مُسلِمٌ بن عوسجة ووصيةُ النفسِ الأخير
فاطمه الركابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
فاطمه الركابي
![](images/40x35xwarning.png.pagespeed.ic.s9TRQSmzfj.png)
عندَما يَنجذبُ القلبُ إلى مصدرِ النورِ الإلهي، نور من أجابَ لما سُئلَ عن أولِ شيءٍ خُلِق؟ قال (صلى الله عليه وآله): "نور نبيك يا جابر، خلقَه اللهُ ثم خلقَ منه كُلَّ خير"(١) لن يَنفكَّ ارتباطُه عنه، وإنْ رحلَ صاحبُه ببدنِه إلى الرفيقِ الأعلى، بل سيَظلُّ مُرتبطًا بامتداداتِه التي خَصّها (تعالى) بإدامةِ نورِه المُتجلّي في هذا الوجود.
وهكذا كانَ قلبُ مسلمٍ بن عوسجة فقد انجذبَ لنورِ النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) وتتبَّعَ آثارَه التي امتدّتْ في سِبطِه وريحانتِه الإمامِ الحسين (عليه السلام)؛ إذ كانَ للإمامِ الحُسينِ (عليه السلام) حواريًا بدرجةٍ أعلى وأسمى من حواريي النبي موسى (عليه السلام)، إذ قال (تعالى) فيهم: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا باللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران :٥٢)، أي إنّهم لبّوا نداءَ النُصرةِ لما طُلِبتْ منهم، على حين مسلم بن عوسجة كحواري للإمامِ الحسين (عليه السلام) فقد أُسقِطَ عنه تَكليفُ النُصرة، لكنّه أبى إلا أنْ يَتشرّفَ بُنصرةِ إمامِه، يُفدّيه بنفسِه، ويُقتَلَ دونه.
هكذا تَمحورَ بكُلِّه حولَ إمامِ زمانِه حتى ذابَ فيه، فلم يَرَ لوجودِه وجودًا دونَ أنْ يكونَ إمامُه موجوداً، بل هو كانَ يُدرِكُ ببصيرةٍ نافذةٍ أهميةَ وجودِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) لبقاءِ نورِ قلوبِ المؤمنين، ولإحياءِ قلوبِ الغافلين؛ لذا لم يكتفِ بأنْ يفتديَه بنفسِه، بل أوصى رفيقَ الولاء وشيخَ الأنصارِ حبيبَ بن مظاهر (رضي الله عنه) أنْ لا يُقصِّرَ في حِفظِ سلامةِ إمامِه، كما وردَ أنّه لما دنا منه في آخِرِ لحظاتِه، قالَ حبيبٌ: "عزَّ عليَّ مصرعُك يا مسلم! أبشِرْ بالجنة! فقالَ له مُسلمٌ قولًا ضعيفًا: بشّرَكَ اللهُ بخير، فقالَ له حبيبٌ: لولا أنّي أعلمُ إنّي في أثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببتُ أنْ توصيَني بكُلِّ ما أهمّكَ حتى أحفظَكَ في كُلِّ ذلك بما أنتَ أهلٌ له في القرابةِ والدين، قال: بل أنا أوصيكَ بهذا رحمِكَ اللهُ، -وأهوى بيدِه إلى الحسين-، أنْ تموتَ دونه! قالَ: أفعلُ وربّ الكعبة"(٢).
حقًّا، كانَ هذا الصحابيُ اسمًا على مُسمّى؛ فقد عاشَ معنى التسليمِ الحقيقي في اتباعِ حُجَجِ السماء، فهو كانَ ينشدُ القُربَ من النورِ بَعدَ النورِ لينالَ بذلك الحُسنيين: الانتصار على النفسِ كي لا تَحيدَ عن الصِراطِ المُستقيم، والشهادة لبلوغِ مُرافقةِ الصِدّيقين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا..
كيفَ لا؟! وقد شهدَ له نفسُ إمامِه (عليه السلام) أنّه من الرجالِ الذين صدقوا وثبتوا على عهدِهم، إذ تلا عليه بعدَ مصرعِه قوله (تعالى): {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:٢٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) بحار الأنوار : ج ١٥، ص ٢٤.
(٢) الارشاد: ص ٢٣٧.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat