صفحة الكاتب : بشرى الهلالي

صرخة (رباب)
بشرى الهلالي
  لعشرات النهارات، مررت بهذا التقاطع، لكنها المرة الثانية او الثالثة التي قادني فيها دربي اليه ليلاً. كانت الساعة السابعة مساءً تقريبا، والشوارع يكسوها الظلام الا من أضواء مصابيح السيارات واشارات المرور. وكالعادة ما أن يتوقف السير حتى يهجم باعة التقاطع من كل الاعمار، يحملون بضائع متواضعة من المناديل الورقية والعلكة وهم  يعلمون جيدا انها لا تستهوي المشتري الذي غالبا مايردها اليهم وقد يمنح البائع الف دينار او 500 او حتى ربع، فالجميع يعلم ان بائعي التقاطعات ونقاط التفتيش ماهم الا وجه آخر للتسول. اعتدنا وجودهم وقرعهم زجاج نوافذ السيارات وصراخهم حتى اختفت مشاعر التعاطف لدى اغلبنا ولم يعد يشغلنا سوى ابتعادهم والكف عن اعاقة السير.
 
... وجودها في هذا المكان وفي هذه الساعة كسر رتابة الانتظار، كانت تتلفع بعباءتها فتبدو اشبه بشبح يتحرك في الظلام. اقتربت من السيارة التي امامي، وانحنت لتحدث سائقها وهي تمد يدها اليه بما احتوته من علبة لبيع العلكة. بالطبع لم اسمع مادار بين الفتاة والسائق، لكني امعنت النظر فيها عندما التف جسدها الممشوق وهي تتوجه نحوي، فلاحظت انها كانت تحمل في يدها اليسرى كيسا بلاستيكيا يضم ملابس، كما خمنت. تصاعدت دهشتي اكثر عندما انار مصباح السيارة الامامي وجهها فبدت شابة في العشرينات من العمر تقريبا وعلى قدر لابأس به من الجمال، فمن ذا الذي تجرّأ على طردها في تلك الساعة حتى باتت بلا مأوى؟ هل هو زوجها.. ضربها والقى بها خارج الدار، ام هم اهلها؟ لايعقل ان تكون (مقطوعة من شجرة).. ربما تكون جزءا من عصابة تسول او دعارة من تلك التي انتشرت في البلد وتحول بعضها الى مافيات تتاجر بكرامة الانسان والجسد؟
 
... بيد حذرة قرعت زجاج السيارة لكنها تراجعت فلم تكن تتوقع ان تجيبها امرأة.. اعطيتها بعض المال.. بدت مترددة او ساخرة، وبدا واضحا ان ماتبحث عنه هذه الفتاة هو ليس الالف دينار او الربع.
 
- ما اسمك؟
 
ضايقها السؤال كأنها تقول، وماشأنك انت؟ الا انها اجابت على مضض: رباب.
 
- الا تخافين من التجول وحدك بين السيارات يا رباب.. قد تتعرضين للخطف او الاعتداء و أنت شابة جميلة؟
 
ادارت ظهرها لي في خطوة لتبتعد غير آبهة بالسؤال.. مددت يدي، أمسكت بيدها لاستوقفها.
 
- لاتنزعجي يا رباب، لا اقصد التدخل في شؤونك، لكني امرأة مثلك ويؤلمني ان أرى أخرى في هذا الحال؟ أليس لديك اهل، ولم تحملين صرة ملابسك، اين تقضين ليلتك، اليس لديك فراشا او بيتا تأوين اليه؟
 
- اسئلتك كثيرة يا سيدة؟ اجابت رباب بعصبية وهي تنقل نظرها بيني وبين السيارة بنظرة ساخرة كمن تقول: وما ادراك بحالي، مايهمك من امري.
 
- لست مترفة يارباب، انا امرأة كادحة، وربما كنت في مكاني الآن لو ان ظروفك ساعدت، فلا تبتعدي.. كلنا يحمل جراحا، وكلنا تعرض للسرقة، سرقوا براءة جسدك ومازالوا يسرقون ايامنا.. احلامنا.. اصواتنا..
 
- ليتك تأخذيني معك.. القي بي من على الجسر او تحت عجلات السيارات فقط لاتخلص من جلدي فلم يعد فيه بقعة لم تتلوث ببصمات ايديهم.
 
.. لااعرف من الذي انهمر اولا دموعها ام الحروف، وهل شاركتها البكاء؟ لا اتذكر سوى اني افقت من ذهولي على صوت منبهات السيارات الذي رافق تثاؤب الضوء الاخضر، لأجدني اقف وحدي بين جنون زحف السيارات،  بينما تكومت رباب على الرصيف.
 
- اعذريني يارباب.. علي الذهاب..
 
نهضت ..انتفضت صارخة:
 
- كلكم تذهبون.. تعتذرون وتذهبون، دون ان تدركوا ان ماتخلفونه وراءكم هو دمي الذي استبيح على ارض لم تمنحني سوى جنسية متهرئة وشوارع يطويني في وحشتها ظلام الليل.. لاتعتذري فمهما ابتعدت ستظل قدمك مربوطة الى  قدمي بسلسلة واحدة.. فكلنا سبايا...
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بشرى الهلالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/10



كتابة تعليق لموضوع : صرخة (رباب)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net