صفحة الكاتب : يحيى غالي ياسين

الحقائق بين الموضوعية والإسقاطات النفسية
يحيى غالي ياسين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لعله من أول المعضلات التي يواجهها الانسان في قرائته وتفسيره للحياة وأفكار الآخرين وعموم البحث عن الحقائق هي اسقاطاته النفسية والفكرية على الأشياء المقروءة والمبحوثة من قبله ، فلكل انسان قاعدة بيانات نفسية وعقلية وروحية خاصة به سواء ما اكتسبها عن طريق ظروفه التي عاشها أو قناعاته التي زُرعت به بشكل ارادي أو لا ارادي او عن طريق تركيبته الوراثية وطبعه وسجاياه غير المكتسبة ..

كل ذلك عبارة عن قنوات وسائطية بينه وبين الحقائق وتعتبر نقاط ضغط رهيبة تدعو صاحبها الى التشتت باتجاهاتها المختلفة ، وكلما كانت تلك القنوات ونقاط الضغط غير سليمة كلما كان تعاطي الانسان مع الحقائق غير سليم ايضا ..

فالموضوعية وتجرد الفرد عن عقده النفسية والتخلي عن قائمة بياناته ومتبنياته سواء في عقله الواعي او اللاواعي وتجاوز طبائعه وسلاسل جيناته التي تؤثر على طريقته في التعامل مع الاشياء .. كل هذا صعب مستصعب وليس بالأمر الهيّن ابداً ابدا ..

ولهذا يدعو علماء النفس الى عدم اتخاذ القرارات المهمة في بعض الحالات كساعات الغضب مثلاً لأنه سيكون قراراً قد أسقطت عليه حيثيات الموضوع الذي غضب من اجله وسيكون غير محايد بلا اشكال وقد يضر الانسان نفسه قبل غيره ، وهكذا في حالات انفعالية اخرى ..

وأشار القرآن الكريم كثيراً الى هذه المشكلة ( الاسقاطات ) وبنواحي شتى منها مثلا :

* اسقاطات الآباء على الأبناء : قال تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) ..

* اسقاطات القلب غير السليم : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) ..

* اسقاطات المادة والعيش المادي المحض : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) ..

* اسقاطات بعض العقد الاجتماعية كالغنى والفقر : ( وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ، أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) . فالغنى عندهم رمز وخاصية النبلاء .

* اسقاطات غرائزية ، كالطعام : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

وغيرها الكثير ، وكل هذه التشبثات والاسقاطات تعتبر حُجباً على العقل والقلب والبصيرة ، قال تعالى ( .. لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) .
من هنا أصبحت العصبية والأنانية وعلى غرارها الطائفية والقومية والعنصرية .. الخ أموراً غير مرغوب بها لأنها تؤسر صاحبها وتجعله يفكر ويعتقد ويقرر من خلالها بغض النظر عن علّاتها ..

ولا بد من ذكر اسقاطات اخرى ايجابية ومهمة لا يستغني الانسان عنها بل هي مقوّم لإنسانيته ، وعلى رأسها الفطرة السليمة :

فالفطرة التي جبلنا الله عليها هي التي تدعونا الى الاعتقاد بالله والإيمان بالغيب والتمسك بالدين ، قال تعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ، وهذا مما (( أكدته الأبحاث عند دراسة الجينات المسئولة عن السلوك . أكد دين هامر رئيس وحدة أبحاث الجينات بالمعهد القومى للسرطان بالولايات المتحدة أن الإنسان يرث مجموعة من الجينات التى تجعل لديه إستعداد لتقبل المفاهيم الدينية و الأمور المتعلقة بالألوهية و من أهم هذه الجينات حين VMAT2 و هو المسئول عن تكوين ناقل كيميائى بالمخ و هو المسئول عن تحديد مستوى عدد من الناقلات الكيميائية التى تنظم عمل المخ ( السيروتونين-الدوبامين-النورأدرينالين ) كما أن له دور فى توجيه مراكز المخ المسئولة عن المشاعر الروحية و المفاهيم الغيبية )) ..

وهكذا فقس على كل ميولنا الفطرية الأخرى ، كالجمال والحسن والأخلاق .. الخ ، فنحن إذن بين جهتين من التجاذبات والخيار يعود لنا أيهما نسلك ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) ..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


يحيى غالي ياسين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/01/07



كتابة تعليق لموضوع : الحقائق بين الموضوعية والإسقاطات النفسية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net