صفحة الكاتب : عبير المنظور

كهفُ سورةِ الكهف
عبير المنظور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 أربعُ قصصٍ تخللتْ سورةَ الكهفِ بترابُطٍ مُحكمٍ رغمَ تعدُّدها وحدوثِها في فتراتٍ زمنيةٍ مُتباعدةٍ، لأخذِ العِظةِ والعِبرةِ على مرِّ العصورِ، إلا أنّها تميّزتْ بوحدةِ الموضوع.

ذُكِرتْ هذه القصصُ مرةً واحدةً في القرآنِ في سورةِ الكهف؛ لأنّها تتناسبُ مع مقاصدِ السورةِ وجوِّها العامّ الذي بيّنتْه الآيةُ السابعةُ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أيّ الابتلاءُ والامتحانُ بزينةِ هذهِ الأرضِ وفتنةُ الإنسانِ بهذه الزينةِ المُختلفةِ في أربعِ قصصٍ هي:
١- قصةُ أصحابِ الكهف:
تتمحورُ هذه السورةُ حولَ فتنةِ الدينِ وكيفَ يُمتحَنُ المرءُ بدينِه من خِلالِ قصةِ أصحابِ الكهفِ المشهورةِ والتي سُمّيتِ السورةُ على اسمِ الكهفِ الذي أوى إليه الفتيةُ الذين آمنوا بربِّهم وزادَهم اللهُ هدى فرارًا بدينهم.
٢- قصةُ صاحبُ الجنتين:
تتناولُ هذه القصةُ فتنةَ المالِ من خِلالِ حوارٍ بينَ رجلٍ مؤمنٍ فقيرٍ وآخر غني يملكُ جنتين واغترَّ بأمواله وتكبّرَ وكفرَ بأنعُمِ ربِّه حتى أهلكَ اللهُ (تعالى) نعمتَه وجعلَها خاويةً على عروشِها.
٣- قصةُ موسى (عليه السلام) مع العبدِ الصالح.
تتحدّثُ قصةُ موسى مع الخضرِ (عليهما السلام) عن بعض قواعد العلم وفروعه؛ فرحلةُ موسى مع العبد الصالح ذكرها القرآنُ بالتفصيلِ مع عِلّةِ وأسبابِ كُلِّ قصةٍ في نهايةِ الرحلةِ ولكن ما يهمُنا في هذه القصةِ أنَّ العلمِ قد يكون من أخطرِ الفِتنِ والاختبارات، فجاءتْ قصةُ النبي موسى وهو نبيٌ ورسولٌ وكليمُ الله يتعلّمُ من الخضرِ (عليه السلام) بما لديهِ من علمٍ لدني باطن لا يستطيعُ النبي موسى (عليه السلام) من خلالِ علمهِ الظاهر أنْ يفهمَه. وفي الرواياتِ أنَّ (موسى سألَ ربَّه هل أحدٌ أعلمُ منّي من الآدميين؟ فأوحى اللهُ إليه: نعم عبدي الخضر، فقالَ موسى (عليه السلام): كيفَ لي بلقائه؟ فأوحى اللهُ إليه أنْ يحملَ حوتًا في متاعِه ويمضي على وجهِه حتى يبلغَ مجمعَ البحرين....)(١) وحين التقاه قالَ: جئتُ لتُعلِّمَني ممّا عُلِّمْتَ رشدًا. قال: إنّي وكِّلتُ بأمرٍ لا تُطيقُه ووكِّلتَ أنتَ بأمرٍ لا أُطيقُه...!)(٢)
وفي رواياتِ العامة (يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْم مِنْ عِلْم الله عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْم مِنْ عِلْم الله عَلَّمَهُ الله لك لَا أَعْلَمهُ).
٤- قصةُ ذي القرنين:
ومحورُ هذه القصة عن فتنةِ الحكمِ والسلطانِ، وكيفَ يعملُ الحاكمُ العادلُ على حمايةِ سلطانهِ من أشرارِ الخلقِ، وذكرتِ السورةُ بالتفصيلِ رحلةَ ذي القرنين من المَشرقِ إلى المَغربِ، وكيفَ استطاعَ بناءَ السدِّ؛ لحمايتِهم من يأجوج ومأجوج.
