صفحة الكاتب : محمد الحمّار

حرية الأقلام والخط التحريري للإعلام
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ليست "حرية التفكير" هي "حرية التعبير". كما أنه ليس هنالك علاقة سببية بين الديمقراطية و"حرية التفكير"، بل العلاقة قائمة بين الديمقراطية و"حرية التعبير". وإلا فسوف نقول إن في تونس اليوم وفي مصر اليوم وفي ليبيا وفي العراق ، أين نسجل تقدما نسبيا تتغير نسبته حسب ظروف كل بلد في إرساء حياة ديمقراطية، هنالك ممارسة لحرية التفكير. 

في الواقع ما من شك في أن هذه البلدان تتمتع بأكثر حرية في "التعبير" لكن هذا لا يعني أن "تفكير" شعوبها حر. فحرية  التعبير شيء وحرية التفكير شيء آخر بالرغم من العلاقة التكاملية بينهما. لنرَ كيف يلعب الإعلام دورا سلبيا في حرمان الشعب من الارتقاء إلى مستوياتٍ مرموقة من التفكير الحر.
  لقد حاولتُ التأكد من المفارقة المرَضية مرارا عديدة وثبت لديّ أنّ نوعية النص الذي تأبى جُل الصحف التونسية نشره يتعلق بالضبط بكل محاولة لتجديد آليات التفكير باتجاه التحرر. فإما أن ينشر لك مقال في صحيفةٍ ذات توجه عروبي بعنوان أنه يستبطن روحا عروبية، وإما أن ينشر آخر في صحيفة ذات توجه إسلامي بعنوان أنه متشبع بروح إسلامية؛ وإما أن يُقبل آخر لأنّ الناشر العروبي  يرتئي أن في النص نقد لموقف إسلامي، أو يُقبل آخر لأن الناشر الإسلامي يرتئي أن في النص نقد لموقف عروبي؛ أو على أنّ المقالة لم ترُق للناشر الإسلامي بدعوى أن فيها نقد علماني لموقف ديني، أو على أنّ المقالة لم ترُق للناشر العلماني بدعوى أنها تحتوي على نقد ديني لموقف علماني؛ أو على أن المقالة لم ترُق للناشر المتحزب بدعوى أنها تحتوي على نقد حزبي معيّن لموقف حزب الناشر؛ وهلم جرا. 
ويعني هذا أن لا الكاتب ولا الناشر ولا جهاز الإعلام، ولا الصحيفة ولا قراءها، ولا الإذاعة ولا مستمعيها، ولا التلفزيون ولا مشاهديه، فاهمون أن الثورة تعني تذويب مفاهيم مثل العروبة والإسلامية والعلمانية واليمين واليسار، وغيرها مما لم ينفع قبل الثورة، في بعضها البعض، ومن ثمة تشكيل مفاهيم مستحدثة تتماشى مع المسار الثوري وأهداف الثورة.
فهل نحن في تونس قمنا بثورة لكي نحرر التعبير وفي الوقت نفسه لكي نكبّل التفكير لكأنّ الثورة كانت صكا متأخرَ الدفع مقابل حرية تفكير تم استهلاكها بعدُ بدعوى أنها هي التي أدت إلى الثورة؟ ثم هل المطلوب أن يبقى بلد عربي بلا ثورة لكي تكون صحُفه مواكِبة للتجربة الفكرية التحررية؟
إن الجواب لا يتعلق بطبيعة ما يحصل في تونس أو بطبيعة المجتمعات الشقيقة التي لم تثر على أنظمتها. إنما يتعلق الجواب بالخلط الخطير بين حرية التعبير وحرية التفكير، وأيضا في غياب المزاوجة بينهما. كيف ذلك؟
يقول قائل إنّ متطلبات سياسة النشر والخط التحريري لكل جهاز إعلامي هي التي تؤْثر ممارسة الحجب على المادة الفكرية التي لا تتماشى معها، وبالتالي فإن هذه الممارسة الغريبة تُحسب على أنها أمر عادي لا يستدعي الاستنكار. لكن في هاته الحالة أتساءل: هل الكاتب العربي مسؤول عن تثقيف القراء بخصوص حرية التفكير وآلياتها و في الوقت نفسه مسؤول عن سياسة النشر إن ثبت، كما ثبت أعلاه، أنها لا تلبي حاجيات الفكر الحر بما فيها حاجيات الكُتاب والقراء؟ 
 طبعا ليس الكاتب ولا القارئ بحاجة لمثل هذا التحديد في حرية التعبير طالما أنه تحديد لحرية التفكير، حارمٌ المواهب والملكات المتعلقة بهذه الحرية من التفتق والارتقاء. إذن فتعاملُ بعض أجهزة الإعلام مع الأقلام الحرة بهذه الطريقة ينم على ما يلي:
 - أولا، على سوء تقدير لمفهوم حرية التفكير وعلى افتقار لممارستها.
 - ثانيا، على اعتدادٍ سحري وغريب مفاده أنّ الإعلام هو قائد "الفكر والتفكير" بينما الإعلام من المفترض أن يكون قائدا لـ"الرأي" وذلك بشرط أن يكون الرأي آتٍ من عند خبراء في الفكر، بناءً على أنّ الفكر هو الضابط للرأي، وأيضا من عند الخبراء في القلم وفي بيداغوجيا التواصل والتبليغ.
- ثالثا، على خلط رهيب بين حرية الإعلام، التي هي من حق الإعلاميين والشعب، وحرية التفكير، التي هي عملية تربوية تستدعي طريقة ودُربة، والتي هي حق الجميع لكنها ليست من مشمولات الإعلام بل من مشمولات أصحاب القلم والفكر.
ثم إنّ موضوع "الإسلام" لوحده، كمادة فكرية متداخلة في الفكر العربي يستوجب صفحات طويلة لشرحه. فقط ندعو أجهزة الإعلام العربية إلى اعتباره مادة إعلامية وذلك بتخلصها من التبعية في تحديد السياسة النشرية إزاء هذا الموضوع. إذ إنّ ما يعتبره الإعلام الغربي المسيحي دعاية حزبية باسم الدين أو باسم الحزب السياسي إنما هو عند العرب من مرتكزات العقل. فتطبيق المبدأ الغربي على الإعلام العربي باتَ من باب المعاداة للعقل وللفكر. وذلك لسبب بسيط: إنّ عقل العرب في دينهم. وهل يعقل حجب المادة الدينية من الإعلام دون أن تعاق العقلانية العربية؟
بالنهاية يتأكد لدينا أنّ الإعلام مطالب بمجاراة الفكر الحر وبتعديل سياسات النشر والتحرير بمقتضى ما وصل إليه الفكر من منجزات ونتائج ومقاربات وآليات البحث عن الحقيقة تقطع شيئا فشيئا مع الفكر الواحد والرأي الواحد، لا بمقتضى التجاذبات الإيديولوجية والحزبية القبْلية للثورة، أو التبعية للغرب. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/01/29



كتابة تعليق لموضوع : حرية الأقلام والخط التحريري للإعلام
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net