صفحة الكاتب : د . جليل وادي

وكأنك لست أنت
د . جليل وادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ما سافرت الى بلد الا وشدني الحنين الى وطني وأهلي، حتى لأعجب كيف يعيش المهاجرون في بلاد الغربة؟، يدق جرس الانذار عندي بعد مضي اسبوع حالما ينتهي تحقق الأهداف التي من أجلها سافرت، وما ان أعود الى الوطن حتى أفكر بالسفر ثانية، وكأن السفر حقنة مسكنة تتيح لك تحمل الاحباط والقهر والانفعال لمدة وجيزة، وبعد انتهاء مفعولها تخرج عن طورك وكأنك لست أنت .

لذلك ما عدت لائما اولئك الذين يعودون الى أوطانهم مع انهم قضوا سنوات طويلة بعيدا عنها، بالرغم من التطور الحضاري ونظام الحياة المتماسك ومساحة الحرية والاسترخاء الواسعة التي تتوافر في بلدان الغربة المتحضرة، ولو سألت أي مغترب لأجابك من دون تردد برغبة العودة لو كانت الظروف مؤاتية، الكثير منهم مجبرون على البقاء، بينما الوطن يعشعش في القلوب والعقول، يشعرك العيش في الغربة ان حياتك بلا هدف، ولا معنى لجميع ما تحققه، يغيب صداه في محيطك الا اذا كان فعلك استثنائيا، وفي ما عداه قد يبدو عليك رائقا، لكنك تغلي في دواخلك، لأنك في أرض لا جذور لك فيها، تسبح في فضاء غير فضاءك، وثقافة غير التي نشأت عليها، وأناس غير الذين تعرفهم، لذلك تتضاءل أهمية الفرص المتاحة أمامك مع انك كابدت كثيرا للحصول عليها .

كما لست بلائم الذين يفكرون بهجرة الأوطان بحثا عن حياة أرقى من التي يعيشونها في بلدانهم، وأناس أكثر تحضرا في تعاملهم، وفرصا متكافئة للجميع بعيدا عن ألوانهم ومذاهبهم وأديانهم وقومياتهم، فالحياة يمنحها الله تعالى للبشر مرة واحدة لا تتكرر، ومن العبث أن تُهدر في بلدان لا يمكن وصفها الا بالمتخلفة، يتحكم بمجرياتها من لا يعرف للحياة معنى، ومن أتت به الصدفة الى صدارة الصفوف، او فاز بها مغامرون لا شيء عندهم ليخسروه عندما تنتهي الى الفشل مغامراتهم، ويندر أن يكون بينهم من جاءوا برغبة التطوير وانتشال الناس من الوحل الذي هم فيه، وهم في واقعنا كقطرة ماء زلال في بحر شديد الملوحة.

ولا تتوقع لقطرة الماء اتساعا، فقد تشابكت اللحى، وصار عصيا تماما فك تشابكها، وفي مثل هذا الواقع تشعر ان الاصلاح يُراد له قدرة قادر، فقد بلغ التخلف فينا مبلغا، ومعه أصبح اللحاق بركب المتقدمين ضربا من الخيال.

وبتنا عاجزين حتى عن تضييق الفجوة التي تفصلنا عنهم، ففي سلوكنا العبثي ما يوسع تلك الفجوة بدل ردمها او تضيّق مسافتها، بل ولم يعد يضيرنا أن يغادر حياتنا العلماء والمتنورون موتا او هجرة او انزواء. فتبتئس، ولشدة ابتئاسك تحزم أمتعتك لتفر بجلدك. وفر كثيرون ليخدموا أوطانا لا ينتابهم أدنى شعور بالانتماء لها، وكم تمنوا لو كان عطائهم لأهلهم، ولكن من الذي يسمح لهم بالعطاء ؟، فثمة من لا يكتفي بالنهب والسلب واشاعة الموت في الطرقات، بل ويحول دون أن تعطي، فعطاء الكبار نفوسا فضح لآثام الفاسدين، وتعرية لعقول غير العارفين، فيجّيشون لك من يسخف أفكارك، ويقلل من قدرك، بينما انت الذي يشير لك الغرباء بالبنان، وبين هذا وذاك تمضي الحياة في غابة من الاحباط واليأس والانكسار.

في السفر نتعلم قيمة الأوطان، وبه يتعزز حبها في الوجدان، ومن خلاله ترى الجميل في أهلك، وتصرف بصرك عما هو قبيح، فما أحلاكم أهلي، فلا غيرة تضاهي غيرتكم، ولا كرم يطاول كرمكم، ولا خلق يناظر خلقكم، وبئس من جعلكم تئنون طوال ليلكم ونهاركم، وما أقبح من أدار ظهره للثكالى من حرائرنا، ومال بوجهه عن بؤس أيتامنا، ولا يتذكر بالفعل وليس القول من جادوا بأنفسهم لننعم بما نحن فيه، فالوطن انتم وليست الأرض، ولست بذلك أتعالى على غيرنا، بل هي الحقيقة، ومن لا يعرفها فليجرب السفر .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . جليل وادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/08/13



كتابة تعليق لموضوع : وكأنك لست أنت
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net