البرد يزأر بأرجاء الكون …
القبّـة السماوية مصقولة باللآلئ …
أنامل الريح أفاعٍ تطـوّق جسدي… تخترق مساماتي …
تحيلُ كريّـات الدم البيضاء والحمراء إلـى بَرَدٍ .. فمي يطبق على لغة الكلام.
بدأت أتحـرّك باتجـاه المدفأة.. كالرجل الآلي..
يدي اليمنى تأمر اليسرى أن ترمي بعود الثقاب في المدفأة … ترفض اليسرى، وقد تدلّـت في جيبي كقطعةٍ بلّورية من سقفٍ جليدي …
مفاجأة ..؟؟ !! .. …
تكتشف يدي اليمنى التي تولّـت فتح صنبور الوقود نفاده …
تنهيدة طويلـــة … رددت فيها :
ـ آه لو كنت معي نختال ُدفئاً …
إن لم تنتبك المروءة في تأمين الوقود …
لتحوّلت ألسنة اشتعال حروف الشجار موقداً يستحم على نثيث جمره برد جسدينا بدأت أرقص على إيقاع ارتعا شاتي … قطعتُ مسافةً لا بأس بها كي أصل إلى غرفة نومي … تأمّـلت حركة قدميّ المربوطتين بحبال البرد، كأنّـني زنجية في معتقلٍ أبيض …
فوجئتُ بالمدفأة الكهربائية تومئ ُلي أنْ أضغط على مفتاح إيقادها …
فرحتُ هزئت ُمن البترول بكلّ مشتقاته … اقتربت منها …
أناغي الدفء فيها … سَرَت الدماءُ في رأسي … اصطففت أجنحة طيور الرؤى المعششة في أوكار ذاكرتي لتحلّـق في أيكة الدفء …
صعقت ُ… !! بالأسلاك الكهربائية المقطوعة عن تـيّارها …
تذكّـرت أنّي أقيم في بلدٍ ، حين يداهمه البرد ، تتجمّـد الأسلاك الكهربائية فيه وتحتفظ بطاقاتها في محوّلاتٍ مرسوم عليها جماجم بشرية..!!
لم يبق أمامي سوى الفراش … اقتربت منه … كشفت اللحاف كي أندسّ فيه وألوذ به أحسستُ أنّـي فوق تلّـةٍ جليديةٍ في أحد أصقاع القطب المتجمّد الشمالي … انزلقت في الفراش … تدثّـرت … بقيتْ عيناي تومضان …
ضحكتْ نفسي علـيّ وهي تتأمّـلني كصغير الكنغر في جيب أمّـه …
تكوّرت كالقنفذ … تنهّـدت ُتنهيدةً ثانيةً أعمق ، وأطول من الأولى:
آه لو كنت َمعي … لهرب البرد خلف زئير الجدران …
تشابكتْ أناملُ الظلمة … مع أنامل البرد … مع أنامل الوحدة …
وأصغيتُ لوقع أقدام رقصة زوربا فوق أضلاع صدري … أضأتُ الشمعة … نهضت بإصرارٍ أحـدّث نفسي وهي تؤيّـدني … مواجهة الأحداث خير من التحسّب منها … لبست معطفاً … لففت رأسي بشالٍ صوفيٍّ … تقودني أهداب ُالشمعة إلى بوابة البيت … شهقت …
ياله من مشهدٍ رائعٍ ... الثلج يتهافت من السماء ندفاً يزمّـل الكون .. بدأ الماس يتكسّـر على وقع خطاي … الشموع المتقدة , خلف زجاج النوافذ فراشات بيضاء ترفرف على أغصان الظلمة .
المدينة جميعها تحتفل بميلاد الثلج …
المدى أبيض…
الأرض عروس يتوجها اللؤلؤ … تغـفـو في أحضان ليلٍ أبيض … وأنا أتبختـر كالوعل على مرجٍ أبيض.
دخلت ُإلى المطعم … رائحة الدفء المتبلة ببهارات السهر … بإضاءات بنفسجية فوق بنفسجية … حمراء … تحت الحمراء … وفوقها … موسيقى نينوى نواح يتسلل صداه من ثغور الأمس لينتشي الحاضر ويثمل الوجد بنغماتها ,جلست ُعلى كرسيٍّ … أحـدّق بالبشر … من كلّ زوجين اثنين … تفصل بينهما ابتسامة … أو حملقة أو قهقهة … أو هالة ترسمها لفافات التبغ … تتلاشى بين رأسيهما …, ابتلعت تنهيدةً ثالثة … بدت أعمق وأطول من التنهيدتين السابقتين .. دمدمت في أعماقي :
تبـّـاً لك .. كم يفتقدك هذا الكرسي الجاثم أمامي كمئذنةٍ أثريةٍ ، تقطّـعت أوتار التراتيل عن حنجرتها ، فعشش البوم على أنين قرميدها …
جاءني النادل … ماذا تطلبين ..؟
أريد وقوداً لأحشائي … أتعنين نبيذاً أحمر..؟؟
بل أبيض … تضامناً مع المدى …
حـدّثتني نفسي المتربّـعة على عرش وحدتي …
تضامنت ُمعها بلا تردد … سأقرعُ كأسي بكأس المدى …
طـوّقتْ أناملي الكأس … ارتـجّ الشراب فيها …
بدأت أميد على نغم تموسقه اللحظة … ليل أبيض … ثلج أبيض … كأس أبيض … وأنا أتحلزن في حزن … أيضاً أبيض …
بدأت تتلاطم الأمواج في كأسي حتّـى طفحت بالمدى , وإذ برجلٍ يمتطي صهوة حلم ٍ، طـّوقَ أعناق الموج بقبضته وترجّـل َعلى حافة الكأس, يحـدّقُ بي ..فأطرقُ لحظـةً … وأتأمّـله بأخرى … ما زال يرمقني … عيناه نافورتا
حنان ,وفمه ناقوس تدلّـى عن نبض قلبي ..!
يا إلـهي … هل بدأت أحلم ..؟؟
لا … إنّـي جالسة … وحولي البشر …
إذاً أنا يقظة … دنا الكأس من فمي... ارتشفت قليلاً … أعدته ُ… غاص الرجل في القعر تلتهمه الأمواج …
رائع ٌهذا الصمت الذي لجم صراخي ... شربت ُالكأس كاملةً … طلبتُ كأساً أخرى … بدأ يتّسع مداها ، وترتفع حوافّـها مشكّـلة جدراناً دائريةً وإذ بالرجل ذاته ، يتسـمّـر أمامي … تحـدّث بصوتٍ مرتفعٍ أجفلني :
ـ أنا بانتظارك ِعند ناصية الثلج …
ـ لكنّ الطقس يتحنّـط بالبرودة …
ـ وجدتني أشربُ كأسي دفعة واحدة وأهـمّ للحاق به …
على قدمي الحذر تسللت ُ… ها أنذا أرقص على مدار البحث ، كدوران الأرض حول الشمس …
قشّـرتُ لحاء الأشجار … أناملي أضحت مبضعاً …
ياقوت دمي عقد ينفرط على الثلج …
هل أخشع ..؟؟ هل أرجـع ..؟؟
صفعت ُوجوه الريح … تزلّـجت ُعلى دروب يعبّـدها الصقيع …
قطفت ُباقةً من زهور الثلج … ربطتها بسلكٍ من دماء أناملي …
سأقدّمها له .. وأكتب عليها بطاقة إهداءٍ …
إلــى آدم … من حوّاء…
ليكن الطوفان …
قلبي سفينة نوحٍ … وأنا الشراع … والزورق …
البرد دبّ قطبيّ يزأر بـي … أأرتمي بين فكّيــه.. ؟؟ أم أقطف من جمر الصقيع بضعاً لموقد اصطباري ..؟؟..
على صليب الوعد تسـمّـرت ُ… مساميرُ الصقيع تثبّـتني … تثقب أوردتي … انسللت ُمن كفني الثلجيّ تسحبني الروح إلى المطعم …
ـ طلبتُ كأساً ثالثةً …
ألفيته يلفّ قدميه ، يجلس على حافة الكأس ، يرمقني … أرمقــه ُ…
أعتابٌ كان … ؟؟ أم مأزق .. ؟؟
قال :مشّـطتُ دروب البرد بالهذيان …
تهودج قلبي على راحلة الوهم ، وبتّ كحملٍ باغته الطوفان …
قوافل الانتظار تعبرني … وأنا حادٍ ضيّـعني الدرب … خذلني الصبر …
مضغتُ الملح … عللت ُالروح بتبر يلثم شطآني …
وأنا ربّـان ..
ـ ما ارتجّ شـــراعي عن مـدّ اليمّ …
وما طفــحـتْ كــؤوس الكــون …
إلاّ مــن نشـــوة وجــــداني …
قلّـمتُ أظـــافر ريــــــح الغدر ،
حين امتدّت من لافتةٍ طرّزت عليها عنواني…
ـ يعاتبني…
ـ أعاتبه ُ…
ـ يصفحُ لي …
ـ أصفح ُله …
يقترب منّـي … تتلاشى المسافات … يذوب صقيع الدروب .
إنّـه يداهمني …
يا إلـــهي … أمام البشر ؟؟ .. همّـت الصرخة بالصهيل …
أغمضت عينيّ ، تدلّـى رأسي على كأسي …
سال الشراب ساقيةً ، أغرقت مائدتي الخرافية .
رفعت ُرأسي ، تسمّـرَ النادلُ أمامي :
ـ سأملأ الكأس ثانيةً ؟؟
ـ لا هذا يكفي … إنّـها الكأس العاشرة …
ـ بل إنّها كأس واحدة .
ـ ماذا تقول ..؟؟ .. لقد ارتشفتها كأساً ِتلوَ كأسٍ .
ـ صدّقيني ، إنّها كأس واحدة فقط … وقد دفع ثمنها رجل يقبع في زاوية المطعم ...! شدّتني حبال الدهشة إلى الزاوية …
ـ يا إلــهي … إنّـه رجل الكأس …
خرجتُ من المطعم … تسحبني حبال الذهول للعودة إلى البيت …
تحوّلت إلى طائر ثلجيٍّ يصطفق جناحاي بالهذيان :
ليلٌ أبيض … ثلجٌ أبيض … كأس ٌأبيض …
بدأت ْالأشجار تموءُ تردد خلفي ...
أسرابُ البطريق يطوّقني تغريدها..
الدببة تنهض على أقدامها تصفّـق بأيديها
ليلٌ أبيض… ثلج ٌأبيض … كأسٌ أبيض … …
بدأ الثلج يتهاشلُ بإيقاعٍ سريعٍ كأسراب حمام أبيض ، أجفلتهُ طلقة صيّـادٍ … الكون يميد على نغمٍ يتدهدى عن شفاه ذاكرتي :
ليلٌ أبيض .. ثلج أبيض ٌ.. كأسٌ أبيض .. حلمٌ أبيض .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat