إن البحث في النتاجات والابداعات الفكرية، العلمية منها والادبية لكل حضارة من الحضارات القديمة المعروفة لدينا، يستوجب منا العودة إلى البدايات الاولى لنشوء الحضارة، أي بمعنى معرفة مدى أصالة هذه الحضارة أو تلك، لنعرف مدى التأثيرات والاشعاعات التي تخلفها عبر العصور والأجيال في الحضارات الأخرى القريبة منها والبعيدة.
إن حضارة بلاد الرافدين القديمة - وكما هو معروف - من الحضارات المهمة المعروفة بالأصالة والعراقة، وقد أهّلتها أصالتها واسبقيتها على الحضارات الأخرى، لتحتل المركز الأول بين الحضارات القديمة، في توسع وانتشار العناصر الحضارية التي خلفتها عبر العصور التاريخية، والتي وصلت إلى اصقاع بعيدة من العالم القديم، وأثرت فيها تأثيرا ملحوظا وملموسا... إذن فهذه الحضارة هي أقدم الحضارات التي شهدها العالم القديم آنذاك، فهي تعود إلى الألف الرابع ق.م وما سائر الحضارات الأخرى العالمية المصرية، والهندية والكنعانية والاغريقية وغيرها، إلا النطاق الذي ارتبط بعلاقات حضارية مع بلاد الرافدين، وأخذ منها صنوف العناصر الحضارية؛ إذ ان الاتصال الذي كان أكثره بصورة غير مباشرة بين بلاد الرافدين والعالم الايجي (بحرايجة) كان اتصالا له تاريخ طويل قبل عام 730 ق.م.. وقد جاءتنا من الشرق الادنى مصادر مكتوبة، تؤشر بأن المنطقتين معروفة لبعضها البعض منذ فترة طويلة قبل فترة التوجه الاغريقي نحو الشرق في القرن الرابع ق.م عندما تم الاعتراف بأن الثقافة الهيلينية بصورة عامة قد سقطت بشدة أكثر تحت تأثير الشرق الأدنى، وان اتصالات عديدة استمرت خلال الحرب الفارسية في العصور الهلنستية، وبعد ذلك حتى عهد الامبراطورية الرومانية.
إن هذه التأثيرات قد شملت الى جانب العلوم الصرفة، مجالات الأدب والملاحم والأساطير، وما النصوص المسمارية الكثيرة التي تعود إلى حضارة بلاد الرافدين، والتي تم العثور عليها في مناطق العراق القديم وبلدان الشرق الادنى والتي تخص الأدب الملحمي، وما تحمله من شبه كبير للأدب اليوناني من العصور التالية، إلا دليل على ذلك، فقد كانت هذه النصوص تحتوي على أصناف شتى من الأدب الرافديني القديم؛ فبعد دراسة النصوص المسمارية الكثيرة المكتشفة، وجد الباحثون حالات تشابه أكثر فأكثر بين الادب الملحمي لبلاد الرافدين، خصوصا بين ملحمة كلكامش، وبين الالياذة والاوديسة الاغريقيتين، إلى درجة أصبحت هناك حاجة ملحة لمحاولة جديدة لتفسير كيف حدث مثل هذا التشابه.
ومن المؤكد كذلك، أن أدب بلاد الرافدين مهّد للأدب المصري، وانه في الواقع أقدم أدب جاءتنا منه نماذج مدونة، وبالتالي فالادعاء القائل بأن الثقافة والأدب العالميين يدينان للتراث اليوناني وحده دون سواه، هو ادعاء تم التراجع عنه بعد اكتشاف حضارة بلاد الرافدين القديمة والحضارة المصرية، إذ أثر التراث الرافديني تأثيراً واضحاً في الأدب الهيليني، والميثيولوجيا الاغريقية، والآداب الاغريقية ذاتها متأثرة إلى حد بعيد بالآداب الرافدينية، الشيء الذي يقودنا إلى التحرر من عقدة ارجاع التراث العلمي والأدبي إلى اليونان، وأن ندرك بأن العبقرية المزدهرة قد أخذت أصولها من بابل ومصر.
يوجد صنفان مهمان من الأدب الرافديني، عرف طريقه إلى الأدب الاغريقي الهيليني، الأول هو الأدب الملحمي الذي ابتدعه السومريون والبابليون، والذي يتمثل في مجموعة من الملاحم الشعرية، تجسدت في ملحمة كلكامش، وملحمة (اينوما ايليش) وهي قصة الخليقة.
أما الصنف الثاني من هذا الأدب، فهو الأساطير التي كانت تبحث في الظواهر الكونية، مثل خلق الكون والحياة والموت والخصوبة والاجداب.. يحاول الإنسان من خلالها، أن يوجد لهذه الظواهر تفسيرات وتعليلات عقلية ومنطقية، عن طبيعة العلاقات القائمة فيما بينها، ليتخذ منها موقفا واضحاً، وهي أساطير تتطابق في أفكارها وتفصيلاتها وتتشابه مع بعضها، فنجد مثلا اسطورة (الطوفان) الرافدينية، وقصة خلق الإنسان من ماء وطين وروح إلهية، وكذلك اسطورة دموزي وانانا، (تموز وعشتار) البابلية التي نجد ما يماثلها في اسطورة افروديتي، وقد دخلت هذه الاساطير إلى العالم الاغريقي عن طريق القبائل الفينيقية المتواجدة على الساحل السوري.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat