

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يكرر الله (جل جلاله) وحدانيته في قرآنه الكريم. والوحدانية ضد الشرك، وهو ما يتورط به الإنسان دائماً في كل زمان ومكان. ولعلّ السبب هو الاستغراق في الطبيعة الإنسانية، وعدم الارتفاع الروحي والإيماني الذي يجعل الإنسان مستوعباً (الله)، فيوحده ويفردنه. وهكذا كان الإنسان في كل مراحله يؤمن بالله الواحد ويثنّي عليه إلهاً أو آلهة تطمئن نفسه إلى التعاطي معها، ولا تطمئن تماماً مع الإله الواحد (الله) (جل جلاله) بمفرده، فيقع في الشرك كما قال عزّ من قائل (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) .
والآلهة كثيرة قد تكون أحجاراً (أصناماً). وقد تكون بشراً، أو مجموعة كحزب او منظمة. وقد تكون مالاً. وقد تكون أشكالا أخرى غير محددة؛ إذ أن الإنسان مولع بعبادة شيء ما، وهذا الولع يبدو ضئيلا ثم ينمو حتى يغم البصر والعقل.
في سورة التوحيد، وهي سورة أرادها الله أن تعبر عن الوحدانية بشكل كامل وصريح، وتعطي وجهة نظره في هذا الموضوع، نجد أن الله (عز وجل) يكبر بذكره الإشراك بالإنسان فقط. وهذا يعني أن الإشراك بالإنسان هو أقبح إشراك عند الله. وانه مهما ساء شركاً عبادة غيره كالأصنام والأموال وسواهما، فعبادة الأشخاص أسوأ شركاً.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
فكلمة أحد تدل على (ما يصلح أن يخاطب) ، ولا يقال أحد لغير العاقل. وهذا يعني لا أحد من الناس يصلح أن يكون الهاً. فالله هو واحد ولا احد من الناس مثله و نظيره. ولا تستقيم الجملة بجعل غير الإنسان محتملا للفظ (أحد) لا الأصنام (لأنها أشياء) ولا المال ولا النساء (لأنها منافع) ولا المنظمات والأحزاب والحكومات (لأنها متعددة في ذاتها). وهذا يعني ان هذه الجملة (التوحيدية) تعني ترك (عبادة الإنسان) والإشراك به دون سواه.
(اللَّهُ الصَّمَدُ)
 الصمد هو (السيد) لأنه يصمد (يقصد) إليه في الحوائج . ولم يستعمل العرب كلمة الصمد لسوى (القصد) مطلقاً، قال عمرو بن كلثوم:
إِذا صَمَدَت حُمَيّاها أَريباً       مِنَ الفِتيانِ خِلتَ بِهِ جُنونا
ولم تستعمله مع آلهتها، فلم يقولوا لصنم (الصمد) ولا خاطبوا بهذه العبارة الأصنام. وهذا يعني أن الله (جل جلاله) يقول لا صمد مقصوداً من الناس، بل الصمد المقصود للحاجات والعبادات هو (الله) العظيم فقط. ونفّر في آية أخرى من عبادة (الناس الصالحين الهداة) في قوله (تعالى): (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) . فالآية واضحة الدلالة على أن بعض الناس عبدوا أنبياء وأئمة هدى وصالحين: كالعزير (عليه السلام) وعيسى بن مريم (عليه السلام) والإمام علي (عليه السلام) وعدي بن مسافر (رحمه الله) وسواهم. وهؤلاء لا يكونون الله أبداً لأنهم بكل بساطة احتاجوا إلى هداية الله ليهدوا الناس، وهم يهدون إلى الله حتماً، ألا أن تقادم الزمن وازدياد محبة الناس وتعظيمهم لهم حولهم إلى آلهة تعبد علنا أو سرا وعن علم أو عن جهل.
 (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)
وهذه الجملة في الإشراك بالإنسان حصراً؛ لان الإنسان فقط يلد ويولد. فيقول الله العظيم للإنسان اعبدني أنا فقط لأني لم ألد ولو أولد مثلك، لأني خارج إطار الزمن خالد لا احتاج إلى عملية (الولادة) للاستمرار، تلك التي يعانيها الإنسان لأنه داخل دولاب الزمن فيهرم ويموت ويحتاج إلى الولادة ليبقى. ولا يقصد الله (سبحانه) في هذه العبارة غير الإنسان؛ فلا الأصنام تلد وتولد، ولا الأموال في الواقع أو سائر الجمادات والمنافع، وهذه آية دامغة على أن شر ما يراه الله في الإشراك هو الإشراك بالبشر.
(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
ويختتم الله (جل جلاله) السورة بتأكيد نفي الإلوهية عن الإنسان حصراً؛ إذ انه لا أحد (من الناس) كفوٌ لله وبمستواه في العبادة. فالآية لم تقل (كفوا شيء) فتخرج الآية إلى غير الإنسان كالأصنام ونحوها. بل أن الله قرأ باستهزاء تسمية الأصنام بأسماء مؤنثة، ووجد أليق بها بعدما الهت أن تسمى بأسماء ارفع لها من أسماء الإناث (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) . فنحن لا نحس بذلك الغضب من الله الذي تتوهج به وتسفر عنه آيات ذكرت آلهة أناساً.
وبهذا فان قراءة سورة التوحيد قراءة دقيقة تظهر أن أقبح إشراك يراه الله وعانته البشرية هو الإشراك بالإنسان وليس سواه كالأصنام والمنافع. وهذا يجعلنا نتعامل بحذر شديد في معتقداتنا، وان نجعل إسلامنا متطابقاً مع توجه القرآن الكريم ومفهوم الله للتوحيد الذي هو (أس الإسلام) وقد كرر الله (تعالى) في سورتين هذا المفهوم في قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) .
وآيات هذه السورة يفسر بعضها ببعض؛ فقد سأل أهل البصرة الإمام الحسين (عليه السلام) عن معنى (الصَّمَدُ)، فقال: ان الله (تعالى) فسّر الصمد بقوله (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، فهذه السورة هي عبارة عن آية واحدة في التوحيد مكررة بصور مختلفة من المعنى نفسه.



 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/01/20



كتابة تعليق لموضوع : تفسير سورة التوحيد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net