صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

أربعون يوماً.. بَعدَ الرَّسول !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

الثامنُ من ربيع الثاني، هو يومُ شهادة الزَّهراء عليها السلامُ على روايةٍ ! فَيَومُ شهادَتِها مُختَلَفٌ فيه، كاختلاف الأمة حول آل محمد عليهم السلام !

وللأيام الأربعين خصوصيتها عند الزَّهراء عليها السلام.. حيثُ كان بينَ زواجِها من عليٍّ عليه السلام في السماء وزواجها منه في الأرض (أَرْبَعِينَ يَوْماً) كما عن الباقر عليه السلام (دلائل الإمامة ص93).

ولها خصوصيتها عند المؤمنين، فلا يمرُّ على العبد المؤمن أربعون يوماً دون بلاءٍ من الله تعالى ! كما عن الصادق عليه السلام:

مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ يذكَّرُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً بِبَلَاءٍ يُصِيبُهُ: إِمَّا فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ، فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، أَوْ هَمٍّ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُو ! (مشكاة الأنوار ص293).

ولذا صارَ البلاءُ رفيقَ المؤمن منذ أيام آدم إلى ما شاء الله.. فهذا آدم عليه السلام: بَكَى عَلَى هَابِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَة ! (تفسير القمي ج‏1 ص166).

لكنَّ ما جرى على الزَّهراء كان أعظَمَ من بلاء آدم وأشقَّ ! وأصعبَ من بلاء المؤمنين وأشدّ !

فما بلاءات المؤمنين مجتمعةً أمام هَولِ ما جرى عليها ؟!
وكيف كانت أيامُها الأخيرة بعد شهادة النبي (ص) ؟!
سواء كان آخرها يوم الأربعين.. أو كانت الأربعين جزءً من هذا البلاء العظيم ؟!

يُعرَفُ بَعضُ ذلك من لسان أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله.. في رواية عجيبةٍ يرويها ابن عباس، حين دخلَ الحسنُ عليه السلام، ثم الحسين عليه السلام، ثم الزهراء عليها السلام، ثم أمير المؤمنين عليه السلام، وفي كلِّ مرةٍ يبكي النبيُّ صلى الله عليه وآله !

حتى قال له أصحابه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَى وَاحِداً مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا بَكَيْتَ !
أَ وَ مَا فِيهِمْ مَنْ‏ تُسَرُّ بِرُؤْيَتِهِ ؟!

سؤالٌ عجيبٌ من الصحابة ! هؤلاء أعَزُّ النّاس على رسول الله، وأقربهم إليه، فكيف لا يُسرُّ برؤيتهم ؟!
جَهِلَ هؤلاء الصحابة أو تجاهلوا سببَ بكاء النبيِّ صلى الله عليه وآله، وتوهّموا أو تظاهروا بأنَّ بكاءه ينافي سروره بهم !

فبادَرَ صلى الله عليه وآله إلى رفع هذه الشبهة بقوله: إِنِّي وَإِيَّاهُمْ لَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ !

ثم بيَّن فضائلهم واحداً واحداً.. وأوضحَ سبب بكائه..

فالزّهراء: بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ نُورُ عَيْنِي، وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ !

مَن ذا الذي يُدركُ أبعاد كلمات الرَّسول الخاتم صلى الله عليه وآله !

النبيُّ صلى الله عليه وآله يقول: يا جابر، أوّل ما خلق اللّه نور نبيّك، اشتقّه من نوره‏..
يا جابر، فالعرش من نور نبيّك، والعلم من نور نبيّك، واللوح من نور نبيّك، والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الإبصار من نور نبيّك‏ ! (غرر الأخبار ص195-197)

ثم يقول عن الزَّهراء: نُورُ عَيْنِي !

فهي (نورُ عينِ) الرَّسول.. والرَّسول نورُ الله تعالى !

فهي نورُ عين النّور !

أيُّ معنى هذا ؟!
ليس لمَن خُلِقَ من فاضل طينتهم أن يُدرِكَ عظمة حقيقتهم، ومقدار رفعة أنوارهم، وعلوّ درجتهم عند الله تعالى.. إلا أن يُدرِكَ قطرةً من بحر فضلهم ومجدهم وسؤددهم..

ثمَّ يكشفُ رسول الله ما يجري على (سيِّدةِ الإماء) فكان سبباً في بكائه.. وما أعظمَ كلَّ واحدٍ من هذه البلايا، فكيف وقد اجتمعت كلُّها على هذه العظيمة الجليلة ؟!

يقول صلى الله عليه وآله:
وَ أَنِّي لَمَّا رَأَيْتُهَا ذَكَرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي:

1. كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا !

لقد سئل الإمام عن حديث النبي (ص): مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبُيُوتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، فقيل له: بُيُوتُ النَّبِيِّ (ص) وَبَيْتُ عَلِيٍّ مِنْهَا ؟
قَالَ: نَعَمْ وَأَفْضَل‏ (الكافي ج4 ص556).

إنَّ بيتَها روضةٌ من رياض الجنَّةِ وأفضل.. وهو مهبطُ ملائكة الرحمان.. رغم ذلك أدخلوا الذلَّ بيتَها !
إنَّ أمَّةً تُدخِلُ الذلَّ بيتَ مُحَمدٍ وعليٍّ وفاطمة عليهم السلام هي أمّة الخذلان والرذيلة !
إن أمَّةً لا تتألَّمُ لما جرى عليها فتنصُرها هي أمَّةٌ قاسية القلب، وقُساة القلب أبعد الناس عن الرحمان عزَّ وجل.

2. وَانْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا

3. وَغُصِبَتْ حَقَّهَا

4. وَمُنِعَتْ‏ إِرْثَهَا

5. وَكُسِرَ جَنْبُهَا [وَكُسِرَتْ جَنْبَتُهَا]

6. وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا وَهِيَ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَلَا تُجَابُ، وَتَسْتَغِيثُ فَلَا تُغَاثُ !

هيَ الزهراء.. حرمتها من حرمة الله.. وحقُّها من حقّ الله.. وكلُّ ما جرى عليها تَجاوُزٌ لحدود الله..
وهي تستغيثُ.. لإتمام الحجة وإكمالها.. فهي عالمةٌ بما جرى ويجري..

ولئن لم تجد من ينصُرها في أيامها.. فقد حقَّ أن ينصرها الله تعالى ويغيثها.. وهو الذي كتَبَ لذلك أجلاً، أوَّلُهُ عند ظهور المنتظر عليه السلام، وآخره لا انقطاع له في يوم الحساب..

ثمَّ يذكر صلى الله عليه وآله عظيمَ مصائبها.. وكلُّ واحدةٍ منها داهية عُظمى، فيقول صلى الله عليه وآله:

فَلَا تَزَالُ بَعْدِي:

7. مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً

8. تَتَذَكَّرُ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً

9. وَتَتَذَكَّرُ فِرَاقِي أُخْرَى

10. وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا جَنَّهَا اللَّيْلُ لِفَقْدِ صَوْتِيَ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَيْهِ إِذَا تَهَجَّدْتُ بِالْقُرْآنِ

11. ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْنِسُهَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْمَلَائِكَةِ..

12. ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِهَا الْوَجَعُ فَتَمْرَضُ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ تُمَرِّضُهَا وَتُؤْنِسُهَا فِي عِلَّتِهَا.

فَتَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ: (إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الْحَيَاةَ ! وَتَبَرَّمْتُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا ! فَأَلْحِقْنِي بِأَبِي !)

لا حول ولا قوّة إلا بالله..
ليست الزَّهراء من أهل السآمة والمَلَل، لكنَّ حياةً تجتمعُ فيها هذه المصائب على أمثالها لا تستحقُّ أن تُرتجى !
وأهلُ دنيا لا يؤمنون بالله رباً ! ولا يمتثلون لمحمدٍ (ص) أمراً ! ولا يتركون لعليٍّ وفاطمة وآلهما حرمةً الا انتهكوها.. أحطُّ من أن تتمنى الزَّهراءُ عليها السلام البقاء بين ظهرانيهم !

وهذا عليٌّ عليه السلام يكرِّرُ القولَ نفسه بعد سنين، وهو الخائف ظُلمَ رعيته، فيقول لهم:
اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الْحَيَاةَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَتَبَرَّمْتُ الْأَمَلَ، فَأَتِحْ لِي صَاحِبِي حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُمْ وَيَسْتَرِيحُوا مِنِّي، وَلَنْ يُفْلِحُوا بَعْدِي‏ ! (الإرشاد ج1 ص277).

ما أفلحوا بعدَ الزّهراء كما لم يفلحوا بعد علي عليهما السلام.. ولن يفلحوا حتى يتمَّ الحجةُ الحجةَ ثم يعمل السّيف في رقاب الظالمين المعاندين.

قالت عليها السلام: فَأَلْحِقْنِي بِأَبِي !

وقال الرسول (ص):

فَيَلْحَقُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِي، فَتَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَتَقْدَمُ عَلَيَّ (مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً مَغْمُومَةً مَغْصُوبَةً مَقْتُولَةً) !

فَأَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ ظَلَمَهَا، وَعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا، وَذَلِّلْ مَنْ أَذَلَّهَا، وَخَلِّدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَهَا حَتَّى أَلْقَتْ وَلَدَهَا.

فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: آمِينَ (الأمالي للصدوق ص112-114)

وهكذا نقول.. ويقول المؤمنون: آمين رب العالمين..

عظَّمَ الله أجورنا بمصاب البَتول.. ولعنَ الله ظالميها.. وعجَّلَ في فَرَجِ الآخذ بثارها..

وإنا لله وإنا إليه راجعون.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/11/14



كتابة تعليق لموضوع : أربعون يوماً.. بَعدَ الرَّسول !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net