سوريا بين طريقين
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

لا أعتقد أن عامل المفاجأة عنون ما يجري على الساحل السوري هذين اليومين، فكل جانب يخفي بداخله سببا أو أسبابا دفعته إلى الذهاب بعيدا، فيما أجمع عليه هذا أو ذاك طرفه، فالطائفة العلوية التي تمثل النسبة الثانية من التعداد السكاني في سوريا، متّهمة بما اقترفه النظام البعثي خلال فترة حكمه السابقة، مع أنّ أغلبها كان مثل بقية الطوائف السورية مهمش، لم يتورط في شيء من العمل السياسي أو العسكري أو الأمني، وهذا ما لم يكن في اعتبار القادة الجدد في دمشق، أو على الأقل عناصرهم العسكرية التي تشكّل قاعدتهم في الدفاع عن مكتسباتهم، وهؤلاء في قسم معتبر منهم، من ذوي الميولات المتطرفة الإقصائية، التي لا ترى تعايشا ممكنا مع الأقليات الدينية في سوريا، ومن الصعب ضبطهم في ممارساتهم القمعية والانتقامية، خصوصا السوريون منهم الذين غادروا البلاد، بعد فشل محاولاتهم في ارغام النظام على التنازل عن السلطة.
لقد ظهرت بوادر الأزمة أو الفتنة بعد أسابيع من سقوط النظام، عندما باشرت عناصر تابعة لهيئة تحرير الشام ملثمة – وأغلب عناصرها ملثمون – إلى القيام بسلسلة من الخطف والقتل، ومداهمات أحياء ومدن يقطنها العلويون والشيعة في حمص وريفها والساحل السوري، أسفرت عن اعتقالات عشوائية وغير مقبولة، عثر بعدها الأهالي على جثث مخطوفيهم وعليها آثار التعذيب، ومع تفاقم الإنخرام الأمني، وتغاضي السلطة عن معالجته، وجد العلويون أنفسهم مستهدفين من السلطة وعناصرها تحريضا وتنفيذا، كان من الحكمة والعقل ضبطها ومحاسبة مرتكبيها، حتى لا تتواصل اعتداءاتها على المدنيين، لكن شيئا من قبيل التهدئة في نشر الأمن والعدل وطمأنة هؤلاء المستهدفين لم يقع، وكانت شرارة الأحداث قد انطلقت، بعد إخراج عائلة من بيتها في القرداحة إلى الشارع، من أجل اتخاذه مخفرا للشرطة، وتسببت العملية في مقتل شاب علويّ، كان على مقربة من البيت ولا علاقة له بما جرى.
شعور العلويين بالخطر المحدق بهم، نابع من تجربة سابقة استهدفتهم من عناصر داعش والنصرة - والجولاني منهم- حيث كانوا هدفا مباحا لهاذين الفصيلين التكفيريين، ومنذ سقوط النظام البعثي في 8/12/24 أصبحوا يسمعون التحريضات المتكررة عليهم، ويتعرّضون شأنهم كشأن الشيعة معهم لأعمال إرهابية، طالت أشخاصهم وممتلكاتهم، فانتفض منهم من انتفض تعبيرا عن سخطهم وعدم رضاهم باستهدافهم والتحريض عليهم لتصفيتهم، وكان تعملهم مع من أسروه من الهيئة بلا عنف ولا إهانة وكان من بينهم تونسيون ومغاربة وجنسيات أخرى، صرّحوا بأنهم قدموا لقتال العلويين والشيعة.
إزاء انتفاضة العلويين المسلحة أعلنت الهيئة النفير العام، ودفعت بقوات كبيرة الى الساحل قامت بارتكاب مجازر بشعة بحق المدنيين نساء واطفالا وشيوخا فلم يرحموا من وجدوه في طريقهم حتى أنه لن يسلم من التزموا بيوتهم منهم فقتلوهم أينما وجدوهم وساقوا من أرادوا التنكيل به زحفا الى الأحراش أين قاموا بتصفيتهم بلا أدنى رحمة، سلسة من الجرائم المروّعة التي ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من سكان مدن وقرى الساحل السوري، بقيت على مسار ح الجرائم مضرجة بدمائها.
