أربع صور لباب قبلة العباس(عليه السلام) كتابة المكان الجزء الثاني
علاوي كاظم كشيش
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
علاوي كاظم كشيش

تناولنا في العدد السابق صورتين لباب قبلة العباس(عليه السلام)، وفيما يلي الصورتان الثالثة والرابعة:
الصورة الثالثة:
مكنسة مركونة على جسد دبابة معطوبة، هو أول ما يجذب عين الناظر، إنها دلالة على الكنس القادم، لا صورة الدكتاتور، ولا الجنود الموهومون بنصرهم، ولا المصور الذي يتجول بكامرته في الصورة، الدبابة المعطوبة تسد مدخل صحن العباس، وهي تخفي وراءها، خرابا أكثر، لا يمكن أن يتجاوز زمن الصورة العشرين من آذار عام 1991؛ فبعد استباحة المدينة بيومين، دخلت الى هذا المكان متذرعا بالبحث عن عائلتي، وبقدر ما أحزنني مشهد الخراب هذا، فقد كنت في داخلي أتمزق قهرا على المكتبة، ورعبت مرتين عندما رأيت واجهة الباب وقد أكلتها القذائف بعد قتال دام ثلاثة عشر يوما، لم تكن الدبابة موجودة عندما وصلت الى المكان الذي تربض فيه، نادتني امرأة مسنة تحمل وليدا مقمطا مغطى بملائة بيضاء منقطة بالزعفران، ظهيرة للولادة والموت والخراب كانت، ولقصيدة تتلجلج على لساني ولا تولد، طلبت مني العجوز أن آخذ الوليد النائم وأدخلها الى صحن العباس، فهذا ما جرت عليه العادة، أمهاتنا يتفاءلن بالعباس ووفائه لأخيه وغيرته..
أخذت الوليد وسرت الى الباب، وهناك صاح بي جندي وهو يصوب سلاحه نحوي: (ارجع يول).. أشرت الى الوليد، فكرر بصوت عال: (ارجع يول).. قلت له: عندما تذهب باجازة قل لأمك أنك منعت وليدا من زيارة العباس.. فخجل قليلا وقال: أدخله الى نهاية الرواق وارجع بسرعة.. دخلت حاملا الوليد، واختلست نظرة عن يميني الى المكتبة كان بابها مخلوعا، وقد تناثرت الكتب على الطاولات والأرض، وقد شبعت تمزيقا وبعثرة، وكانت بعض دواليب الكتب قد انكفأ على وجهه.. في نهاية الرواق اختلست لقطة كبيرة، فأمامي كان صحن العباس قد تعرض لتلف كبيرة وخاصة الطارمة الكبيرة، وعن يساري تضررت الاواوين وامتلأت ساحة الصحن بأشياء غريبة، ثياب مدماة، وقطع ضماد، وظروف اطلاقات فارغة ودواليب وكراسي وعدد عسكرية وخوذ.. وعن يميني رأيت بلمحة واحدة أن الجنود قد نصبوا ثلاثة أسياخ وعلقوا بها قوري شاي كما في أفلام الكاوبوي، وشد ما أوجع قلبي أن الحطب كان كتبا ومخطوطات جلبت من المكتبة..! صاح بي الجندي: (أخرج بسرعة كافي). وخرجت محترقا مثل المخطوطات، وقد أفاق الوليد من نومه. لقد بدأ زمن آخر لن تتابعه الساعة الرومانية التي اختفت من منارتها.
الصورة الرابعة:
في ظهيرة غائمة، كل شيء يوحي بالطمأنينة والسكون، وباب العباس يبدو من الجو مثل قلب مفتوح يغري العين بالدخول، وقد حلت مكان الدبابة المعطوبة، سجادة من المرمر تفنن مهندسا شركة أرض القدس في تصميمها، المهندس حميد مجيد والمهندس ضياء مجيد، وقد انتشر الزائرون حول المرقد وهم يسيرون في ذات المكان الذي شهد مصرع الكتب والرجال، ترى هل يعلمون بما شهده هذا الباب؟ أين اختفى ذلك الألم والقلق والخوف؟ أين ذهبت الدبابة والجنود (المنتصرون) والمصور؟ ما هي حدود الشعر واللاشعر في هذا المكان؟
منذ ظهيرات عديدة لم أستطع كتابة هذا المكان، وتحت ظهيرات عديدة ممطرة وساخنة وحزينة وكئيبة، ظهيرات من كل الأنواع، والقصيدة لا تترجل ولا تطير، واليومي يتوهج يوميا وفي كل لحظة، ونحن عاجزون عن التقاطه وإغوائه الى ساحة الورقة.. كم نحن بائسون، إذ يتلاعب اليومي بنا ولا نقدر على صوغه وإعادة انتاجه، هل لأنه واضح أم مؤلم أم غامض؟ فلهذا الباب أربع بوابات تتخطى حدوده، وتطير بأجنحة دلالاته المتغيرة.. من سيكتب ألمنا الذي رأيناه في أشد الظهيرات عطشا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat