اعترافات الملازم زكي / 12
راضي المترفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
راضي المترفي

عقارب الساعة تقترب من اخر دقائق الساعة الرابعة والعشرين من يوم الثلاثين من نيسان وعيون الجنود تبحلق بالمجهول واذانهم تتصيد كل نأمة شاردة والقلق يداهم النفوس بجيوش الوساوس فتتصارع بداخلها الامال والخوف والمجهول القادم وذكريات المواجهات السابقة تفرض نفسها ووجودها على كل خلايا الدماغ وتحاصرها بذكرى من ماتوا فيها او تعوقوا او وقعوا بالاسر او اعدموا وتحاصرهم بمرارة لازالت عالقة باذهان من خاضوا تلك المواجهات وخرجوا منها سالمين او بخسائر طفيفة او بجروح شفيت سريعا واعيدوا الى السواتر بعدما كتبت اللجان الطبية في المستشفيات العسكرية على اوراق اصابات كل واحد منهم ( اكتسب الشفاء التام ) .
في تلك اللحظات العصيبة المشبعة بالخوف والمثقلة بانتظارات مفضية عادة الى موت وجروح ونزف ودماء يقف المقاتل امام امام شريط حياته بالكامل فيبكي حسرة على عمر كتب له ان يعيشه في هذه البقعة المبتلاة بتسلط اسافل اهلها على غيرهم فيندم على قرارات لم يتخذها واحلام لم يتحقق ابسطها وهوان لايكون من اهل هذه البقعة من الارض رغم حبه لها وتعلقه بها ويرى الاحداث من زاوية من يقف على خط فاصل بين بين رحيل ابدي يفرض قسرا وبقاء غير محمود مع استلاب القدرة على اتخاذ القرار فتمر احداث الطفولة .. اترابها .. ملاعبها .. مرابعها .. افراحها.. خيباتها .. ثم الشباب وارهاصاته وقدرة المتسلطين على سرقة اجمل السنوات فيه وبعثرة الباقي بين مساطر العمال والجري خلف لقمة العيش واسكات البطون التي لاعهد لها بالبشبع منذ امد طويل اضافة لمصادرة كل انواع الحرية - لكن التفكير والوقوف مع الذات يختلف من جندي الى اخر باختلاف النشأة والتكوين والتربية رغم اشتراكهم جميعا بقضية شبابهم المسروق وسنواته التي تحولت الى حطب في محارق حروب لاتنتهي والعيش في مناطق القتال وسواترها الموحشة الكئيبة التي غالبا لاتتيح لمن يكتب عليه الموت فترة حشرجة ولفظ انفاسه الاخيرة بهدوء وسط من يحبهم ويحبونه والقاء نظرة وداع وترك وصية او طلب اخر شيء يتمنى تحقيقه في حياته وانما تنتهي الحياة من جراء الالم الحاصل من اختراق رصاصة او شظية فرضت نفسها ودخولها على الجسد عنوة يؤطرها الالم ويتبع مسار دخولها النزف وترادفها النظرات البائسة .. واحيانا تؤدي حراب البنادق في الاشتباك القريب مع جنود من الطرف الاخر لاتعرفهم ولم يكن بينك وبينهم اختلاف او غضاضة او حتى ادنى معرفة سابقة اللهم عدى رغبة المتسلطين بقتل الطرفين بطرق بشعة تؤدي فعل الرصاصة والشظية بدقة اعلى ونزف اكثر . وتتساوى او تتقارب حظوظ كل من ولدوا في العراق من الفقراء في الفترة الممتدة من بداية النصف الثاني من القرن العشرين او كما اصطلح على اطلاق تسمية ( الخمسينات ) عليهم وتصاعديا بعدهم ولفظ اغلب هؤلاء انفاسهم الاخيرة في سواتر ومعارك توزعت على الاردن والجولان والشمال ولبنان وبموت اغلبهم او ماتبقى منهم اليوم في سواتر قادسية بطل التحرير وصانع النصر والسلام وحامي البوابة الشرقية كما يحلو له ان يناديه بهذه الالقاب المتملقين وجمال الغيطاني وامير اسكندر في حين تقول حقيقته انه ابن العوجه .
في هذه السواتر يتجول الموت بحرية يخطف الارواح يمينا وشمالا لايأبه لتوسلات ام او رجاء اب او تضرع طفل او دعوة حبيب ويعمل كانه آلة صماء تنفذ اوامر عبأت بها من دون نقاش او تفكر .
ذهب محسن برفقة ياسين الى بدرة لزيارة ماجد ومعرفة اسباب سجنه وعندما شاهدهم على باب السجن انهمرت الدموع من عينيه فاحتضناه وبكوا جميعا واقسم لهم انه لم يشتم احدا مطلقا لكنهم رتبوها وفروها عليه لانهم ارادوا طابوق من معمل ابيه ولم يستطع هو اعطائهم بسبب عدم موافقة ابيه على اعطاء طابوق من دون ثمن .
جلس بينهم وقص عليهم ماجرى له وقد يصلح ان يكون مادة لفيلم فنتازيا او موضوعا لسخرية مرة .
قال ماجد ..
كنا جالسين في الموضع انا وجنديان ننتظر استلام نماذج الاجازة بعد ان دفعنا المتفق عليه تحت عنوان ( تبرع ) وكان يدور بيننا حديثا عاديا حول الجيش والحرب وكيف يموت الشبان فيها فقلت انا : لماذا نحاربهم وما سبب الحرب بيننا وبينهم وماذنب من يقتلون وهم في عز الشباب ؟ ولماذا كتب علينا ان نعيش في هذه السواتر وجحورها كأننا جرذان ندخل مذعورين ونخرج خائفين الى ان تحسم رصاصة حياة احدنا ومن دون مبرر او سبب واضح ؟ وتكلموا هم في سياق الموضوع نفسه من دون ان يكون بيننا خلاف او جدال بعدها دخل الموضع احد الضباط وسألنا عن سبب جلوسنا فأخبرناه بانتظارنا لاستلام اجازاتنا فقام بشتمنا وتعنيفنا ومن ثم بارسالنا للساتر وقال
: عندما توقع اجازاتكم من قبل السيد الامر تستلمونها هناك وزجرنا بقوة وقال انتم تتهربون من الحرب لانكم خونه و.... وهناك في الساتر بعد ساعة او ساعتين جاء من يبحث عني واحضاري الى مقر الفوج وبدلا من تسليمي الاجازة اودعت السجن ولااعرف السب حتى استدعاني رئيس المجلس التحقيقي المشكل في الوحدة لتدوين افادتي وفاجأني بسؤال .. لماذا شتمت السيد الرئيس ؟ ثم شتمني كثيراوانهال علي ضربا بعصاه ولما تكسرت استخدم كلتا يديه وهو يصفنا بالخونة وعدم استحقاق العيش لاننا ننكر فضل السيد الرئيس علينا وسعيه لاستعادة كرامتنا والعمل على سعادتنا . انتظرته يتعب من ضربي ويتوقف لاسأله عن من سمعني ومن رآني وماهي المناسبة وكيف ؟ لكنه لم يتعب حتى اغمي علي ولم افق الا وانا بالسجن و جسمي مليء بالكدمات واثار الضرب الموجع باليد والعصا وحاولت ان استفسر لكن من من ؟ ومن يجيب على اسئلتي وانا الذي اصبحت كالمصاب بالتدرن او الجرب يخاف من يقترب مني الاتهام بشراكته معي وبقيت على هذه الحال اسبوع بعدها فعلوا بي مثل اول مرة عصبوا عيني وربطو يدي وارسلوني الى سجن الكوت المركزي وهناك في ذلك السجن ندمت على اليوم الذي ولدت فيه وتمنيت ان امي لم تلدني فقد رايت من صنوف العذاب ما لايمكن وصفه ولايصدقه الا من عاش تلك المأساة ومفردات عمل اليوم بالنسبة للجلادين هي .. فلقه .. تعليق بالمروحة .. كهرباء .. حفلة ضرب العصي ..السياط .. اغراق ارضية السجن بالماء عند النوم .. التحقيق وهكذا مر شهر كامل كأنه قرون او سنوات طويلة حملت نفسي من الاثار النفسية والجسدية ما لايمحى لعشرات السنين وقد انسى اني اتهمت بشتم ... لكن لن ولم انسى تلك الليالي التي كان يطل بها جلاد يتصنع الابتسام ويوزع نظره بيننا كأننا خراف في ساحة بيع يختار الاسمن منها .. كان الامر في غاية البساطة عندهم اذ عادة مايتناول الجلادون الخمر وعندما يتلاعب برؤوسهم وتمتلآ هذه الرؤوس العفنة بشهوة القتل والتعذيب فيدخلون القاعات ليختاروا من يمارسون عليه ساديتهم وامراضهم وعقدهم وجنونهم وفي المحصلة النهائية تستمر حفلاتهم وجنونهم حتى الصباح ولاتطل ساعات الفجر الا وارضيات قاعات السجن لايوجد من ينام او يتمدد فوقها اللهم الا من فقد وعيه اثناء التعذيب ورماه الجلادون ولم يستعيده بعد في حين يتوزع الجميع بين التعليق بالمراوح او الربط للشبابك او على حصان الفلقه او أي وسيلة من وسائل تعذيبهم ..
وجدت قبلي في سجن الكوت احد السذج كان قد رزق ببنت فسماها ( قادسية ) فكتب احد البعثيين عليه تقريرا وذكر ان سبب التسمية كان للاستهزاء بقادسية صدام فأعتقل واجري معه تحقيق في وحدته ومن ثم ارسل الى سجن الكوت وكان هذا المسكين بطل حفلات الجلادين في كل ليلة وعلى مدار شهر اقمته هناك كان احد الجلادين رحيما به جدا اذ لم يصفعه او يركله او يعلقه بالمروحة او بالفلقة قط وكل ماكان يعمله له انه في اول الليل يأتي هذا الجلاد الحنون ومعه ( البلايس ) او الكلابتين ويخلع له ضرسا واحدا فقط من دون تخدير او عمل مايقوم به اطباء الاسنان فقط يكبل يديه ويربطه الى شباك القاعة ويوجه له لكمة قوية على فكه ثم يمد آلته ويستل السن تحت صراخه العنيف من الالم ويرميه في الارض ثم يسحقه بحذائه ويبصق على الرجل المتلوي من الالم كطير مذبوح ويمضي في ممر القاعة الطويل تتبعه قهقهاته السمجه وهكذا في ثلاثين يوم كان فم الرجل ابو قادسية كفم طفل لكن الفارق ان لثته تورمت والم كسور فكيه لايتركه ومثلما جافت عينه النوم فقدت معدته اخر عهد لها بالطعام مما جعل ذهنية احد الجلادين تتفتق عن سبب جديد لزيادة تعذيبه بحصص اضافية تحت دعوى الاضراب عن الطعام مما كان يدعوهم للتجمع عليه وحشو الطعام في فمه المريض مع الضربات والركلات التي يوزعونها على انحاء جسده بايدي واقدام لاتعرف الرحمة او الانسانية حتى تهاوى وانهار نهائيا وفقد الوعي وهو الشاب القروي ذو الجسم القوي فاضطروا الى نقله الى ردهة مستشفى السجن ومن هناك انقطعت اخباره ولااعرف هل مات او لازال على قيد التعذيب وكان اغلب من في السجن لاتتعدى تهمهم او جرائمهم هذا النوع ونسبت اليهم اما من خلال تقرير كتبه رفيق او وشاية او شك او غيرها من هذه التوافه وربما كنت اتصور عند ترحيلي الى سجن الكوت انهم سيستمعون لكلامي ويصدقون ما اقول فيعتذرون مني ويعيدونني الى وحدتي مع توصية بأني لم اشتم الريس وعليه يجب احترامي ومنحي اجازتي وتطييب خاطري لكنهم استقبلوني بعكس ماتوقعت اذ بمجرد استلام المأمور كتابه جرني احدهم من كتفي مع صفعه لم احصل على مثلها من معلم ايام الابتدائية شعرت معها ان عيني خرج منها النظر مع دخان الصفعة واردفها بركلة على مؤخرتي ثم دفع بكلتا يديه على ظهري لاسقط ارضا وسيل من السباب وتأكيد بأن الخونه لايستحقون الحياة ثم عملو لي حفلة استقبال شارك بها جميع الجلادين وتركوا بصماتهم على جسدي المتهاوي تحت ضرباتهم الوحشية .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat