صفحة الكاتب : د . شامل محسن هادي مباركه

ديمقراطية السوق الحرة و غزو العراق
د . شامل محسن هادي مباركه

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بعد أن وصل للعراق في آذار ٢٠٠٤، يقول ريتشارد كوهين، كاتب المقالات في صحيفة واشنطن بوست، الذي دعم في مقالاته غزو العراق، استقبلنا مايكل برمنغهام، ناشط السلام الأيرلندي الذي انتقل إلى بغداد. سألته إذا كان بإمكانه أن يقدمني إلى عدد قليل من العراقيين الذين يشعرون بالقلق إزاء خطط خصخصة اقتصادهم. قال لنا مايكل: "لا أحد هنا يهتم بالخصخصة. ما يهمهم هو البقاء على قيد الحياة". كانوا يفكرون في كيفية الحصول على مياه الشرب والاستحمام، وليس فيما إذا كانت شركة أجنبية ترغب في خصخصة نظام المياه لديهم وبيعه لهم مرة أخرى في غضون عام. (راجع كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism، صفحة ٣٢٥، نعومي كلاين)

يسترسل السيد كوهين: كانت فكرة بيع أصول الدولة العراقية إلى إكسون موبيل وغيرها بالمزاد العلني، في المؤتمرات وقاعات الفنادق، عند مراحلها الأولى بقيادة كبير مبعوثي البيت الأبيض، پول بريمر. قال لي أحد المندوبين في مؤتمر "إعادة بناء العراق ٢" في واشنطن العاصمة: "أفضل وقت للاستثمار هو عندما لا تزال هناك دماء على الأرض".

تنظر الدول العظمى إلى العراق ليس على أساس امتلاكه ثالث أكبر احتياطي نفطي فحسب، بل أيضاً الأراضي التي كانت واحدة من آخر المعاقل المتبقية في السعي لبناء سوق عالمية تعتمد على رؤية فريدمان للرأسمالية غير المقيدة.

لم يكن هناك اهتمام كبير بفكرة أن الحرب كانت خيارًا سيئاً، وأن مهندسي الغزو أطلقوا العنان للعنف لأنهم لم يتمكنوا من فتح الاقتصادات المغلقة في الشرق الأوسط بالوسائل السلمية.

تم تسويق غزو العراق على أساس الخوف من أسلحة الدمار الشامل، لأنها، كما أوضح پول وولفويتز، كانت "القضية الوحيدة التي يمكن أن يتفق عليها الجميع"

كشفت تحقيقات أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد ضللت البيت الأبيض بأن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل. سعى المتحدث الصحفي للبيت الأبيض في ذلك الوقت إلى دحض ادعاء وصفه بأنه "أسطورة ليبرالية". جورج دبليو بوش كذب بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق لشن الغزو. ناهيك عن أن الرئيس الجمهوري دونالد ترامب قدّم هذا الادعاء أيضًا في عام ٢٠١٦، قائلاً: "لقد كذبوا. قالوا إن هناك أسلحة دمار شامل، ولم تكن هناك أي منها". (راجع مقال "حرب العراق وأسلحة الدمار الشامل: فشل استخباراتي أم تلاعب بالبيت الأبيض؟"، The Iraq War and WMDs: An intelligence failure or White House spin?، ٢٢ آذار ٢٠١٩، غلين كيسلر)

كما أوهم رئيس وزراء المملكة المتحدة، توني بلير، مجلس اللوردات بأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل.

تُعد وثائق مجلس الوزراء البريطاني، التي رُفِعت عنها السرية، الأولى من نوعها التي تثبت علم رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، توني بلير بخلو العراق من أي قدرات لامتلاك أسلحة محظورة وفقا لقرارات الأمم المتحدة الصادرة قبل وبعد إخراج الجيش العراقي من الكويت في شهر شباط عام ١٩٩١ في أعقاب عملية عاصفة الصحراء، ثم دخل العراق في أسوء حصار وعقوبات تمنعه من انتاج أسلحة دمار شامل، حتى عام ٢٠٠٣.

أما النظرية الأخرى التي يفضلها أكثر أنصار الحرب فكرياً، هو الأرهاب. كان الإرهاب، حسب رؤيتهم، يأتي من مواقع متعددة في العالم العربي والإسلامي: كان مختطفو الطائرات في ١١ سبتمبر من المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة ولبنان؛ كانت إيران تمول حزب الله؛ كانت سوريا تؤوي قيادة حماس؛ كان العراق يرسل الأموال إلى عائلات الانتحاريين الفلسطينيين، مما جعل هذه النظرية كافيةً لتأهيل المنطقة بأكملها باعتبارها أرضا خصبة محتملة للإرهاب.

