صفحة الكاتب : د . عاطف عبد علي دريع الصالحي

التعصب (Chauvinism)
د . عاطف عبد علي دريع الصالحي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

       التعصب (شوفينية) هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقر إليها ومن ثم فهم دائماً مخطئون أو خاطئون , ومن هنا فأن التعصب الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو العقيدة التي يعتنقها , يتضمن في واقع الأمر بعداً آخر , فهو يمثل في الوقت نفسه موقفاً معيناً من الآخرين , فحين أكون متعصب لا أكتفي بأن أنطوي على ذاتي وأنسب إليها كل الفضائل بل ينبغي أيضاً أن أستبعد فضائل الآخرين وأنكرها وأهاجمها  بل أنني في حالة التعصب لا أهتدي الى ذاتي و لا أكتشف مزاياي إلا من خلال إنكار مزايا الآخرين , وهذا هو الفرق بين التعصب والاعتداد بالنفس , الذي هو شعور مشروع إذ إن المعتد بنفسه لا يبني تمجيده لنفسه على أنقاص الآخرين , بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضاً , أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم غيره  ولا فرق عنده بين هذه العملية أو تلك , لأنه يهدم غيره وليس في ذهنه إلا تأكيد ذاته كما أنه لا يؤكد ذاته إلا مستهدف الحط من الآخرين .

      ولكن إذا قلنا بأن المتعصب يؤكد ذاته فما الذي نعنيه بكلمة ذاته ؟ هل هي ذاته من حيث هو فرد ؟ أم هل يريد أن يؤكد آراءه أو مواقفه الشخصية على حساب الآخرين ؟ .... والحقيقة هنا إن جوهر التعصب لا يكمن في أتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية , بل يكمن في توحيد المرء لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها وإعلائه هذا الرأي فوق آراء جماعة أخرى , فالمتعصب في واقع الأمر يمحو شخصيته وفرديته ويذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها بحيث لا يشعر بنفسه إلا من حيث هو جزء منهم , ولو كان يؤكد نفسه بوصفه فرداً له شخصيته المميزة لما أصبح متعصب , ولو تأملنا قليلاً الى أولئك الذين يقتلون أفراد الطائفة الاخرى على الهوية  هل فكر في نفسه بوصفه فرداً ؟ أو فكر في ضحيته من حيث هو شخص له كيانه الخاص ؟  

 

      والحقيقة أنه لم يكن ينظر الى نفسه إلا من حيث هو ينتمي الى طائفة معينة , وقد يكون كل منهما على المستوى الشخصي صديقاً للآخر أو زميلاً يتعامل معه منذ سنوات , ولكن هذا كله يُنسى عندما يسيطر التعصب ويصبح أهم صفاتِ , وأهم صفات الآخر هي نوع الجماعة التي أنتمي وينتمي إليها , والحق إن تعبير القتل على الهوية كان تعبيراً يعبر ببلاغة عن حالة التعصب بأسرها , فهو لا يعني فقط القتل تبعاً لنوع الهوية التي يحملها المرء والتي يتحدد فيها انتمائه الطائفي بل تعني أيضاً قتل الآخر لأنه وضع نفسه في هوية مع الطائفة الاخرى , أي أنتمى إليها , فكل متعصب يعلو بنفسه بسبب هويته مع جماعته ويقتل الآخر بالجسد أو بالفكر   ويترتب على ذلك أن المتعصب لا يفكر فيما يتعصب له بل يقبله على ما هو عليه فحسب , وهنا تتمثل خطورة التعصب من حيث هو عقبة في وجه التفكير العلمي المنطقي , فالتعصب يلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد ويشجع قيم الخضوع والذلة والطاعة والاندماج وهي قيم قد تصلح في أي مجال ما عدا مجال الفكر والمنطق , وهذا يؤدي بنا الى صفة أخرى أساسية في التعصب هي أنه ليس موقفاً تختاره بنفسك , بل موقف تجد نفسك فيه ولو شاء المرء الدقة لقال أن التعصب هو الذي يفرض نفسه على الأنسان وهو أشبه بالجو الخانق الذي لا نملك مع ذلك الا أن نتنفسه , فالتعصب يكره الآخرين أو يقتلهم بواسطتي , وما أنا أو أي فرد آخر سوى أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشئوم , ذلك لأنني حين أقع تحت قبضته لا أصبح شيئاً ولا أسعى من أجل شيء ألا لكي ألبي ندائه .

      والسؤال هنا لماذا ينتشر التعصب الى هذا الحد ؟ ولماذا يطل برأسه البغيض ويذكرنا بطبيعته البشعة بطريقة دامية حتى في صميم القرن الواحد والعشرين ؟ ذلك لأنه يمثل حاجة لدى الأنسان الى رأي يحتمي به ويعفي نفسه من التفكير في ظله , والواقع أن الحماية هنا متبادلة  فالرأي الذي نتعصب له يحمينا , لأنه يؤدي الى نوع من الهدوء أو الاستقرار النفسي ويضع حداً لتلك المعركة القلقة التي تنشب في نفوسنا حين نستخدم عقولنا بطريقة نقدية , ولكننا من جهة أخرى نضمن الحماية لهذا الرأي ذاته عن طريق رفض كل رأي مخالف ومهاجمته بعنف والسعي الى تصفيته , لذا فكل من المتعصب ورأيه أو عقيدته يحمي الآخر , ولكن الواقع إن هذه الحماية خادعة مضللة فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المخدر , لأنها تركز أساساً على تخدير التفكير وإبطاله , ولأنها تضع أمامنا صورة باطله للواقع ترتكز على دليل أو منطق بل تستمد قوتها من تحيزنا لها بلا تفكير , وهذا ينطبق على كل شكل من أشكال التعصب.

 

 

       فالتعصب العنصري والقومي المتطرف والديني والعشائري كل هؤلاء يشاركون في سمات واحدة , ألا وهي الانحياز الى موقف الجماعة التي ننتمي أليها دون اختيار أو تفكير والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم أحط , وأغلاق أبواب العقل ونوافذه إغلاقاً محكماً حتى لا تنفذ إليه نسمة من الحرية , لان هذه النسمة مهما كانت خفيفة يمكن أن تهدد موقفك الذي تتعصب له , وتهددك أنت نفسك بقدر ما وجدت نفسك مع ما تتعصب إليه . وأعظم الاخطار التي يجلبها التعصب على العلم هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية ومتعددة ومتناقضة وهو ما يتعارض وطبيعة الحقيقة العلمية , فكل متعصب يؤمن بحقيقته هو ويؤكد بلا مناقشة خطأ الآخرين , وحين تنتقل الى هؤلاء الآخرين تجدهم يؤكدون هذا الشيء نفسه عن حقيقتهم الخاصة ويؤكدون خطأ الأول  وهكذا تضيع الحقيقة بالمعنى العقلي والعلمي في هذا التشتت والتناقض , ولو كان العقل هو الحكم بين الناس لما تعددت حقائقهم أو تناقضت , وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة فأن الانسانية عاشت على ما تعتقد أنه حقائق ذاتية تتعصب لها بلا تفكير فترة أطول بكثير ممّا عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجج والبراهين بل أن عدد أولئك الذين يقتنعون بآراء ومواقف يتعصبون لها دون نقد أو اختيار في عالمنا هذا يفوق بكثير عدد أولئك الذين لا يقبلون الرأي إلا بعد اختياره بالعقل , ومن هنا فأن المعركة الطويلة من أجل إقرار مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مستمرة , وصحيح أنه يبدو ظاهرياً إن التسامح قد تغلب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته الكبرى في عصرنا هذا , لكن الحقيقة وللأسف غير ذلك فما زال التعصب كامن في النفوس حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنه قد أقتلع من جذوره , وتكفي أية هزة قومية أو اجتماعية أو عشائرية عنيفة لإيقاظه من سباته وتجديد قوته الطاغية .

       إن هذه المعركة لابد من خوضها , ذلك لأن التعصب في واقع الأمر عقبة متعددة الاطراف تقضي قضاء تام على كل إمكان للتفكير العلمي إذا ترك لها المجال لكي تنتشر وتسيطر , فبقدر ما يعد التعصب في ذاته شيئاً بغيض ذا ضرر فادح للعلم نجد ضرره هذا لا يقتصر على ما تؤدي إليه روح التعصب وحدها بل أنه يجمع في داخله كل العقبات التي تحدثنا عنها من قبل والتي حالت وما زالت تحول دون انطلاق التفكير العلمي بلا قيود , وهنا نرى أن العقل البشري لا يستطيع أن يجد حلاً وسطاً بين الأثنين فأما العلم والمنطق الصحيح وأما التعصب وعبادة الأوثان ولابد من القضاء على أحداهما لكي يبقى الآخر .   


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عاطف عبد علي دريع الصالحي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/08/18



كتابة تعليق لموضوع : التعصب (Chauvinism)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net