وبالتأمُلِ في الفِتنِ والابتلاءاتِ أعلاه يتضّحُ لنا ذكر الرواياتِ العديدةِ في عِصمةِ سورةِ الكهفِ لقارئها من الفِتنِ منها ما وردَ عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من قرأها فهو معصومٌ ثمانيةَ أيامٍ من كُلِّ فتنةٍ فإنْ خرجَ الدجّالُ في تلك الثمانيةِ الأيامِ عصمَه اللهُ من فِتنةِ الدجال...)(٣) وأيضًا ما وردَ عن رسولِ اللهِ (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين) قال: (ألا أدلُّكم على سورةٍ شيّعَها سبعونَ ألف ملك، حين نزلتْ ملأتْ عظمتُها ما بينَ السماءِ والأرض؟ قالوا: بلى. قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): سورةُ أصحابِ الكهفِ مَن قرأَها يومَ الجُمُعةِ غفرَ اللهُ لهُ إِلى الجُمُعةِ الأُخرى، وزيادة ثلاثة أيّام، وأعطيَ نورًا يبلغُ السماء، ووُقِيَ فتنة الدجّال)(٤)
ولو دقَّقْنا النظرَ جيدًا في تركيزِ المروياتِ على فضلِ سورةِ الكهفِ وأنّها تقي من فِتنةِ الدجّالِ فإنّنا سنخرجُ بمُحصِّلةٍ واحدةٍ ناتجةٍ من التأمُلِ في القصصِ الأربعةِ في فتراتِها الزمنيةِ المُختلفةِ في اختبارِ المرءِ وفتنتهِ في الدينِ والمالِ والعلمِ والحكمِ وتتأكّدُ أكثر في زمنِ غيبةِ الإمامِ المهدي (عجل الله فرجه) وظهوره. وفي التأمُّلِ في سُبُلِ النجاةِ من كُلِّ فتنةٍ في كُلِّ قصةٍ من القصصِ الأربع فإنّها حتمًا ستُعطي للمُنتظِر حصانةً من فِتنةِ الدجال.
وفي التدقيقِ أكثر في هذه القصصِ الأربع وجدنا ارتباطَها الوثيقَ بالإمامِ المهدي (عجل الله (تعالى) فرجه الشريف)، ففي قصةِ أصحابِ الكهفِ واختبارِ العبدِ بدينِه نرى بوضوحٍ كيفَ يعيشُ المُلتزمون في آخرِ الزمان؛ فهم كما قالَ رسولُ اللّه‏ (صلى الله عليه وآله): (يأتي على الناسِ زمانٌ الصابرُ منهم على دينِه كالقابضِ على الجمر)(٥)
ولهذا جاءَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): (يخرجُ مع القائمِ (عليه السلام) من ظهرِ الكعبةِ سبعةٌ وعشرون رجلًا، خمسة عشر من قومِ موسى (عليه السلام)، الذين كانوا يهدون بالحقِّ وبه يعدلون، وسبعةً من أهلِ الكهف، ويوشعَ بن نون وأبا دُجانة الأنصارى، ومقداد ومالك الأشتر، فيكونون بينَ يديه أنصارًا وحكام)(٦).
أما قصةُ صاحبِ الجنتين وكُفرُه بنعمةِ اللهِ (تعالى) وعدمُ شكرِها فقد جاءَ في الآيةِ الحاديةِ والأربعين: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) والماءُ الغورُ كنايةً عن غيبةِ الإمامِ بأبي هو وأُمّي، وذُكِرَ مرتين في القرآن في سورة الكهف/٤١ وفي سورة الملك/٣٠ (قل أرأيتم إنْ أصبحَ ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماءٍ معين) سُئل الإمامُ الرضا (عليه السلام) عن قولِ اللهِ (عز وجل): (قلْ أرأيتُم إنْ أصبحَ ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماءٍ معين) فقال (عليه السلام): ماؤكم أبوابُكم، أيّ الأئمةُ، والأئمةُ أبوابُ اللهِ بينَه وبينَ خلقِه (فمن يأتيكم بماءٍ معينٍ) يعني يأتيكم بعلمِ الإمام)
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قولِ اللهِ (عز وجل): (قلْ أرأيتُم إنْ أصبحَ ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماءٍ معين) قال: إنْ غابَ إمامُكم)(٧)
والمعنى أنَّ كفرانَ النعمِ والتغطرسَ والظلمَ والتكبُّرَ مدعاةٌ لرفعِ رحمةِ اللهِ (تعالى) بالبشرِ بأنْ يغيّبَ عنهم حجته.
أما قصةُ موسى والخضر (عليهما السلام) وفتنةُ العلمِ، فالخضرُ في القصةِ كانَ لديه العلمُ الباطني الذي لم يعرفْه موسى (عليه السلام) الذي كان لديه العلم الظاهري في تلك الحوادث، وهو معنى قوله لموسى في الرواية: (إنّي وكِّلتُ بأمرٍ لا تُطيقُه) كما مرَّ سابقًا. وهُنا خصوصيةُ الحكم ببواطنِ الأمور دونَ سؤالِ الدليل والبينةِ من صفاتِ الإمامِ المهدي (عجل الله (تعالى) فرجه) عندَ الظهورِ، فعن أبى محمد (عليه السلام): (القائمُ إذا قامَ، قضى بينَ الناسِ بعلمهِ كقضاءِ داود (عليه السلام)، لا يسألُ البينةَ)(٨)
كما أنّ للخضر (عليه السلام) دورًا مهمًا مع الإمام المهدي (سلام الله عليه) في غيبتِه وحتى عندَ ظهورِه، ففي حديثٍ طويلٍ: (سيؤنِسُ اللهُ بهِ وحشةَ قائمِنا في غيبتِه ويصلُ به وحدتَه)(٩).
أما قصةُ يأجوج ومأجوج والسدِّ الذي بناه ذو القرنين فالرواياتُ أكّدتْ أنّ هذا السدَّ سيُدَكُّ في زمنِ الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وسيقضي على يأجوج ومأجوج ضمنَ أحداثِ آخر الزمان (قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)(الكهف/٩٨) (إنّ السدَّ المعنوي والمادي يندكُّ بظهورِ المهدي (عليه السلام))(١٠).
وبلحاظِ ما تقدّمَ فإنَّ الفِتنَ التي ذكرتها قصصُ سورةِ الكهف الأربع (فِتنة الدين والمالِ والعلمِ والحكمِ والسلطان). وبالتمعُنِ في تلك القصصِ ومعرفةِ سبلِ التعامُلِ مع تلك الامتحاناتِ والابتلاءاتِ هو السبيلُ للتحصُّنِ من فِتنةِ الدجّالِ الذي يلبسُ الحقَّ بالباطلِ ويخدعُ كثيرًا من خلقِ الله (تعالى) بالمظاهرِ البرّاقةِ ولهذا يُستحبُّ قراءتُها في ليلةِ الجمعةِ ويومِها ليقيَ فتنةَ الدجّالِ آخرَ الزمانِ.
ومن اللطائفِ أنَّ يومَ الجمعة مُخصّصٌ للإمامِ المهدي (عليه السلام) ومُتوقّعٌ فيه ظهوره. وعلى ذلك فإنّ تسميةَ السورةِ بالكهفِ هي كنايةٌ عن المكانِ الآمنِ الذي يلجأ إليه من يفِرُّ بدينِه ويُقاومُ الظلمَ حتى يأتيَ اللهُ بأمرِه. وهذا الكهفُ في زمنِ الغيبةِ هو الإمامُ المهدي (عليه السلام) فهو كهفُ سورةِ الكهف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١)تفسير التبيان، ج٧، ص٦٨.
(٢)تفسير الصافي،ج٣، ص٢٦٤.
(٣)مجمع البيان، ج٦، ص ٢٧٣.
(٤)تفسير الأمثل، ج٩، ص١٨٧، ح١.
(٥)أمالي الطوسي ، ص٤٨٤ ـ ٤٨٥، ح ١٠٦٠.
(٦)تفسير نور الثقلين، ج٣، ص ٢٧٤، ح٤٠.
(٧)راجع بحار الأنوار، ج ٢٤، ص ١٠٠.
(٨)تفسير نور الثقلين، ج٣، ص٤٧٠.
(٩)معجم أحاديث الإمام المهدي، ج٤، ص١٦٣.
(١٠)المصدر السابق، ج ٥، ص٢٣٧.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبير المنظور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/03/20



كتابة تعليق لموضوع : كهفُ سورةِ الكهف
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net