لو سألناهم: ما هو السبب الذي أنتج الإرهاب في هذا الجزء من العالم؟ يُجيبون: عدم قدرة المنطقة في تبني ديمقراطية السوق الحرة !!! (راجع كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism، صفحة ٣٢٨، نعومي كلاين)

يقول توماس فريدمان، كبير الدعاة الإعلاميين: بما أنه لا يمكن غزو العالم العربي بأكمله دفعة واحدة، كان لا بد من وجود دولة واحدة لتكون بمثابة المحفّز، وستكون "نموذج مختلف في قلب العالم العربي الإسلامي". ستغزو الولايات المتحدة ذلك البلد، و سيؤدي بدوره إلى إطلاق سلسلة من موجات ديمقراطية/نيوليبرالية في جميع أنحاء المنطقة.

يرى جوشوا مورافشيك، الخبير في معهد إنتربرايز الأميركي، بحدوث "تسونامي في جميع أنحاء العالم الإسلامي"، في حين وصف المحافظ مايكل ليدين، مستشار إدارة بوش، الهدف بأنه "حرب لإعادة تشكيل العالم" (راجع مقال "مجرد البداية"، Just the Beginning، ١٤ آذار ٢٠٠٣، الدكتور مايكل ليدين)

تبنّت هذه النظرية دمج "مكافحة الإرهاب" و "تأسيس دعائم الرأسمالية" و "نشر الديمقراطية،" من خلال إجراء الانتخابات، ثلاثة ملفات في مشروع واحد، والذي دفع الرئيس الأمريكي، جورج بوش، بعد ثمانية أيام من إعلان وقف الأعمال الحربية في العراق، الكشف عن خطط "لإنشاء منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط في غضون عقد من الزمن". تم تكليف إليزابيث، ابنة وزير الدفاع الأمريكي السابق، ديك تشيني، بإدارة المشروع.

لماذا العراق؟
بعد قبول فكرة غزو دولة وتحويلها إلى نموذجية، طُرِحت أسماء عدة دول؛ العراق، سوريا، مصر، وإيران. كان الخيار الأول العراق، لما يمتلك من احتياطيات نفطية هائلة، كما شكّل أيضاً موقعاً مركزياً جيداً للقواعد العسكرية، علاوة على كره الشعب العراقي لصدام حسين بسبب استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وقتل عشرات الآلاف من شعب العراق في انتفاضة شعبان، مما يمهد الطريق لإسقاطه.

هناك عامل قد يخفى على الباحثين في الشأن العراقي هو عامل التجربة، فبعد حرب الخليج الأولى، كسب البنتاغون معرفة عميقة في محاربة جيش عراقي قوي. سُئل الجنرال تشاك هورنر، آمر القيادة الجوية في حرب الخليج الأولى ١٩٩١، عن أكبر إحباط شعر به في قتال جيش صدام حسين. أجاب بأنه لا يعرف أين "يغرز الإبرة" حتى ينهار الجيش العراقي. لهذا كتب قائد البحرية المتقاعد، هارلان أولمان، في بحثه: إذا كان من الممكن إعادة خوض حرب الخليج، فكيف يمكننا الفوز في نصف الوقت أو أقل وبقوى أقل بكثير؟ (راجع بحث "الصدمة والرعب، تحقيق الهيمنة السريعة"، Shock and Awe. Achieving Rapid Dominance، أيلول ١٩٩٦، هارلان أولمان)
 

استحوذ البحث على خيال دونالد رامسفيلد، كما أعطت حرب الخليج الأولى للقوات الأمريكية خبرة قتالية كبيرة. كان البنتاغون يستخدم معركة ١٩٩١ كنموذج في ورش العمل والتدريب والمناورات الحربية المفصلة.

بعد احتلاله في ٢٠ آذار ٢٠٠٣، بدأت خطة الولايات المتحدة في العراق. ساعد النهب الذي عمّ أرجاء البلد، والاستحواذ على ممتلكات الدولة، على تأكيد مبدأ إنفتاح العراق كسوق تجاري.

إن تفسيرات سبب شن الحرب نادراً ما تتجاوز الإجابات المكونة من كلمة واحدة: النفط، إسرائيل. اختار كثيرون معارضة الحرب باعتبارها حماقة من جانب رئيس ظن خطأً أنه ملك، وصديقه البريطاني الذي أراد أن يكون في الجانب المنتصر من التاريخ. 

في خطاب تنصيبه عام ٢٠٠٥، وصف جورج دبليو بوش الفترة الواقعة بين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب على الإرهاب بأنها "سنوات من الراحة، وسنوات من التفرغ - ثم جاء يوم النار"، في إشارة إلى احتلال العراق، و تبرير الحرب مع تقديم سبب للأميركيين، والتحلي بالصبر على جهوده لقمع التمرد العنيف هناك. (راجع مقال "بوش في حفل تنصيبه الثاني يقول إن نشر الحرية هو "نداء عصرنا"، Bush, at 2nd Inaugural, Says Spread of Liberty Is the 'Calling of Our Time، ٢١ كانون الثاني ٢٠٠٥، صحيفة نيويورك تايمز)

يقول بيتر ماكفرسون، بيروقراطي مخضرم في إدارة ريغان، وأستاذ في جامعة شيكاغو، و المستشار الاقتصادي الأول لبول بريمر: عندما رأيت العراقيين يستولون على ممتلكات الدولة – السيارات والحافلات ومعدات الوزارة – لم يزعجنِ ذلك. كانت وظيفتي، كأكبر معالج للصدمات الاقتصادية في العراق، تتلخص في "تقليص حجم الدولة" بشكل جذري و "خصخصة أصولها"، وهو ما يعني أن اللصوص كانوا في الواقع يعطوني دفعة قوية. أضاف: "اعتقد أن الخصخصة التي تحدث بشكل طبيعي عندما يستولي شخص ما على سيارته الحكومية، أو يبدأ في قيادة شاحنة كانت الدولة تمتلكها، كانت جيدة". وصف ماكفرسون، النهب بأنه شكل من أشكال "انكماش" القطاع العام.

أما زميله جون أجريستو، مدير تطوير التعليم العالي في الولايات المتحدة قال: نحن نعيش عصراً "مشرقاً" عندما نشاهد نهب بغداد على شاشة التلفزيون. تصور أن وظيفتي هي إعادة تشكيل نظام التعليم العالي في العراق من الصفر. قال أن تجريد الجامعات ووزارة التربية والتعليم كان بمثابة "الفرصة لبداية نظيفة". يعتقد أجريستو بوضوح أن كل ما تبقى من الدولة القديمة سوف يعيق التطور. 

كان أجريستو يجهل بأن العراق كان يتمتع بأفضل نظام تعليمي في المنطقة، مع أعلى معدلات معرفة القراءة والكتابة في العالم العربي. في عام ١٩٨٥، كان ٨٩ في المائة من العراقيين متعلمين. على النقيض من ذلك، في ولاية نيو مكسيكو، مسقط رأس أجريستو، يعاني ٤٦ بالمائة من السكان الأمية وفقدان الوظيفية، و ٢٠ بالمائة غير قادرين على إجراء الحسابات الأساسية في المبيعات. (راجع كتاب "خدعة الواقع: تحرير العراق وفشل النوايا الحسنة"، Mugged by Reality: The Liberation of Iraq and the Failure of Good Intentions، ١٩ شباط ٢٠٠٧، الدكتور جون أجريستو)

لسبب وآخر، فشل المشروع الأمريكي بجعل العراق أنموذجاً للسوق الحرة، وأرضية لإنشاء تجارة حرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، بل تحول العراق إلى بؤرة للارهاب، حيث وصلت جنسيات الارهابيين من خمسة وثمانين دولة.

لم يُدرك سياسيو العراق عن الأسباب الحقيقية لاسقاط الدكتاتور صدام، كان همهم هو كيفية إزاحته، دون مناقشة اليوم التالي لما بعد السقوط، والسيطرة على مقدرات البلد. 

عوّل السياسيون كثيراً على قوات الاحتلال في تقديم الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصحة والتعليم. لكن ما نشهده اليوم هو خلاف كل التوقعات؛ تفشي الفساد، وفقدان الخدمات، وارتفاع نسب البطالة، وتدهور الجانب الصحي و التعليمي.

من هنا كان لآية الله العظمى علي السيستاني دام ظله موقفاً من الأحتلال، فقد وجّهت له ثلاثة استفتاءات عن الاحتلال، ذكرها الأستاذ حامد الخفاف في كتاب "النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية":

١- ما هو تعريفكم لقوات التحالف المتواجدة على أرض العراق؟
الجواب: إنها قوات إحتلال كما أقر بذلك مجلس الأمن.
وثيقة رقم ٢١ جواب رقم ٢

٢- ما هو موقفكم و رأيكم تجاه التواجد الأمريكي؟
الجواب: نشعر بقلق شديد تجاه أهدافهم ونرى ضرورة أن يفسحوا المجال للعراقيين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم من دون تدخل أجنبي.
وثيقة رقم ١٣ جواب رقم ٩

٣- قوات التحالف تريد البقاء في العراق مدة غير قصيرة وربما لعدة سنوات، فهل المرجعية الدينية توافق على ذلك؟
الجواب: كلا
وثيقة رقم ٦ جواب رقم ٤

بحضور المرجع المفدى، سيد النجف، السيستاني، سيبقى العراقُ عصيّاً على مآرب الاحتلال، ليزرع الأمل لشعبه بيوم جديد، يسقط فيه الفاسدون والمتخاذلون والتابعون، لا نرى فيه إلا الوطن والاستقلال والسيادة والازدهار.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . شامل محسن هادي مباركه
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/06/24



كتابة تعليق لموضوع : ديمقراطية السوق الحرة و غزو العراق
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net