الصمت و النطق في البيان العَلَوي
عبد الناصر السهلاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد الناصر السهلاني

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام):
"وَتَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ"(1)
🔶 لم تشذ او تختلف كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) عما يحكم به كل عاقل بل جاءت مرشدة ومنبهة وموضحة ومؤكدة لأدوار هاتين الصفتين (الصمت والنطق) في الانسان، فحسنهما وقبحهما يلاحظ فيه العوامل والظروف المحيطة بالانسان، فلا الصمت قبيح دائما، ولا النطق المباشر حسن دائما كما قد يتصور ذلك بعض الناس بتصور بعيد عن العقل والدين.
فالنطق والكلام يراد به ايصال معلومة ما او تحديد موقف وما شاكل، ولكن هذا الايصال قد يتحقق بالصمت احياناً، فقد يكون الصمت المادي معبرا عن نطقٍ معنوي، وهذا المعنى صاغه الامير(عليه السلام) بابلغ مايكون عندما تكلم عما خلق الله في هذا الكون حيث قال:
" فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ "(2)
🔶 وبالعودة الى النص العلوي المبارك الذي افتتحنا به الكلام، نرى دقة الامير عندما يوضح الامور بهذا البيان الرائع، فهذا النص الشريف يشير الى ان الانسان لو قَدَّر ان الصمت في الموقف الفلاني هو الموقف الصحيح ثم اكتشف فيما بعد انه كان مخطئاً، فيكون التدارك يسير بالكلام والنطق بما يجب ان يكون.
بينما لو عكسنا المسألة وان الانسان قَدَّر ان يكون ناطقا وتكلم وترتبت النتائج على كلامه ثم اكتشف فيما بعد انه كان مخطئا وكان يجب عليه السكوت، ففي هذه الحالة يكون التدارك اصعب ويحتاج الى مؤنة اكثر للتصحيح والاعلان عن الخطأ فليس من المعلوم ان كل من سمعه سابقا يسمع تصحيحه لاحقا.
🔶 وفي المقابل نجد الامام (عليه السلام) في موضع آخر يتحدث عن النطق في سياق المدح عندما يذكره صفة للنبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) حين قال:
" أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَبِذِكْرِهِ نَاطِقاً فَأَدَّى أَمِيناً وَمَضَى رَشِيداً"(3) وكذلك عندما يتلكم عن نفسه (عليه السلام) في احد مقاطع حياته فيقول:
" فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِينَ وَقَفُوا"(4)
🔶 واذا واصلنا التجوال في رياض بيانات سيد البلغاء سيصادفنا وصفٌ لأخٍ له في الله حيث يقول:
"... وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً، فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ، وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ …"(5) فما اروعه من وصف، فالامام عندما وصف هذا المؤمن بالصمت اعقبه بصفة تجعل من صمته حكمة فهو ليس بعاجز عن الكلام او لا يحسنه بل اذا "قال بذَّ القائلين" اي غلب القائلين بقوة منطقه، فلم يكن صمته عن جهل وعدم دراية بل لانه حكيم يضع الامور بموضعها، وكذلك يصفه الامام بانه اذا نطق "نقع غليل السائلين" اي ازال عطشهم الى الجواب، بتمام جوابه الذي لاتوجد فيه اي ثغرة او قصور.
وقال (عليه السلام) في موضع آخر يصف المؤمن:
"... بَعِيدٌ هَمُّهُ كَثِيرٌ صَمْتُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ شَكُورٌ صَبُورٌ مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ ..."(6) فانظروا لهذا الممدوح الصامت فهو بعيد الهم والنظر يقرأ الامور بتأني لا ينفع معها المبادرة الى الكلام فورا (فمن كان همه يتعلق بخمسة اشخاص ليس كمن همه بمئات، ومن كان همه الآلاف ليس كمن همه الملايين من الناس، والذي همه في الامور مكانته الشخصية ليس كمن همه بغيره ولا يرى لنفسه خطرا، وهكذا) وكذلك يصفه الامام بانه "مشغول وقته" اي عامل مثابر في كل وقته لا فراغ لديه، ثم يصفه بانه "مغمور بفكرته" فهو دائم التفكير يزن الامور بالعقل وليس متهورا خامل العقل.
🔶 والملفت للنظر في حديثي الامام (عليه السلام) الاخيرين بانه لم يكتف بوصف الصمت مجردا بل يضيف اليه وصف الكثرة !! فلم يكتف بوصف اخيه في الله بانه كان صامتا فحسب بل يقول: "كان اكثر دهره صامتا" وفي وصفه للمؤمن يقول: "كثير صمته" فيبدو ان كثرة الصمت اعلى درجة من قلة الصمت، وبعكسه في الكلام فان كثرة الكلام قد توقع الانسان في المحذور، وفي هذا المعنى يقول سيد الانبياء(صلى الله عليه وآله):
"مَنْ لَمْ يَحْسَبْ كَلَامَه مِنْ عَمَلِه، كَثُرَتْ خَطَايَاه وحَضَرَ عَذَابُه"(7) وقريب منه قول امير المؤمنين(عليه السلام):
"وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ"(8) اذاً فالعاقل يعامل نطقه وكلامه معاملة الفعل في الآثار والعواقب.
🔶 وفي خطبة المتقين يقول الامام (عليه السلام) في وصف المتقي:
"... وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ ... وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ في راحَةٍ ..."(9) فهذا المتقي "ان صمت لم يغمه صمته" اي لا يحزنه ويزعجه لانه كان عن بصيرة ودراية وتدبير بخلاف الكلام في غير محله فهو يجلب الحزن والغم بما يخلفه من اثر خاطيء وعواقب غير محسوبة يوقع المتكلم نفسه فيها، ففي الموارد التي تشتبه على الانسان ولا يتأكد من صحتها يكون الاحتياط بالصمت اولى حتى يتبين الامر.
والشواهد كثيرة في هذا الموضوع نكتفي بما ذكرناه منها.
🔶 واخيرا اتضح لدينا بان الصمت الهادف صفة حسنة في المؤمن بالاحاديث المتقدمة لامير المؤمنين (عليه السلام) بل مر علينا ان كثرة الصمت صفة مدح للمؤمن لا ذم، وهذا لا يمنع طبعا من الكلام الذي قد يجب في بعض الظروف، فالمقصود ان الامور يجب ان تقدر بقدرها عند المؤمن، فالناطق في بعض الاحيان وان لم يضر نطقه وكلامه الا انه قد يكون عديم الفائدة وكأنه لم يتكلم وهذا الامر يضر بسمعة المؤمن وبصورته .
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.
وأسألكم الدعاء
____________________
(1) (نهج البلاغة: كتاب 31)
(2) (نهج البلاغة: خطبة 91)
(3) (نهج البلاغة: خطبة 100)
(4) (نهج البلاغة: خطبة 37)
(5) (نهج البلاغة: حكمة 289)
(6) (نهج البلاغة: حكمة 333)
(7) (الكافي: ج2، ص115)
(8) (نهج البلاغة: حكمة 349)
(9) (نهج البلاغة: خطبة 193)
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat