موقف مع النفس ح3
الشيخ عبد الرزاق فرج الله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ عبد الرزاق فرج الله

إذا ما تحصّنت النفس ضمن هذين الخطين للمقاومة، بين القيام بالقسط والعدل، وبين إتباع الهوى، وسلمت من مزالق الخطر وأسباب السقوط، فقد أمنت عواقب الامتحان، وتسلقت مدارج الكمال إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر حين يناديها: (يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي) الفجر/ 27-30. وأما ما عدا هذين الخطين من تصرف تجاه النفس، وحملها على ما يسخط الله عز وجل، يعتبر خذلانا للنفس، وإيقاعا لها في هوة الضياع، وقد تناول القرآن الكريم ملامح هذا الموقف من خلال عدد من آياته تحت عناوين عدة:
أ- (سفه النفس) فقال تعالى: (وَمَن يَرغبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفسَهُ)، كالسفه بالمال، الموجب للتحجير ومنع التصرف، لأن السفيه لا يبالي كيف يتصرف بماله، فيضيعه غير مكترث بضياعه.
ب- (نسيان النفس) فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ) الحشر/19، ونسيان النفس تضييعها وسحقها وقتلها، والجناية عليها، إما بإزهاقها دون مبالاة، وإما بقتل المعاني الخيّرة والقيم السامية فيها.
فمن أمثلة إزهاق النفس، جاء في بعض الأخبار العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية، أن شابا مسلحا اقتحم مقهى كان يجلس فيه أناس آمنون، فانهال عليهم بسلاحه، فقتل منهم عددا ثم أطلق النار على نفسه وانتحر!! وعلى صعيد التحليل لهذا التصرف، يأتي المحلل النفسي أو الاجتماعي ليعلل هذا العمل الإجرامي بالعقدة النفسية او حالة انفصام الشخصية او الجنون، بينما الحقيقة أعمق من هذا، إذ أن الكثير من هؤلاء يعيشون تحت سيطرة المفاهيم الحضارية المادية، ويستجيبون لمطلب واحد من مطالب الشخصية، وهو (الجسد)، أما المطلب الروحي والأخلاقي فهو مسحوق مضيع، وهذه هي محنة الإنسان الحضاري في الوقت الحاضر، الذي يترفه ماديا من خلال النمط التربوي الذي رباه عليه المجتمع والأسرة، فإذا ما تعرّضت مصالحه المادية إلى أدنى خلل أصبح عدواً لنفسه وللإنسانية معا.
وما نشوب الحروب في بقاع الأرض اليوم ضد الإنسانية، إلا إفراز للحضارة المادية؛ فأمريكا المجرمة في حق الإنسانية، بعد أن غرقت في خضم الحضارة المادية، وتعرّضت مصالحها للتفجير، وفي قلب واشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001، تحولت لديها هذه الخسارة إلى عقدة للانتقام من شعوب العالم برمتها بذريعة محاربة الإرهاب، وبلا دليل يثبت إدانة أي من شعوب العالم الإسلامي بذلك، وهي لاشك تعرض نفسها وشعبها الى الفناء المحتم لأن من يقتل يُقتل، ومن أوقد نارا للحرب أحرق بها.
أ- (خسران النفس) قال تعالى: (قل ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة الا ذلك هو الخسران المبين) الزمر/15.
وخسران النفس: إتلافها دنيويا بسحق القيم والمعاني السامية فيها، وبيعها بثمن بخس والتضحية بها إزاء شهوة رخيصة او لذة زائلة تودي أخرويا إلى أن تكون حطبا لنار القيامة.
ومن أمثلة الجناية على المعاني الخيرة في النفس: قال أحد العلماء: في وقت متأخر من الليل كنت واقفا في موقف الباص منتظرا مجيء السيارة، وكان هناك عدة أشخاص في الموقف أيضا، كان من بين الواقفين رجل امسك بيده يد طفل لا يتجاوز السادسة من عمره، كان الطفل في حالة غير اعتيادية، وأخيرا جلس على جانب الشارع واستفرغ.
فسأل احد الواقفين أباه: ما هو المرض الذي أصيب به ابنك؟ فأجاب: انه ليس مريضا. لقد اصطحبته الليلة الى جلسة عند بعض الأصدقاء وهناك ناولته خمرا..) الطفل بين الوراثة والتربية 2/8.
إذن فأية خسارة أعظم من هذه؟ بل أية خيانة للنفس والأهل، والولد، وأية جريمة أعظم من قتل القيم والأخلاق والقضاء عليها في مهدها؟!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat