رؤية الله والتطرُّف الفكري!
د . احسان الغريقي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . احسان الغريقي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إنَّ عقيدة إمكان رؤية الله تعالى هي عقيدة مكتسبة مِن اليهود الَّذين يعتقدون بالتجسيم، وأنَّ الله تعالى على صورة الإنسان، ولذلك طلبوا مِن موسى رؤية الله تعالى، وقد اقتبس ابن تيمية عقيدة التجسيم والرؤية منهم، ولذا تراه يوافقهم في عقيدة التجسيم ويصححها، ومن شواهد ذلك ما صرَّح به في كتابه منهاج السنة؛ فقد قال: وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما، ومع هذا فلم ينكر رسول الله وأصحابه على اليهود شيئاً من ذلك، ولا قالوا أنتم مجسمون، بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبيّشيئًا من الصفات أقرّهم الرسول على ذلك، وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الزمر: 67]، وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبيِّ من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما.
فزعم ابن تيمية هنا أنَّ رسول اللهأقرّ لليهود بعقيدتهم، وهذا الزعم غير صحيح؛ لأنَّ ابن تيمية يستند في زعمه هذا على حديث الحبر، فلنراجع هذا الحديث لنعلم مدى صحة قول ابن تيمية، فحديث الحبر وما وافقه من أحاديث معناها واحد، ويكفي في المقام ذكر أحدها ولنأخذ على سبيل المثال الحديث الَّذي في البخاري، وهذا نصّه: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهفَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُحَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
فهذا الحديث والأحاديث التي وافقته ليس فيها دليل صريح على تصديق رسول الله لهذا اليهوديّ، فابن تيمية بنى عقيدته على عقائد اليهود مستدلاً بهذا الحديث الذي ظنَّ الراوي فيه، أن النبيَّ ضحك تصديقاً لقول الحبر، ولا دلالة ظاهرة في الحديث على التصديق، فالمتأمِّل هنا يعلم أن الضحك لا يكون للتصديق بل للتعجب مِن ضعف عقل اليهودي الذي يجسِّم الله تعالى، والدليل على ذلك هو تلاوته للآية، أي أنَّ اليهود لم يُقدِّرُوا الله حقّ قدره، وقد وصفهم القرآن بالكفر بالله وبرُسُله وبقتلهم الأنبياء، فهم أجهل الناس بالله تعالى إذا وصفوا الله بالبخل، فقالوا: يَدُ الله مَغْلُولَةٌ [المائدة : 64]، وعبدوا العجل الَّذي صنعه السامري، وظنُّوا أنَّه ربهم حتى قال عنهم القرآن: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة: 93]، وقد بلغ جهلهم بالله حتى ظنوا أنه صنم من الأصنام؛ كما جاء في قوله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]، وبلغ من جهلهم بالتوراة حتى شُبِّهوا بالحمار: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5]، فلو تمعَّنَ الراوي وتدبَّر هذه الآيات وغيرها لعرف مغزى ضحك الرسولمن الحبر اليهودي، ولعَلِم ماذا يعنيه رسول الله بقوله: مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 74]، ولما قال: إنَّ النبيضحك تصديقاً، بل قال: إنَّه ضحك مِن عدم معرفة اليهود بالله حق معرفته. فمِن غير المعقول أنْ يصدِّق رسول الله ويقرّ لليهود بكلّ هذه الاعتقادات الباطلة التي ذمَّهم القرآن بها!!
ومن الشواهد الأُخر الدالة على اكتساب ابن تيمية عقيدته مِن اليهود والنصارى هو قوله في كتابه: (درء تعارض العقل والنقل):
فمَن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب مِن التوراة والإنجيل، علم علماً يقينًا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا مِن مشكاة واحدة، لاسيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقةً لا ريب فيها، وهذا مما يبيّن أن ما في التوراة مِن ذلك ليس هو مِن المبدل الذي أنكره عليهم القرآن، بل هو من الحق الذي صدقهم عليه، ولهذا لم يكن النبي وأصحابه ينكرون ما في التوراة مِن الصفات، ولا يجعلون ذلك مما يدله اليهود ولا يعيبونهم بذلك، ويقولون: هذا تشبيه وتجسيم، كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة ويقولون: إن هذا مما حرفوه، بل كان الرسول إذا ذكروا شيئاً من ذلك صدقهم عليه، كما صدقهم في خبر الحبر، كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، وفي غير ذلك.... فهذه وثيقة اعتراف من ابن تيمية بإتباع اليهود وإتباع توراتهم المحرفة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat