صفحة الكاتب : محمد السمناوي

هل يمكن ان تكون الرحلة بعد الموت خارجة عن الزمن؟
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 هل الميت يشعر بالزمن في رحلته الى الاخرة ؟
قبل الاجابة عن الاشكالية ينبغي أن يُعلم ان الزمان الذي نعيشه في حياتنا يقظة ومناما على قسمين : 
الاول: الزمان الفيزيائي .
الثاني : الزمان النفسي.
اما الاول فهو: الزمان المحسوس ومن خصائصه التغير والحركة والتبدل والتقلّب ، وهو قادر ان يُقدّر وقد ذكره الاقدمون من العصر السومري والمصري والاكدي والبابلي واليوناني في تراثهم كالايام والشهور والسنين ، والحركة الفلكية والكونية وتغير الاحوال من الليل والنهار وحركة الشمس والقمر ، حيث قسموا وذكروا ان للزمان اقدارا كالثانية والدقيقة والساعة واقدارا فلكية واليوم من طلوع الشمس حتى الغروب، ودورة المنازل ، والسنة الشمسية، وتعاقب الفصول الأربعة، واستدلوا من خلال ذلك ان السنة الشمسية هي نحو من ٣٦٥ يوما وربع اليوم ، واصطلحوا على اليوم فجعلوه نحوا من ٢٤ ساعة ثم قسموا الساعة الى ٦٠ دقيقة وجعلوا الدقيقة ٦٠ ثانية لجهة الحساب والتجزئة الى ابعاض الزمن وآناته من اجل حساب المدد والفترات الزمانية للاحداث والتغيرات .
هذا الزمان يطلق عليه بالزمان الفيزيائي وهو مرتبط بالحركة والتغير فهو مقياس لتقدير الحركة ، ومن خلاله اتخذ مفهوم السرعة معناه. فالسرعة والبطأ قياسات نسبية للاحداث .
فالحركةوالتبدل أحداث ترتبط دوما بمكان لذلك كان لابد من التفكير بالزمان ملازما للمكان في صيرورة واحدة هي الحدث الذي يكون في زمان ومكان ... فلا زمان منفك عن المكان ولا المكان منفك عن زمان ... وهكذا هو مشهور ومعروف لدى المتتبع، خلافا للفيزيائيين الأوائل الحكماء والفلاسفة في عصر الاغريق ، وسار على فكرهم ونهجهم بعض الفلاسفة المسلمين حيث اخذوا معنى الزمان مجردا عن المكان وقالوا بالاستقلالية عنه، وتجسدت هذه الفكرة في نظرية نيوتن في الحركة وقانونه في الجاذبية. 
وفيها يؤخذ الزمان مجردا وكأنه تيار يجري بالتساوي في أرجاء الكون ، وهذا هو الزمان الموضوعي المطلق الذي اعتمده نيوتن وما سار على نهجه. والزمان في التصور الكلاسيكي قابل للتجزئة الى اجزاء لا متناهية في الصغر. 
في أواخر القرن التاسع عشر وجد الفيزيائيون ان مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية لم تعد صالحة لتفسير ظواهر مستجدة اكتشفت خلال النصف الثاني من ذلك القرن ، ومن هذه المفاهيم علاقة الزمان بالمكان فجاء ألبرت آينشتاين بنظرية النسبية عام ١٩٠٥م وفيها تقرر أن الزمان والمكان هما كينونتان وجوديتان تعتمد إحداهما على الاخرى وتتلازمان في هيئة الحدث الزماني ، وبذلك فقد الزمان والمكان النيوتني المطلق قيمته ومعناه. 
أما الزمان النفسي: هو الذي تعيشه النفس البشرية في عالم ما بعد الوعي ، عالم الغيب الذي يحصل حين يفقد الانسان قدرته الذاتية الاختيارية الواعية وتتوقف أفعاله الإدارية، كحالة النوم ، أو الغيبوبة ، أو حالة الموت، وهذا الزمن غير قابل للتقدير بالحس المباشر ، وإنما يعرف بالقياس الفيزيائي ، وليس له بعض.
يقدر الوعي البشري الزمان بصيغة مختلفة تماما عن تقديره الفيزيائي ... فالنفس البشرية تحس بالزمان من خلال تقديرها للحوادث الخارجية متداخلة مع رد الفعل العقلي والعاطفي، لذلك يتعلق الاحساس تعلقا وطيدا بالحالة النفسية للإنسان... وفي هذا لا توجد معايير دقيقة للتعامل مع الزمن ؛ لأنه هنا خارج القياس الكمي الدقيق، بل هو احساس مرتبط بحالة النفس، ولما كانت هذه الاحوال لا تؤول إلى مرجع قياسي محدد ومعرف، فإن القياس الزماني ليس الا قياسا ذاتيا محضا لا يعول عليه، بل هو خبرة ذاتية وشخصية مستقلة عن العالم الفيزيائي الخارجي.
ناتي الان الى فكرة الموت وهذه الرحلة الغامضة والتي لا يمكن القطع والجزم بكل ما تم ذكره وانما هي محاولة تقريبية لفهم هذه الرحلة من خلال تفسير الزمان النفسي ، ولذا نقول : ان الموت هو عبارة عن خروج النفس من كفالة الانسان في يقظته الى كفالة الله تعالى، وهذه الحالة يستوي فيها الميت والنائم من جهة النفس البشرية. 
ونجيب على السؤال الذي ابتدأنا به في مقدمة هذه المقالة المتواضعة وهو هل يمكن ان تكون الرحلة بعد الموت مجردة عن الزمان الفيزيائي؟ الجواب هنا يقع من جهتين : 
١- أما من جهة البدن فإن النائم يبقى حيا على حين تنقطع الحياة وتتوقف الافعال الحيوية الظاهرة في بدن الميت . 
ان الزمان الذي تعيشه النفس بعد الموت هو زمان قصير جدا بالاعتبارات الحسية، فالميت بعد خروج روحه من جسده لا يشعر بأي زمن بعد موته .
٢- أما فيما يتعلق بالزمان فالنفس المتوفاة لا تشعر به، بل تعيش أحداثا في لا زمان؛ لأنها في حالتها هذه تكون في ملكوت الله تعالى وسلطانه المباشر، بحالة نفس الميت هذه هي حالة نفس النائم بلا ريب، فالنائم لا يشعر بالزمن رغم انه يرى أحداثا من خلال الرؤى والاحلام . 
فالميت والنائم يعيشان في اللازمان حقيقة ؛ لأنه يشعر أحداثا نفسية مجردة لا تتصل بالعالم الفيزيائي ولا بزمنه قطعا. 
وفيما يتعلق بحساب الزمن الفيزيائي الذي عاشه المبعوثون خلال حياتهم على الارض فانه يغدو زمنا ضئيلا وسبب ذلك أن الشعور بالزمن الفيزيائي هو الشعور بما تعده الحوادث ، ولما كانت الحوادث ماضية قد أصبحت جزءاً من الذاكرة ، ولما كانت الذاكرة نفسها ليست في الزمان فإن استرجاع الحوادث فيها يكون منفصلا عن الشعور بالحوادث التي تعدها اي منفصلا عن الزمان .
ونحن في حياتنا هذه عندما نستذكر الماضي واحداثه، ثم نفطن الى ما مر عليها من زمن نقول في العادة : ( كأنها كانت البارحة )، هذا الشعور الوارد في حياتنا العملية هو بالضبط ما يتخلف في ذاكرتنا ونحن نستذكر الحوادث الماضية ، فلا غرابة ان يختزل هذا الشعور الى يوم او بعض يوم .
ان الانسان لا يعي من زمانه الا ما يعيشه اما الزمان في حالة النوم او بعد الموت فغير محسوب ولا قيمة له ، لذلك فإن الميت ما ان تقبض نفسه حتى يكون امام القيامة حيث يوضع الميزان وتعرض الاعمال، وتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، .. فالسنين التي تمر على الارض بعد موت شخص لا تعني اي شيء بالنسبة له ولا قيمة لزمنها هذا الا لمن يعيش على الارض ، ولذا قيل : ما ان يموت الانسان حتى يرى قيامته، قائمة أمامه ، أما من حيث الزمن فانه يمكن ان يعيش حوادث كثيرة وهي في قبره قبل أن يحشر. 
بعد هذه الاطلالة المختصرة يمكن الرجوع الى الآيات التي سوف تساعد في فهم هذه الرحلة الخارجة عن الزمن والحركة باللا زمان، من هذه الآيات: 
١- (الله يتوفى الأنفس حين موتها ).سورة الزمر/الاية: ٤٢.
٢- ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ... لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث) سورة الروم / الاية: ٥٥، ٥٦.
٣- ( قال كم لبثت قال لبثت يوما او بعض يوم) سورة البقرة/الاية ٢٥٩.
٤- ( كم لبثتم في الارض عدد سنين) سورة المؤمنون /الاية : ١١٢.
٥- ( لبثنا يوما او بعض يوم فسئل العادين) سورة المؤمنون ١١٣.
٦- ( ويوم يحشرهم كان لم يلبثوا الا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ) سورة يونس/الاية : ٤٥.
٧- ( وما يدريك لعل الساعة قريب) سورة الشورى/الاية: ١٧.
٨- ( او تاتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون)سورة يوسف/الاية: ١٠٧.
وكذلك شواهد أخرى تحتاج إلى دراسة وتحقيق اعمق وأدق خصوصا للقصص التي ذكرت في القرآن الكريم، قصة اهل الكهف والرقيم، وكيف ضرب الله على آذانهم وقطع صلتهم بالعالم الحسي الفيزيائي، وربط على قلوبهم حيث قلص الله تعالى بقدرته نشاطهم الحيوي بحيث جعلهم قادرين على المكث الطويل من دون حاجتهم إلى الأغذية والأشربة طيلة الزمان النفسي الذي لا يكاد يعد، فيما ان المحيط الخارجي حولهم عاشوا زمنهم الفيزيائي المعتاد ، ولذا تم تقليبهم ذات اليمين والشمال لجهة المحافظة على ابدانهم من التلف بسبب العوامل المحيطة بهم ، وكذلك قصة نقل عرش بلقيس وكيف نقله آصف بن برخيا وصي حضرة النبي سليمان عليه السلام ، ومعنى العروج والآيات الدالة عليه، وغيرها الكثير.
وفي الختام : ان النتيجة التي يمكن ان نحصل عليها من خلال كل ما مر معنا من ان الزمن علمه عند الله وان الساعة تاتي بغتة فجأة باي آن من الآنات، والتعارض مستحيل ؛ لان طالما أن حسابات الزمن في كلا الحالتين مختلفة ، وأن الاتفاق بين مايقرره العلم ومايقرره القران الكريم حاصل بالضرورة طالما أن الانسان هو معيار القياس والمرجعيةفي كلا الحالتين ، فيمكن أن نموت وتبقى الشمس والقمر والنجوم والمجرات والكون من بعدنا ملايين السنين ، ونحن لا علم لنا بذلك ؛ لاننا في نشأة اخرى والحسابات مختلفة هناك ، كوننا في حالة الموت لانفصال الزمان الفيزيائي عنا ، وإنما الذي نعرفه ان القيامة ستكون أمامنا حال الموت وهنا ندرك جلال الموقف ورهبةالموت، وهول المطلع كما قال الامام الحسن بن علي عليهما السلام في لحظات احتضاره حينما سأله جنادةالانصاري عن علة بكائه ؟ فأجابه: ابكي لفقد الاحبة وهول المطلع، ونفهم معنى الترهيب منه، والآيات التي كان تقرع أذهاننا في دار الدنيا ونحن نعيش الغفلة ...
كما ننصح لمن احب التوسع والمطالعة مراجعة كتاب خلق الكون بين العلم والإيمان للدكتور والعالم العراقي الكبير محمد باسل الطائي حيث اجاد بيان هذه المطالب باسلوب عملي دقيق .. 
واخيرا.. بما ان الانسان لا يعلم ولا يستطيع أن يقطع بساعة موته فإنها تأتيه بغتة ، ولما كان عمر الانسان قصيرا مهما طال ، فإن الساعة قريبة دون شك وان الراحل اليه تعالى قريب المسافة.
يقول الشاعر : 
ان كنت تفهم ما تقول وتعقلُ 
فارحل بنفسك قبل أن بك يرحلُ
وعلى المرء أن يتعظ ويستعد لهذه الرحلة التي علمها عند الله تعالى ، وكفى بالموت واعظا، والحمد لله رب العالمين اولا واخرا .
محمد السمناوي
بيروت/٢٤/ ٦/ ٢٠١٩م
٢٠/ شوال ١٤٤٠هجري

المصادر والمراجع
_______________
١- القران الكريم 
٢- الطائي، محمد باسل، خلق الكون بين العلم والإيمان، دار النفائس، بيروت ، ط١، ١٩٩٨، ص١٦٥- ١٦٨.
٣- بول ديفر، عالم الصدفة، ترجمة: فؤاد الكاظمي، بغداد، ١٩٨٧م.
٤- الهادي، جعفر، الله خالق الكون دراسة علمية حديثة للمناهج والنظريات المختلفة حول نشاة الكون ومعرفة الخالق، اشراف: جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق، قم المشرفة، ط٢، ١٤٢٤، ص٥٩٦، ٥٩٩.
٥- ابن رشد، فصل بين الشريعة والحكمة من الاتصال، دار الآفاق، الجديدة، بيروت.
٦- ستيفن، هوكنج، تاريخ موجز للزمان من الانفجار حتى الثقوب السوداء، ترجمة: مصطفى ابراهيم فهمي، الهيئة المصرية للكتاب، ٢٠٠٦.
٧-الثقفي، عبد الله بن عاصم، الانوار والازمنة، تحقيق: نوري حمودي القيسي، ومحمد نايف الدليمي، دار الجيل، بيروت، ١٩٩٦م.
٨-كارل، ساغان، الكون، عالم المعرفة(١٧٨)، ترجمة : نافع أيوب لبس، مراجعة: محمد كامل عارف، الكويت، ١٩٧٨، ص١٥١.
٩- سارتر، جان بول، الكينونة والعدم، بحث في الانطولوجيا، الفنومينولوجية، ترجمة: نقولا متيني، مراجعة: عبد العزيز العيادي، المنظمة العربية للترجمة، مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت، ط١، ٢٠٠٩، ص٢٨٨. 
١٠- ميخائيل، عبد الواحد، الموسوعة الفلكية ، جامعة الموصل، ١٩٧٧م.
١١-غوستاف،ليبون، حضارة بابل وآشور، ترجمة محمود خيرت، تقديم : سلامة موسى، دار بيبليون، باريس، (لا- ط)، ص٥٩. 
١٢- ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق: سليمان دنيا، دار التعارف، مصر.
١٣- فرد هويل، مشارق علم الفلك، ترجمة : اسماعيل حقي، دار الكرنك، القاهرة.
١٤- ابن منظور، لسان العرب، إعداد: وتصنيف: يوسف خياط، بيروت.
١٥- ابن فارس، احمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، دار الفكر، بيروت. 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/07/08



كتابة تعليق لموضوع : هل يمكن ان تكون الرحلة بعد الموت خارجة عن الزمن؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net