صفحة الكاتب : صالح الطائي

الدكتور الصلابي والاستعمار العثماني
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لم يكن تاريخنا القديم مستباحا في حقبة ما من حقبه فحسب، فقد ثبت وبالدليل القاطع أنه لا زال يتعرض إلى الاستباحة في كل يوم على يد المؤتمنين عليه أنفسهم، ومن هؤلاء المؤتمنين الدكتور الليبي علي محمد الصلابي؛ الذي وضع عشرات الكتب تناول فيها دراسات من التاريخ الإسلامي وفق منهجية معاصرة ظاهرا، ولكنها في كل جوانبها موروثة حرفيا عما سبق وأن ارتكبه المؤرخون الأوائل من تحريف وخلط وتشويه.

ومن بين جميع مؤلفاته، اخترت كتابه (الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط) أنموذجا لهذا التحريف لما يحويه هذا الكتاب من تهافت وتعارض، علما أن ما فيه ينسحب على جميع كتبه ومؤلفاته الأخرى.

بداية قال الدكتور الصلابي عن سبب تأليفه الكتاب، أنه جاء بهدف: "كشف الزور والبهتان الذي تعرضت له الدولة العثمانية من الأقلام المسمومة، وبيان بطلان من سمَّى الحكم العثماني استعمارا، وقرنه بالاستعمار الغربي، كالاستعمار الفرنسي والانكليزي". 

ومن فحوى كلامه نعرف الغاية من وضع هذا المؤلف، وما يهدف إليه الرجل من وراء تأليفه، فهو لا يعدو كونه مجرد محاولة متأخرة لتبييض وجه الاستعمار العثماني الطائفي الأسود ليس أكثر.

 

فإذا كانت الهيمنة العثمانية التي سلبت منا كل قيم الحياة، ونشرت في أوطاننا كل أنواع  التخلف والجهل والطائفية؛ التي نشكو من تداعياتها إلى اليوم لا تسمى استعمارا، فكيف يكون الاستعمار إذاً؟!أليس هذا هو الهدف الأسمى للمستعمر على مر التاريخ؟

ولكي يدعم الدكتور الصلابي هذه الفكرة، جاهد ليخلق فضائل زائفة وينسبها إلى السلاطين العثمانيين، لا من خلال تفكيك الوقائع ودراسة الآثار أكاديميا، ولكن من خلال العزف على فكرة الطائفية المقيتة وحدها دون سواها، مراهنا على النفس الطائفي عسى أن يكسب من خلاله بعض المؤيدين لمشروعه المنحرف، وقد سمى تلك الفضائل المختلقة: (الأعمال الجليلة للدولة العثمانية)، ومن تلك الأعمال التي يدعي الدكتور الصلابي أنها جليلة: (نصرة أهل السنة، وحماية الأماكن المقدسة. ومنع انتشار المذهب الاثنا عشري الشيعي الرافضي إلى الولايات الإسلامية) وهي كل الأعمال التي تميز استعمار الدولة العثمانية عن غيره من الاستعمار، الذي استهدف الأمة بكل مكوناتها، وأكد على بث النفس الطائفي، وإذكاء الفتن الطائفية، وهي كلها صفات تربط الاستعمار العثماني مباشرة باستعمار دول بعينها مثل فرنسا التي حاولت من خلال سياستها الفرانكفونية سلب ثقافات وحضارات الشعوب التي استعمرتها، وأجبرتها على تقليد الثقافة الفرنسية بما في ذلك وجوب تعلم لغتها، وترك اللغات المحلية.

إن هذا التلميع الكاذب لا يكاد يصمد أمام التعارض الذي وقع فيه الدكتور الصلابي خلال توسعه بالحديث عن الدولة العثمانية وسلاطينها، فهو بعد أن مدح بعضهم بما ليس فيهم، اعترف صراحة بالانحراف الكبير الذي وقع به الآخرون؛ ومنهم السلطان عبد المجيد بن السلطان محمود؛ الذي قال عنه: إنه (اعتنق فكر الماسونية، وقام بعلمنة الدولة؟).

فكيف تتوافق الماسونية اليهودية مع العقيدة الإسلامية التي يتبعها السلاطين؟ وكيف بأمة إذا كان أمير المؤمنين فيها ماسونيا منحرفا؟!

فضلا عن ذلك تبدو الأسباب التي ساقها الدكتور الصلابي ليعزو إليها سقوط الإمبراطورية إما بعيدة كليا عن منهج وشريعة وروح الإسلام، وعن الحقيقة والواقع؛ مثل ادعائه أن انحراف الأمة عن مفاهيم الدين، كان من أسباب السقوط، أو ساقها من أجل أن يشرك الأمة مع السلاطين في حمل وزر سقوط الإمبراطورية، مثل ادعائه أن (انتشار مظاهر الشرك والبدع والانحرافات في الأمة الإسلامية، وابتعاد الأمة وانحرافها عن شرع الله، وضعف أخلاق الأمة)، كانت من أسباب السقوط. 

وهي كلها مؤشرات لا علاقة لها بسقوط الإمبراطورية، ولكنها تشخص الحال الحقيقي لمأساة لأمة، بعد أن قادها السلاطين العثمانيين الجهلة، لأنهم هم من أوصلها إلى هذا الحال المزري بسبب سياستهم الغبية الطائفية الجاهلة.

وإن كان الدكتور الصلابي قد قال حقا، فذلك القول الحق، ينحصر فقط فيما أعزاه إلى السلاطين من قصور تسبب في سقوط الإمبراطورية، مثل قوله: (إن من أسباب سقوط الدولة العثمانية:  ضياع القيادة الربانية، وانتشار الظلم في الدولة، وما أصابها من الترف والانغماس في الشهوات، وجور السلاطين، وتحول العلماء إلى ألعوبة بيد الحكام، كانت أهم أسباب السقوط).

 فكيف تكون الدولة إسلامية حقا وفيها كل هذه المخازي وهذا الانحطاط؟ وكيف تقاوم دولة ما السقوط وقياداتها تحمل كل هذا الانحراف؟

إن هذه المحاولات البائسة تعمل على تجهيل الأمة، واستغفال العقل المسلم، وتسهم في زرع الطائفية بين مكوناتها، وهي أولا وأخرا؛ لا تعدو كونها من سنخ تلك المحاولات المريضة البائسة التي قام بها ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن العربي ومن هم على شاكلتهم ممن أبتلينا بهم في عصرهم، ولا زالت أفكارهم وأقوالهم تتسبب في فرقتنا وبعدنا عن بعضنا.

وأكبر رد على ما جاء به الصلابي هو الموقف الموحد لكثير من المذاهب الإسلامية، والكثير من مثقفي الأمة وباحثيها ومفكريها؛ الذي عد سيطرة العثمانيين على مقاليد أمتنا الإسلامية أحد أكبر أسباب تخلفنا واختلافنا.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/03/19



كتابة تعليق لموضوع : الدكتور الصلابي والاستعمار العثماني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net