وفيما صرّح المحامي السوري معتصم الكيلاني لإذاعة مونتي كارلو أنّ ما جرى من انتهاكات في الساحل السوري الأكثر دموية وانتشارا كان بدوافع طائفية وقال معقّبا على حصيلتها المروّعة: (لا يجب التراخي مطلقا في تسليط الضوء على هذه الانتهاكات، ولا ينبغي التهاون في توجيه التهم بشكل مباشر إلى من يرتكبونها اليوم. أي تهاون، مع أي سلطة أو أي انتهاك، يعني تكريس سياسة الإفلات من العقاب، وهو ما يؤدي إلى تكرار هذه الانتهاكات، اليوم، نعتبر أن القضاء الدولي هو خيار تكميلي حتى نستنفد جميع سبل التقاضي المحلية. في حال لم نجد تجاوبًا من الجهات المحلية، سنلجأ بالتأكيد إلى ما كنا عليه قبل 14 عاما، وهو استخدام التقاضي الدولي لملاحقة الانتهاكات داخل سوريا.)(1)
أمّا الوجه الآخر الخفي، والذي لا يقلّ خطورة عما جرى، ولا يزال متواصلا في الساحل السوري، فتعلّق بعناصر مسلحة قامت بمهاجمة بيوت السوريين الشيعة في بلدات ريف حمص، وتهديدهم بالقتل إن لم يخرجوا منها، وإحلال عائلات هؤلاء المسلحين فيها، وبلغ الأمر في بعض الأحيان، إلى حد تخاصم هذه العناصر على البيوت وسكانها مازالوا بداخلها، وهذا ما يؤكّد مدى الانفلات الأمني الذي وصلت اليه تلك المناطق، بحيث لم يعد هناك ما يدعوهم إلى البقاء في بيوتهم، فخرجوا منها ملتمسين الأمن في أماكن أخرى، نجاة بأرواحهم من القتل.
إزاء أعمال التصفيات الواقعة في سوريا، والتي وصلت مرحلة خطيرة، لو يدرك السوريون جميعا أنّها لا يمكن أن تبني بلدا آمنا، متطلّعا إلى الخروج من حالة الظلم الذي فرضه النظام السابق على الجميع، لتجد الأقليات السورية أنفسها اليوم في ظلم وتعدّ وانتهاكات، أكبر بكثير مما كان في العهد السابق، يقف السوريون أمام مفترق طريقين، طريق يؤدي بهم إلى النّفاذ ببلادهم نحو تحقيق ما يصبون إليه من تقدّم بمشاركة جميع أطياف الشعب دون اثارة حساسيات، ولملمة جراح الماضي بمواطنة ترفض اقصاء أيّ طرف كان، وسوريا بحاحة إلى فتخ صفحة جديدة من تاريخها المعاصر، وطريق يزيد من تعقيد المشهد السوري، يزداد فيه الإنخرام الأمني وتتواصل الإعتداءات بعنوانها الطائفي البغيض على العلويين والشيعة، ولا يبعد أن يلحق بقية الأقليات ما لحق العلويين والشيعة، وهذا الطريق غير محسوب العواقب، أقلّه بقاء الفلتان الأمني على حاله، إذا ما حزمت الحكومة الجديدة امرها في استتباب الأمن للجميع، ومحاسبة من تورط في الأعمال الإرهابية في الساحل وفي مناطق أخرى بسوريا، ولا سبيل لهذه الحكومة اليوم غير الظهور للعالم بمظهر الإصلاح، وإلا ستكون لتجاهلها وصمتها، وتركها الحبل على الغارب لقواتها المنفلتة، أن تعيث في الأرض فسادا، بمواصلة أعمال التصفيات العرقية، لها تداعيات قانونية ضارّة لحكومة الجولاني على الصعيد الدولي أكثر من تاريخه الإرهابي.
المصادر
1 – المحامي السوري معتصم الكيلاني: يجب توجيه التهم مباشرة لمن ارتكب الانتهاكات في الساحل
https://www.mc-doualiya.com/20250309-
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat