أشهر أسلحة إبليس ضد الأنبياء. الجزء الثاني. هل أصيب النبي بالسحر؟
مصطفى الهادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الجزء الأول كان المدخل إلى قضية سحر النبي والتي أثارتها بعض كتب المسلمين، وعلى ما يبدو فإن المشركين في مكة وبعض من دخل الإسلام منهم نفاقا استعاروا ذلك من اليهود الذين كانوا ينتشرون حولهم، حيث بيّنا أن اليهود والنصارى شاع عندهم اتهام الأنبياء بممارسة السحر، وذلك من أجل إبطال ما جاء به الأنبياء من دعوة الحق ركضا وراء المكاسب المادية، وهذا ما فعلهُ المشركون عندما بُعث نبينا صلوات الله عليه واله ، مع اعترافهم بأن النبي صادق وأمين وأن ما جاء به النبي عجزوا عن مجاراته ، وهذا من حقهم إذا تصوّرنا حجم الضرر الذي سوف يُصيبهم جراء دعوة النبي الجديد، خصوصا في مجال الربا ومنافع عبادة الأصنام وغيرها من أمور السلطة والحكم .
هذه هي سُنّة الأولين في التعامل مع الأنبياء فقد وصفوهم بالسحر والكذب والجنون (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون).(1) وهذا ما أكدته الكتب السماوية السابقة واعترف به المفسرون كما نقرأ في الكتاب المقدس (سيعرف إسرائيل. النبي أحمق. إنسان الروح مجنون).(2) يقول المفسر : (قالوا عن هوشع النبي أحمق وكل من كلمهم بالوحي قالوا عنه مجنون أحبوا الإثم فحقدوا على أنبياء الله حين طلبوا منهم التوبة).(3) مع علم تلك الأمم بأن الأنبياء ليسوا مجانين ذلك لأنهم رأوا هؤلاء الأنبياء يُشفون المجنون كما نقرأ في نفس كتبهم (حينئذ أحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه. فنظروا المجنون الذي كان فيه الجنون جالسا ولابسا وعاقل).(4)
أما السحر والتنجيم والعرافة ، فقد شاهد الملوك والناس أيضا كيف ابطل الأنبياء أعمالهم وفضحوا كذبهم ودجلهم لابل جهلهم ، ومع ذلك لم يؤمنوا للأنبياء ولنا في ثلاث قصص عبرة بالغة.
الأول: رؤيا الملك نبوخذ نصر الذي رأى حلما مزعجا جدا ارعبه وارّقهُ (حلم نبوخذ نصر أحلاما، فانزعجت روحه وطار عنه نومه. فأمر الملك بأن يستدعى المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون ليخبروا الملك بأحلامه. فأتوا ووقفوا أمام الملك. فقال لهم الملك: قد حلمت حلما وانزعجت روحي لمعرفة الحلم. إن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره، أقطعكم إربا إربا وتجعل بيوتكم مزبلة).(5)
إنه تحد عظيم لو عجزوا عن تفسير الحلم سوف يقتلهم هم وأهلهم وذريتهم ويجعل بيوتهم مكب للنفايات. في هذا الموقف وتحت ضغط الخوف ينكشف الزيف وتظهر الحقيقة.
وبعد مداولات بين السحرة والكهنة لأيام عجزوا عن تفسير الحلم وقالوا للملك (قال الكلدانيون للملك: ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك. غضب الملك واغتاظ جدا وأمر بإبادة كل حكماء بابل).(6) إنها مجزرة لو حصلت ارتاع لها السحرة والكهنة والعرافين، وتوسلوا بشتى السبل لدفع القتل عنهم، فلم يجدوا غير إعلان الحقيقة المرّة التي كانوا هم والملك يُنكرونها. الشخص الوحيد الذي يستطيع تفسير هذه الرؤيا هو (دانيال النبي) فاستغاثوا به. (فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتا فيبين للملك التعبير. وذهب إلى بيته، فأراه الله تفسير الرؤيا. فذهب دانيال إلى الملك (أجاب دانيال وقال: ليكن اسم الله مباركا من الأزل وإلى الأبد، لأن له الحكمة والجبروت. يعزل ملوكا وينصب ملوكا، لا تبد حكماء بابل وانا أقوم بالتعبير).(7)
ذهل الملك من تعبير دانيال وعرف أن ورائه ربا يُسدده (حينئذ خر نبوخذ نصر على وجهه وسجد ، وقال الملك لدانيال : حقا إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار، وعظّم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة، وسلطه على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشحن على جميع حكماء بابل).(8) في هذا النص لم يستكبر الملك نبوخذ نصر حسب رواية الكتاب المقدس ، بل أعلن إيمانه بإله دانيال ، وكذلك آمن السحرة والعرافون والكهنة. (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون).(9)
الثاني فراعنة مصر. وقصتهم معروفة في الكتاب المقدس والقرآن . القصة الأولى رؤيا رآها فرعون مصر طاش لها عقله ، فقام (النبي يوسف (ع) بتفسيرها مما أدى إلى إيمان فرعون وإكرام يوسف وجعلهُ على خزائن مصر.
والثالثة: هي قصة فرعون آخر مع موسى عليه السلام، وفي هذه القصة قبِل موسى التحدي وفضح سحر السحرة فعرفوا الحق واتبعوه وآمنوا بموسى وإله موسى (وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون).(10) لكن فرعون استكبر وبقى على عناده واتهم موسى بالتواطؤ مع السحرة (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر).(11) وبقوله هذا حاول خداع الجماهير الغفيرة التي شهدت التحدي. ولكن فرعون لربما كان غبيا ، فلو أنه قام بالتحدي في قصره واقتصر الأمر على خواصه لكان باستطاعته احتواء النتائج ، ولكن فرعون جعل التحدي على الملأ وبحضور حشود غفيرة من الأمم وهؤلاء شاهدوا ما فعلته أفعى موسى بعصي السحرة وهذا ما يذكره الكتاب المقدس بحذافيره : (فدخل موسى وهارون إلى فرعون وطرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا. فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة، وبسحرهم طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم. فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما).(12)
مما تقدم نفهم أن هناك عناد وحسد وبغض خصوصا ممن تضررت منافعهم وكسدت بضاعتهم وسُلب منهم الجاه بسبب دعوة الأنبياء ،هؤلاء مهما جئت لهم بالأدلة (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ... لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).(13)
القرآن يذكر بأن أقوى أسلحة الشيطان هو (السحر) لأن السحر انتقل من الشياطين إلى الإنسان كما يقول القرآن (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).(14) ولذلك عصم الله تعالى نبيه وآل بيته من تلاعب الشياطين فلا سلطة لهم على النبي وآل بيته فلا يصح أن يُقال لهم سحرة ولا مسحورين، وذلك لقوله تعالى (إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا).(15) والشيطان هو الرجس كله وذلك بنص القرآن (رجسُ من عمل الشيطان).(16) وبهذه الآيات بطل قول الكافرين من أن النبي ساحر أو يُصيبه السحر حتى يقوم بالهذيان ولا يدري ماذا فعل.
أما كيف امتلكت الشياطين هذه القوى الخفيّة (السحر) ، فبحسب نص القرآن كان الشياطين يجلسون مجالس في بعض أنحاء السماء يسترقون السمع لما يدور بين الملأ الأعلى (وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا).(17) فأصبحوا بعد بعثة نبينا (ص) يُقذفون بالشهب إذا حاولوا الاستماع مرة أخرى (لا يسمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب).(18)
هؤلاء الشياطين ولسنين متمادية كانوا يسترقون السمع و يلتقطون بعض الأسرار و الكلمات التي كان الملائكة يتحكمون بها ببعض الظواهر الطبيعية أو يتصرفون ببعض القوانين ، فكان الشياطين يستمعون ويُدونوا ذلك حتى عصر سُليمان الذي استعان بهم لتنفيذ بعض الأعمال الصعبة فكانوا يأتون بالخوارق عن طريق ما تعلموه من الملأ الأعلى ، ولما توفي سُليمان وتحرروا من سطوته بدأوا بتعليم السحر وأفشوه بين الناس.(19) ولكن ليس كل إنسان تُعلّمهُ الشياطين السحر أو عنده استعداد لتلقي ذلك، بل أن أماثل الشياطين من البشر هم الذين يكون عندهم استعداد لتلقي ذلك، والأماثل عادة ما يكونوا نتيجة مشاركة الشيطان لذويهم (وشاركهم في الأموال والأولاد).(20) أو من يعاني من انحراف في فطرته ممن فيه استعداد التلقي منهم فيقوم الشياطين بتجنيدهم ويدعوهم فيستجيبوا لهم (وقال الشيطان ... ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي).(21) والشياطين يعرفون أماثلهم من الإنس ممن يمتلك القدرة على محاربة الأنبياء (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض).(22) هذه الوسوسة وهذا الإيحاء فيما بينهم هو لتلقينهم أسرار خداع الناس فيما يُطلق عليه السحر وإخافتهم لجذب انتباههم وإلهائهم عن سماع دعوة الحق. وقد قدّم الله تعالى الإنس على الشياطين وذلك بسبب أن الإنس هم المباشرون لأذى الأنبياء وتكذيبهم وقد ورد عن أبي ذر أنهُ قال: دخلت المسجد ورسول الله (ص) فيه، فجئت فجلست إليه، فقال: (يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس) قلت: أو للإنس شياطين؟ قال: (نعم).(23)
في الأديان السابقة كما يبدو من نصوص الكتاب المقدس، فإن الشيطان له سلطة على كل الناس حتى الصالحين والمؤمنين كما يقول الكتاب المقدس: (إبليس الشيطان، الذي يضل العالم كله.. يضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض).(24) ففي رأي الكتاب المقدس لا استثناء لأحد من مس الشياطين. ولكن بحسب القرآن فإن إبليس لا سلطة له على الذين آمنوا: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنهُ فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين).(25) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان).(26) وكذلك (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا). (27) ولذلك وبنص آيات القرآن الكريم فإن رمي الأنبياء وأوصيائهم بالسحر بعيد عنهم ولا يصيبهم وإنما يفعل الناس ذلك لتبرير عجزهم وكفرهم أو بسبب السلطة والمال، لأن الأنبياء يقفون حائلا بينهم وبين ذلك.
وبالرجوع إلى الكتب المقدسة مرة أخرى، ففي نظر التوراة فإن للشيطان سلطة على الأنبياء أيضا كما نقرأ ذلك في نصوص كثيرة، منها إغوائه لآدم وامرأته.(28) وإغوائه لنبي الله داود (ع) (ووقف الشيطان وأغوى داود).(29) وكذلك تحكّمه في السيد المسيح (ع) : (وكان ــ يسوع ــ في البرية أربعين يوما يُجرّب من الشيطان).(30) ويتسلط على أبناء الأنبياء أيضا ( وهذه ابنة إبراهيم، قد ربطها الشيطان ثماني عشر سنة).(31) وللشيطان سلطة أيضا على خلفاء الأنبياء حواريون و أسباط (فدخل الشيطان في يهوذا وهو من جملة الاثني عشر).(32)
وقال السيد المسيح مخاطبا تلاميذه (هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة).(33)
ويعترف بولس الذي تعتبره المسيحية رسولا بأن الشيطان مسلط عليه (ملاك الشيطان يلطمني لكي لا أرتفع). (34)
ولعل هناك من يقول أن القرآن ذكر أن نبي الله أيوب مسّهُ الشيطان، فلماذا لا يكون نبينا (ص) ممسوس أيضا وان رواية أم المؤمنين عائشة صحيحة؟
المراد من قوله : (أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) هذا العذاب بسبب إلقاء الشيطان للوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة من اجل انتزاع ولو كلمة واحدة من النبي أيوب مستغلا طول مدة المرض فكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع، وبسبب ذلك كان أيوب يعاني من العذاب والعناء. لقد صبر أيوب فكان قدوة وضرب مثلا بصبره ولم يجزع ولم يقنط فنال ثناء الله تعالى كما ورد في الكتاب المقدس والقرآن يقول الكتاب المقدس على الرغم من معاناته (لم يخطئ أيوب بشفتيه ولم ينسب لله جهالة).(35) فلم يستطع الشيطان أن ينتزع كلمة واحدة من شفتي أيوب تدل على يأسه وقنوطه من رحمة الله. ولذلك وصفه الله بالصبر على البلاء (إنا وجدناهُ صابراً نعمَ العبدُ إنهُ أواب).(36)
في الإسلام تغيّرت الحال حيث غلّ الله الشياطين عن أن يمسوا النبي وآل بيته عليهم السلام فعصمهم وطهرهم من رجس الشيطان. وبناء على ذلك هل يجوز لنا نحن المسلمون أن نردد مقولة المشركين فنقول بأن نبي الإسلام عليه السلام مسّهُ السحر كما ورد في الرواية المشهورة عن عائشة، والتي لو تأملناها جيدا لرأيناها نفس مقولة اليهود والنصارى في اتهام الأنبياء بالسحر والجنون.
هل سُحر النبي؟
قصة سحر النبي التي وردت في كتب المسلمين هناك أيادي خبيثة من بعض المذاهب الإسلامية وكذلك الأديان الأخرى تستغل أمثال هذه الروايات الكاذبة لخداع بسطاء الناس ، إما للإساءة للإسلام ونبي الإسلام ، أو لإبعاد الشبهة عن أنبيائهم ورموزهم بأنهم كانوا غرضا لسهام الشياطين، الرواية وردت بأشكال مختلفة تكاد تُخرجها عن الصحة من دون بذل أي جهد لولا إيمان بعض المذاهب بها إيمانا دفعهم للدفاع عنها.
قال المفسرون والمحدثون وأهل التاريخ والسير، خصوصا في (تفسير المعوذتين): قالوا ثبت في (الصحيح) عن عائشة (أن النبي (ص) طُبَّ أي: سُحِرَ، حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال: "أَشَعَرتِ أن الله أفتاني فيما استفتيتكم فيه"، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، أي: مسحور، قال: من سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فبماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعِ َذَكَر قال: فأين هو؟ قال: في ذروان بئر في بني زريق"، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله (ص) في أناس من أصحابه، ثم رجع إلى عائشة، فقال: "والله، لكأنَّ ماءها نُقَاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين"، قالت: فقلت له: يا رسول الله، هلاَّ أخرجتَه، قال: "أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا"، فأمر بها فدفنت).(37)
في الرواية تناقض عجيب، من ذلك: أن رسول الله (ص) أرسل عليا وعمارا لاستخراج السحر. وفي رواية عائشة: أنه (ص) توجه بنفسه إلى البئر مع جماعة. وفي رواية أن عمر بن الحكم أخرج السحر. ورواية أخرى تقول فدعا جبير بن إياس الزرقي فدله على موضعه في بئر ذروان تحت أرعوفة البئر ، فخرج جبير حتى استخرجه . وقال ابن سعد : ويقال : إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله (ص) قيس بن محصن الزرقي .
الرواية وردت أيضا في مصادر الشيعة كما في البحار (38). ولكن لا كما وردت في مصادر أهل السنة فقد قال علمائنا أنّ السحر لا يؤثّر في نفوس الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما عليه المشهور، والمحقّقون من علماء الإماميّة. أنّ الروايات الشيعية في هذا الموضوع تدلّ فقط على محاولة بعض اليهود ضمن مؤامراتهم ضد النبي أن يسحروه ، وليس فيها دلالة على تأثير ذلك السحر في نفسه الكريمة (ص) ، بل فيها دلالة على صدق نبّوته، إذ إنّه (ص) اطّلع على هذا التمويه بإخبار من الله عزّ وجل فأمر باستخراج السحر من مكان خاص، فكان كما أخبر هو (ص)وهذه القضية أصبحت تأييداً آخر لنبوّته ورسالته.وعلى العكس من ذلك ، فإنّ في روايات أهل السنة في هذا المجال ما يأباه العقل والنقل ويردّه حتى القرآن. وبعض علمائنا نفوا ذلك ومنهم العلامة الطبرسي في مجمع البيان قال: (وهذا لا يجوز؛ لأن من وصف بأنّه مسحور فكأنه قد خبل عقله وقد أبى الله سبحانه ذلك في قوله: ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا) .(39)
التمييز بين السحر والشعوذة والمعجزة ، فإن المعجزة لا تحتاج إلى مقدمات ولا استعداد وإجراءات أو تدريب وتمرين، كما يفعل الساحر والمشعوذ من التدريب والاستعداد لعمله. صاحب المعجزة يأتي بها من غير مناسبة، إلا كونه مبعوث حقا من قبل ربه. ففي زمن عيسى مثلا كم مر من السنين على العميان والزمنى والمجانين وكان السحر موجودا ، فلماذا لم يقم السحرة بشفائهم؟ بينما قام عيسى بذلك من دون مناسبة ولم يضع مرهما ولم يستخدم أي دواء. وكذلك صاحب المعجزة لم ينسب المعجزة إلى نفسه بل إلى ربه فيقول للميت مثلا: قم بإذن الله . وللأعمى افتح عينيك بإذن الله. ومن هنا نرى عيسى يقول لقومه بعد كل معجزة: (أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا. بل مشيئة الله الذي أرسلني. تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق. لست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني الله).(40) ففي كل أقواله وأفعاله تأكيد على أنه إنما يتكلم أو يفعل هذه الأشياء ليس بقدرته أو على علم عنده، إنما يفعل ذلك بإذن ربه.وقد جاء القرآن مؤيدا لذلك عندما قال عن عيسى : )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني).(41) وهذا شامل لجميع الأنبياء (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).(42) وأما الساحر فبعكس ذلك فهو بحاجة إلى أن يتدرب على حيلته فترة طويلة من أجل أن يُخرج مثلا الأرنب من القبعة ثم ينتظر الإطراء والمديح والتصفيق، وبعد انتهاء الحفل يقوم بعد الأموال التي حصل عليها. ولا يهمه مصدر هذه الأموال حتى لو كانت على أوجاع الناس وآلامهم ومصائبهم، والذي يزعم فيه أنه يُشفيهم من جميع أمراضهم.
البحث القرآني.
أولا . أن القرآن اكد مقدما بأن الله حفظ النبي من الناس (والله يعصمك من الناس).(43) الثاني : لو كانت عملية سحر النبي (ص) صحيحة وانها وقعت لذكرها القرآن خصوصا وأن القرآن ذكر حتى ما وقع بين النبي وأزواجه.
الثالث: لماذا لم تذكر بقية أزواج النبي التسع خبر سحر النبي (ص) وكلهن يسكنّ في بيت واحد وغرفهن متجاورة. مع أن السحر استمر حسب الرواية لستة أشهر، والرواية تقول (بأن النبي يُخيل إليه انه يأتي أزواجه أو لم يأتهن). فلم تؤكد أي من زوجات النبي أنه كان يفعل ذلك.
الرابع: تقول الرواية بأن لبيد بن الأعصم اليهودي (44) استخدم مشط رسول الله وشعره في عمل السحر. فمن الذي أوصل ذلك إليه هل تسلل إلى غرفة أم المؤمنين عائشة واخذ ذلك، أم أن هناك من أوصله إليه لو صح الخبر. أليس في ذلك إساءة بالغة لعائشة تضعها في دائرة الاتهام بالتآمر على النبي (ص).
إضافة إلى ذلك فإن واضع هذه الرواية زعم أنه بسبب سحر النبي (ص) أنزل الله المعوذتين فقرأهما النبي وبرء من سحره. وهذا من اعجب الأعاجيب. حيث ان الجميع يعلم أن المعوذتين نزلتا في مكة في أوائل الدعوة الإسلامية ، بينما فرية سحر النبي كانت في المدينة في السنة السابعة للهجرة. وبالرجوع إلى أحداث السنة السابعة للهجرة ، نجد أن النبي (ص) كان في أوج نشاطه وحيويته وفي هذه السنة قام بأكثر تحالفاته وفتوحاته ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : في هذه السنة عقد صلح الحديبية ، وفتح خيبر، ونزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، وحصلت غزوة ذي قرد بقيادة الرسول نفسه ضد عيينة بن حصن الفزاري من غطفان، ورجوع جعفر ابن أبي طالب ومن معهُ من المهاجرين للحبشة، حتى قال الرسول (ص) (والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر).وفي هذه السنة قدمت قبيلة دوس من اليمن بقيادة الطفيل بن عمرو الدوسي فأسلموا. وفي هذه السنة تزوج النبي من أم حبيبة بنت أبي سفيان، وفي هذه السنة أيضا تزوج النبي من صفية بنت حيي بن اخطب وهي من سبايا خيبر. وفي هذه السنة أرسل النبي سرية أبان بن سعيد بن العاص إلى نجد. وفي هذه السنة ارسل المقوقس مارية القبطية إلى النبي فتزوجها النبي وولدت له إبراهيم. وفي هذه السنة بعث النبي محيصة بن مسعود إلى قرى فدك يدعوهم إلى الإسلام فصالحوا النبي على فدك ، فقبل ذلك منهم. وفي هذه السنة فتح وادي القرى. وفي هذه السنة صالح يهود تيماء النبي. وفيها كانت غزوة ذات الرقاع. وفيها كانت غزوة بني ثعلبة بقيادة غالب بن عبد الله الليثي. وفيها بعث النبي سرية بقيادة أبي بكر إلى نجد. وفيها كانت سرية عمر بن الخطاب إلى تربة. وفيها كانت سرية بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك. وفيها كانت سرية بشير بن سعد أيضًا إلى يمن وجبار. وفيها كانت عمرة القضاء. وفيها تزوج النبي من ميمونة بنت الحارث وهي التي نزل فيها قوله تعالى : (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي).وفيها كانت سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم. كل هذه الأحداث تحتاج وقتا من أجل إقرارها وإبرامها بينما تقول رواية عائشة أن النبي بقى (ستة اشهر) يعيش الخيالات والأوهام نتيجة السحر ، وأنه يتصور أنهُ فعل الشيء وما فعله، وهذا يعني أن كل أحداث السنة السابعة التي ذكرناها كان النبي في شك هل فعلها أو لم يفعلها؟!. الغريب أنهُ في نفس السنة (السنة السابعة للهجرة) أهدت يهودية شاة مصلية مسمومة إلى الرسول (ص) فأخبره الوحي بأن لا يأكل منها وامر أصحابه أن لا يأكلوا منها وقال لهم (ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة).(45) فهل غفل الوحي عن لبيد بن الأعصم فلم يُحذر النبي من سحّره؟ وحذّرهُ فقط من الشاة المسمومة. ثم ماذا عن نزول بعض الآيات في هذه السنة فهل كان النبي يُخيل إليه أنه رأى جبريل وليس هو. وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء؟!.
مما تقدم نفهم أن المؤرخين دونوا كل أحداث السنة السابعة للهجرة صغيرها وكبيرها فلم يذكروا أن النبي سُحر في هذه السنة ولا التي قبلها ولا التي بعدها وأنها كانت سنة حافلة بالنشاط، ولعل اهم حدث يدور في هذا السياق هو قصة الشاة المسمومة التي أهدتها يهودية للنبي (ص) وأصحابه فأخبره الله تعالى بأمرها، ثم اعتراف اليهودية بذلك.(46) وأنا اعتقد بأن هذه الرواية كمثيلتها بأن النبي تم سحره فهي أيضا ليست حقيقية وإنما قام بدسّها من سمَ النبي فيما بعد وزعم أنهُ توفى بسبب الشاة التي سممتها اليهودية والأغرب من ذلك أن راوي رواية سم النبي (ص) هي عائشة نفسها التي روت سحر النبي، عن عروة عن عائشة قالت : (كان النبي يقول في مرضه الذي مات فيه: يا ‌عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع ‌أبهري من ذلك السم، وكان يجد اثر هذا السم بين الحين والحين، حتى جاء موته).(47) ولو رجعنا إلى ما قبل موت النبي (ص) بأيام لوجدنا رواية (لد النبي) من قبل عائشة ، فقد سقته الدواء المزعوم وهو مغمى عليه. وكان قد نهاهم أن يلدّوه، وعندما أفاق وعلم أنهم خالفوا كلامه ولدّوه أمر كل من كان حاضرا في الغرفة ان يشرب من الدواء الذي لدّوه به ، فقد شك رسول الله أن يكون هذا الدواء مسموما. تقول عائشة : (لدَدْنا رسول الله (ص) في مرضه، فأشار: أن لا تَلُدوني! فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: لا يبقى أحدٌّ إلا لُدَّ).(48)
المصادر :
1- سورة الذاريات آية : 52.
2- سفر هوشع 9: 7 .
3- شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص أنطونيوس فكري، تفسير سفر هوشع9.
4- إنجيل متى :12 : 22.و: إنجيل مرقس 5: 15.
5- سفر دانيال 2 : 1 ـ 5.
6- سفر دانيال 2 : 12.
7- سفر دانيال 2: 17.
8- سفر دانيال 2 : 46ـ 48.
9- سورة الأعراف آية : 118.
10- سورة الأعراف آية : 118 .
11- سورة الشعراء آية : 49.
12- سفر الخروج 7 : 10.
13- سورة يونس آية : 97. وسورة الحجر آية : 15.
14- سورة البقرة آية : 102.
15- سورة الأحزاب آية 33.
16- سورة سبأ آية : 20.
17- سورة الجن آية : 9.
18- سورة الصافات آية : 8.
19- تفسير الطبري ج1 ص : 348 تفسير سورة البقرة آية : 102.
20- سورة الإسراء آية : 64.
21- سورة إبراهيم آية : 22.
22- سورة الأنعام آية : 102.
23- سنن النسائي، كتاب الاستعاذة من شر شياطين الإنس حديث رقم : 5507.
24- سفر الرؤيا 12 : 9. و : رؤيا 20 : 8.
25- سورة سبأ آية : 20.
26- سورة الحجر آية : 42.
27- النحل آية : 99.
28- سفر التكوين 3 : 4.
29- سفر أخبار الأيام الأول 21 : 1.
30- إنجيل مرقس 13 : 1.
31- إنجيل لوقا 13 : 16.
32- إنجيل لوقا 22 : 3.
33- إنجيل لوقا 22 : 31.
34- رسالة بولس الثانية كورنثوس 12 : 7.
35- سفر أيوب 2 : 10.
36- سورة ص، آية: 44.
37- المصادر التي وردت فيها رواية سحر النبي : صحيح البخاري، نشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: لأولى، 1422هـ. و صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي بيروت.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لمحمود بن أحمد بن موسى الحنفى بدر الدين العينى، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة: السابعة، 1323 هـ.كشف المشكل من حديث الصحيحين، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: علي حسين البواب، الناشر: دار الوطن – الرياض.مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن سلطان الملا الهروي القاري، الناشر: دار الفكر، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2002م. وغيرها من مصادر وكلها تروي الرواية عن عائشة.
38- البحار،ج 18ص57 ، 69.
39- (الفرقان/8 ـ 9). مجمع البيان ج10 ص568.
40- إنجيل يوحنا 5.
41- سورة المائدة آية 110.
42- سورة الرعد آية : 38.
43- سورة المائدة آية : 67.
44- لبيد بن الأعصم هو رجل يهودي، قيل أنه سحر الرسول فبقي على ذلك ستة أشهر، حتى نزلت سورتي المعوذتين - سورة الفلق وسورة الناس - رقية له. جلال الدين السيوطي في كتابه: لباب النقول في أسباب النزول ، باب ما ورد عن لبيد بن الأعصم.
45- سنن أبي داود ،كتاب الديات باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد منه ،حديث رقم: 4512.
46- أهدت لهُ يهوديَّةٌ بخيبرَ شاةً مَصليَّةً سمَّتْها فأكلَ رسولُ اللَّهِ (ص) منها وأكلَ القومُ فقالَ ارفعوا أيديَكُم فإنَّها أخبرتني أنَّها مسمومةٌ . فأرسلَ إلى اليهوديَّةِ ما حملكِ على الَّذي صنعتِ قالت إن كنتَ نبيًّا لم يضرَّكَ الَّذي صنعتُ وإن كنتَ ملِكًا أرحتُ النَّاسَ منكَ فأمرَ بها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقُتلت.
47- الحاكم في المستدرك ج3 ص : 60. والبزاز في مسنده ج18 ص : 149.وابن حجر في تغليق التعليق ج4 ص : 162.
48- لقد علم النبي (ص) بأن هناك محاولة لقتله في داخل بيته، فبعد عن عجزت كل المحاولات لاغتياله وتصفيته في حروب ومؤامرات، عمدت قريش وأعوانها إلى جواسيسهم في بيت النبي فقاموا بذلك وأشاعوا بأنه توفي نتيجة لأكله من الشاة المسمومة.

الموضوع السابق كلمات مترابطة في القرآن الكريم (الركوع و السجود) (ح 2)

الموضوع التالي هل (يُحِبُّ) المؤمنُ الموت؟

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat